معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 28 يوليوز/ تموز 2022
فيجاي براشاد*
برزت بكل وضوح في الأشهر الأخيرة مدى هشاشة إمدادات الطاقة في أوروبا، بحيث تم تخفيض شحنات الغاز المحمولة عبر خط الأنابيب نورد ستريم 1 – الذي يمتد من روسيا إلى ألمانيا – إلى حوالي 40% من طاقته مقارنة مع يونيو/ حزيران، وهو تقلص بررته روسيا بأنه راجع إلى تأخر خدمة التوربينات المقدمة من قبل شركة سييمنس الألمانية. بعد ذلك بوقت قصير وبالضبط في 11 يوليوز/ تموز تم توقيف خط الأنابيب عن العمل لعشرة أيام بداعي الصيانة الروتينية السنوية، وهو الأمر الذي واكبته تطمينات من موسكو بأن الإمدادات ستستأنف مثلما هو مقرر لها، لكن ذلك لم يطمئن القادة الأوروبيين الذين عبروا عن مخاوفهم من استمرار الإغلاق إلى أجل غير مسمى كنوع من الرد على العقوبات المفروضة على روسيا في أعقاب غزو روسيا. استأنف الغاز الروسي تدفقه إلى أوروبا في 21 يوليوز/ تموز، لكن حسب كلاوس مولر، رئيس هيئة تنظيم الطاقة في ألمانيا، فإن تدفقات الغاز عبر نورد ستريم 1 أصبحت أقل مما كانت عليه قبل الصيانة خلال الساعات القليلة الأولى من الاستئناف، على الرغم من أنها عادت الآن إلى 40% من طاقتها.
ترتبط المخاوف الأوروبية المتعلقة بإمدادات الطاقة بقلق حكومات المنطقة من تزايد مستويات عدم الاستقرار في من منطقة الأورو. شهد نفس اليوم الذي استأنف فيه خط أنابيب نورد ستريم 1 عمله استقالة رئيس الوزراء ماريو دراجي من منصبه، وهو حلقة أخرى من سلسلة طويلة من الاستقالات التي ضربت رؤساء الحكومات في كل من بلغاريا وإستونيا والمملكة المتحدة. تأتي المحاولات الأوروبية لمقاومة خطة السلام مع روسيا في ظل اعتراف أوروبي بأن التجارة مع روسيا هو أمر لا مفر منه.
لطالما كنا في “لا للحرب الباردة“، وهي منصة دولية تسعى إلى إعادة تحكيم العقل في العلاقات الدولية، نراقب عن كثب التغيرات التي تمخضت عن الحرب في أوكرانيا وحملة الضغط التي تقودها الولايات المتحدة ضد الصين. لقد سبق وأن نشرنا ثلاث إحاطات سابقة من هذه المنصة في مراسلاتنا السابقة، ويمكنك الاطلاع أدناه على الإحاطة الرابعة تحت عنوان “العالم لا يحتاج حلف شمال أطلسي عالمي” والذي يعرض تفاصيل واضحة لجنوب الكرة الكرة الأرضية فيما يتعلق بالمحاولات الأمريكية-الأوروبية للدفع بأجندة عدوانية حول العالم. لا تتعلق هذه التوضيحات بعسكرة الكوكب فحسب، بل تتناول أيضا تعمق النزاعات في التجارة والتنمية والتي ظهرت بوضوح من خلال تبني مبادرة مجموعة السبع الجديدة والشراكة من أجل البنية التحتية والتنمية العالمية والتي تستهدف بوضوح مبادرة الحزام والطريق الصينية.
اجتمعت، في يونيو/ حزيران، الدول الأعضاء في منظمة حلف الشمال الأطلسي (الناتو)في مدريد الإسبانية ضمن فعاليات قمتها السنوية، وقد عرفت هذه القمة تبني الناتو مفهوما استراتيجيا جديدا، والذي تم تحديثه آخر مرة في عام 2010، يتضمن وصف روسيا بأنها “تهديد مباشر والأكثر أهمية” واعتبار الصين بأنها “تحد لمصالحنا”. تمثل هذه الوثيقة التوجيهية حسب الأمين العام لحلف الناتو، جينس ستولتنبرغ، “تحولا أساسيا” للتحالف العسكري، و”أكبر إصلاح له… منذ الحرب الباردة”.
عقيدة مونرو للقرن الواحد والعشرين؟
على الرغم من ادعاءات حلف الناتو بأن التحالف هو ذو طابع “دفاعي”، إلا أن هذه الادعاءات تتهاوى مع الإرث المدمر للحلف – كما هو الحال مع صربيا (1999) وأفغانستان (2001) وليبيا (2011) – وبصماته العالمية المتزايدة. أوضح الناتو في قمته الأخيرة أنه ينوي مواصلة توسعه في سبيل مواجهة روسيا والصين، كما أعلن الحلف، الذي بدى غافلا عن المعاناة الإنسانية الهائلة التي سببتها الحرب في أوكرانيا، أن ” توسعه يعتبر بمثابة نجاح تاريخي… وساهم في السلام والاستقرار في المنطقة الأوروبية الأطلسية”، ووجه دعوات من أجل الالتحاق بالحلف كأعضاء لكل من فنلندا والسويد.
ومع ذلك، فإن أهداف الناتو تمتد إلى ما هو أبعد من “أوروبا الأطلسية”، لتصل إلى مختلف بلدان الجنوب بما في ذلك أسيا التي يريد أن يكون له فيها موطئ قدم، وهو الأمر الذي يعمل عليه من خلال ترحيبه باليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا ونيوزيلندا كمشاركين في القمة للمرة الأولى وذكر أن “المحيطين الهندي والهادئ مهمين لحلف الناتو”. علاوة على ذلك، وفي إطار الصدى الذي خلفه تبني مبدأ مونرو (1823) قبل حوالي مئتي سنة، إطلاق المفهوم الاستراتيجي “الجزار الجنوبي للحلف الأطلسي” على “إفريقيا والشرق الأوسط”، هذا وأشار ستولتنبرغ بشكل ينذر بالسوء إلى أن “نفوذ روسيا والصين المتزايد في الجوار الجنوبي للتحالف يمثل تحديا”.
يسعى حوالي 85% من العالم نحو السلام
على الرغم من الاعتقاد السائد لدى الدول الأعضاء في الناتو بأنهم يمتلكون سلطة عالمية، إلا أن الغالبية العظمى من العالم لا تمتلكها. يشير الرد الدولي في تعاطي مع الحرب الأوكرانية إلى وجود تقاسم صارخ بين الولايات المتحدة وأقرب حلفائها من جهة والجنوب العالمي من جهة أخرى.
رفضت حكومات تمثل 6.7 مليار شخص – 85% من سكان العالم – اتباع العقوبات التي فرضتها الولايات المتحدة وحلفاؤها ضد روسيا، في وقت سارت في هذه الإجراءات دول تمثل 15% من سكان العالم. وفقا لرويترز، فإن الحكومات الغير غربية الوحيدة التي سنت عقوبات على روسيا هي اليابان وكوريا الجنوبية والباهاماس وتايوان – كلها تستضيف سواء قواعد عسكرية أو أفرادا كخبراء عسكريين.
كما أن الضغط الذي قادته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من أجل إغلاق المجال الجوي أمام الطائرات الروسية لا يحظى بالدعم الكافي، وهو الأمر الذي تجلى في أن حكومات تمثل 12% فقط من سكان العالم هي من تبنت هذه السياسة، في حين حكومات الـ 88% الباقية لم تقم بذلك.
لم تنجح الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لعزل روسيا سياسيا عن المسرح الدولي. عرفت الجمعية العمومية للأمم المتحدة، في مارس، التصويت على قرار غير ملزم لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا، حيث صوتت 141 دولة لصالحه و5 ضده وامتنعت 35 دولة عن التصويت وغياب 12 دولة. مع ذلك فإن هذا العدد لا يروي القصة الكاملة، لا سيما إذا أخذنا في الحسبان أن الدول التي صوتت ضد القرار أو امتنعت أو غابت عن التصويت تمثل 59% من سكان العالم. بعد هذا التصويت، تم تجاهل دعوة إدارة بايدن لاستبعاد روسيا من قمة مجموعة العشرين في إندونيسيا.
في ظل كل هذه القرارات والمحاولات المكثفة من الدعم المكثف من حلف الشمال الأطلسي، إلا أن الجهود المبذولة لكسب التأييد لأوكرانيا في الجنوب العالمي لقيت فشلا ذريعا. في 20 يونيو/ حزيران، وبعد عدة طلبات، خاطب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي الاتحاد الإفريقي في اجتماع حضره اثنان فقط من رؤساء الدول الأعضاء الخمسة والخمسين بالمنظمة القارية. بعد ذلك بوقت قصير، رُفض طلب زيلينسكي بمخاطبة الكتلة التجارية لأمريكا اللاتينية Mercosur.
من الواضح أن ادعاءات الناتو بأنه “حصن للنظام الدولي القائم على قواعد” ليس وجهة نظر يتقاسمها معظم العالم. إن دعم سياسات التحالف العسكري محصورة بشكل كبير على الدول الأعضاء فيه وعدد قليل من الحلفاء الذين يشكلون معا أٌلية صغيرة من سكان هذا الكوكب، لا سيما وأن معظم الشعوب ترفض سياسات الناتو وتطلعاته العالمية ولا يرغبون في تقسيم المجتمع الدولي إلى كتل حرب باردة عفا عليها الزمن.
بعد عشر سنوات من قيام الولايات المتحدة بإلقاء قنبلة ذرية على هيروشيما (اليابان)، وبالضبط في عام 1955، كتب الشاعر التركي ناظم حكمت قصيدة عن فتاة تبلغ من العمر سبع سنوات ماتت بسبب هذا العمل العدواني الرهيب. ترجم نوبويوكي ناكاموتو القصيدة لاحقا إلى اليابانية معنونا إياها بـ”شيندا أوننانوكو” (“الفتاة الميتة”)، وتم غناؤها غير ما مرة في إحياء ذكرى تلك الفظائع. نظرا لقسوة الحرب وتصاعد الصراع، من المفيد التفكير مرة أخرى في كلمات حكمت الجميلة والمروّعة في نفس الوقت:
جئت ووقفت عند كل باب
لكن لا أحد يسمع طرقي الصامت.
أطرق ولا زلت غير مرئية
لاني ميتة، لاني ميتة.
أنا في السابعة من عمري فقط، رغم ذلك مت
في هيروشيما منذ زمن بعيد.
أنا الآن في السابعة مثلما كنت في ذلك الوقت.
عندما يموت الأطفال، فإنهم لا يكبرون.
احترق شعري باللهب المتطاير.
قل نظري؛ انطفأت عيني.
جاء الموت وحول عظامي إلى تراب
ثم تبعثر كل ذلك بفعل الريح.
لست بحاجة إلى فاكهة ولست بحاجة إلى أرز.
لست بحاجة للحلويات ولا حتى الخبز.
لا أطلب شيئا لنفسي
لاني ميتة، لاني ميتة.
كل ما أطلبه هو أن يحل السلام
أنت تقاتل اليوم ، تقاتل اليوم
حتى يكون أطفال العالم
قادرين على العيش والنمو والضحك واللعب.
* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 28 يوليوز/ تموز 2022.