سردية الجياع في حواضر ومداشر المغرب بين هشاشة التضامن والاتجار السياسي

مشاركة المقال

مدار: 30 أيلول/ سبتمبر 2021

رغم غياب معطيات إحصائية رسمية تلامس واقع آفة الجوع بالمغرب، وغيره من مظاهر اختلال السيادة الغذائية، إلا أن مؤشرات كثيرة تقطع الشك باليقين بخصوص معاناة فقراء المملكة، وهم فئة واسعة على أي حال، من أزمة حقيقية في ما يخص سد الرمق، أبرزها الفاجعة التي شهدتها قرية سيدي بولعلام بإقليم الصويرة سنة 2017، حيث تحولت عملية توزيع مساعدات غذائية على مواطنين إلى كارثة إنسانية أودت بحياة 15 امرأة خلفن 44 يتيما، فقط في سبيل تحصيل كيس دقيق وعلبتي شاي وقهوة ولتر من الزيت وشيء من السكر، وهي مواد لا تربو قيمتها السوقية الإجمالية عن 16 دولارا؛ وذلك بعد تدافع عنيف وتسابق هستيري على الظفر بسلة الغذاء قبل نفاد المؤونة المرصودة.

والمساعدات التي تسببت في كارثة قرية سيدي بولعلام جاءت في سياق واحدة من حملات التضامن التي تنظمها هيئات المجتمع المدني، إلى جانب أخرى تنظمها الدولة، خاصة في المناسبات الدينية، وتشكل مصدرا لسد رمق الجوعى، إلا أن طابعها الموسمي لا يمكنها من استئصال الآفة، مع أنها تستعمل في كثير من الأحيان لشراء ولاء الفقراء والمهمشين لأغراض انتخابية أو لمآرب أخرى، ويبقى المعول عليه بالنسبة للمعوزين هو  التضامن الشعبي بكافة أشكاله، وبعض المؤسسات الخيرية التي تعرف الهشاشة، مع أزمات التسيير والتمويل، ويبقى كفاحهم ضد جوعهم في كافة الربوع- في المركز كما في الهامش- مستمرا مع استمرار أسباب الحرمان التي تقف وراءه، وأهمها غياب العدالة والحماية الاجتماعيتين.

كازابلانكا..واجهة الثروة والبذخ تخفي غابة الجوع

ترمز الدار البيضاء إلى “الشموخ” الاقتصادي للمغرب، فهي المدينة الاقتصادية الرئيسية والقطب الصناعي الأضخم وبوابة المملكة على العالم، بمينائها ومطارها الكبيرين، وتساهم في الثلث الناتج المحلي الإجمالي الوطني؛ ومع ذلك تخترق سكانها الذين يعدون بالملايين تفاوتات اجتماعية هائلة، إذ مزال أناس كثيرون فيها يئنون تحت وطأة الجوع، الذي تعمّق مع جائحة كوفيد 19؛ أما حين يتقاطع الإملاق مع الحرمان من السكن فإن ذلك يكشف ترابط “القوة الاقتصادية” مع تفشي المآسي والحرمان.

شارع الحسن الأول، الدار البيضاء، صورة: مدار.

فور الوصول إلى وسط المدينة، تصطدم بالأبراج الشاهقة، والمئات من مقرات الشركات والمتاجر والفنادق التي تحمل أسماء أقوى الماركات العالمية، وفي كل زاوية العشرات من المواطنين الذين يتسابقون للحاق بوسائل النقل المتنوعة، ناهيك عن السيارات الخاصة. لن تجد مثل هذه المشاهد في باقي مناطق البلاد، خصوصا تلك التي سماها الاستعمار الفرنسي سابقا “المغرب غير النافع”. هنا في المركز النافع كل شيء يحيل على أن المدينة لا يمكن أن تنتمي إلى بلد يصنف ضمن بلدان “العالم الثالث” أو السائرة “على طريق النمو”. ويكاد المغاربة يجمعون على أن السلطة المركزية في هذا البلد الشمال إفريقي بارعة في تزيين الواجهات، وإعطاء الانطباع لغير العليم بخبايا المغرب بأن كل شيء “على خير ما يرام”.

وفور التحرك وسط شوارع وأزقة العاصمة الاقتصادية تتكسر الصورة الأولى المعهودة أيضا في الإعلام العمومي والصحافة شبه الرسمية؛ في الزاوية عربة يجرها شخص يطلق عليه “الميخال”، وهو وصف يلاحق من اعتادوا العيش مما يجمعونه من صناديق النفايات، بدءا من بقايا الطعام المهدورة إلى قنينات الجعة الفارغة، أو الأجهزة المعطلة… و”الميخالا”، في غالب الأحيان، أشخاص محرومون اجتماعيا، لا يتوفرون على مسكن لائق، يعيشون في الهامش، وعادة ما يتجمعون في الليل، في المقابر والأماكن المنزوية والمهجورة، بحثا عن الدفء أو من أجل قضاء الليلة وفق ما توفره الإمكانيات، أو ما جادت به صناديق النفايات، وهي أماكن عادة ما يلتقي فيها هؤلاء بالمتسولين الذين يعتاشون بما يجود به المواطنون، ناهيك عن آخرين حملتهم أسبابهم الخاصة إلى هاته النقاط المظلمة.

 قال أحد العاملين في القطاع الصحي العمومي لــ”مدار” إن أمثال هؤلاء الأشخاص عادة ما تستقبل أقسام المستعجلات العديد منهم يوميا، بعد أن يصيبهم تسمم ناتج عن تناول طعام فاسد، أو تعاطي كحول سام؛ وفي بعض الأحيان تأتي نساء حوامل بغرض الوضع، وينتهين بالتخلي عن الرضيع أو محاولة التخلص منه، مؤكدا أن هذه الفئة غالبا ما تصاب بأمراض جنسية خطيرة كداء فقدان المناعة المكتسبة – السيدا، أو الزهري أو التهاب الكبد الوبائي..

يعيش العديد من هؤلاء في “الكاريانات”، وهي أحياء “عشوائية” أو “دور صفيح” بناها أساسا فلاحون قدموا من مختلف مناطق البلاد للعمل في الأحياء الصناعية والموانئ وبعض قطاعات الخدمات، في إطار ما يسميها الإعلام الرسمي “مخططات الإقلاع الاقتصادي”. كانت البرامج الصناعية في هذه المدينة بحاجة إلى يد عاملة رخيصة وغير مؤهلة، تشتغل دون عقود عمل أو حقوق شغلية، فيظل العمال يكدحون ساعات طوال مقابل أجر لا يسد رمقهم، ويضطرون لبناء دور من الصفيح لا تتوفر فيها ابسط شروط السكن من ماء وكهرباء ومجاري صحية، من أجل إيواء عائلاتهم. ومع تحول الدار البيضاء الى أكبر مدينة اقتصادية في المغرب، صار العمال يقدرون بمئات الآلاف وتحولت دور الصفيح إلى مدن للصفيح أحاطتها السلطات بأسوار تخفي حجم المأساة وتعفي السياح من رؤية واقع البؤس الاجتماعي في الجهة الموالية للمصانع والمراكز السياحية. وبعد اتساع المدينة وزحف العمران أصبحت هذه المناطق الكبيرة مستهدفة من قبل مافيا العقار التي تعمل على استصدار أحكام وقرارات بطرد السكان من منازلهم، أحيانا بتعويض بسيط وأخرى دونه، من أجل تشييد “المولات” والفنادق والمشاريع العقارية الفخمة على أنقاضها.

والأحياء “العشوائية” أو “الصفيحية”، هي بمثابة جحيم خلال شهر الصيف الذي يتميز في المغرب بالارتفاع الكبير لدرجة الحرارة، أما خلال فصل الشتاء فتتحول إلى مستنقعات، نظرا لغياب البنى التحتية اللازمة لصرف المياه العادمة ومياه الأمطار.

واللافت أن العمليات الإرهابية التي نفذها يوم 16 مايو/ أيار سنة 2003 14 شابا تتراوح أعمارهم بين 20 و24 سنة، وجاءت من قلب أحزمة البؤس المشار إليها، وبالضبط من الحي الصفيحي “طوما”، استهدفت بواسطة أحزمة متفجرة مطعمين، هما مطعم “دار إسبانيا”، ثم مطعم إيطالي بالقرب من “دار أميركا”، مع فندق “فرح” (5 نجوم) ومركز اجتماعي يهودي كان مقفلاً في ذاك اليوم، وانتهاء بمقبرة يهودية قديمة، وقنصلية بلجيكا..ألا تنبعث رائحة الجوع من هذا العمل الإرهابي؟.

مع مخاطر أن تكون هكذا أحياء منبعا للعناصر الإرهابية، تشكل نموذجا فارقا للحرمان الاجتماعي على مستويات عدة؛ بينما يكابد سكانها لمواجهة الجوع، ذلك التهديد المخيف الذي يؤرق أرباب الأسر دائما، لكنه يشتد تغولا مع الأزمات وأوقات الشدة، كما يحدث الآن مع جائحة كورونا.

الجوع يشتد وطأة في اتجاه الهامش

في قرية أولاد الصغير بإقليم سطات، التي تبعد بضع ساعات عن الدار البيضاء، التقينا الطفل محمد، الذي يشارف على سن السابعة، رغم أن شكله يوحي بأنه في الربيع الثاني أو الثالث. لم يلج محمد المدرسة رغم كل البرامج التي وضعتها الدولة لتعميم التعليم، إذ لم يكن لدى والده المعدم وقت للتفكير في ذلك، فهو يشتغل منذ ساعات الصباح الأولى إلى آخر الليل في رعي الأغنام والأبقار لفائدة عائلة مقيمة في إحدى المدن الكبرى؛ كان الاتفاق المبدئي أن يتكلف بالرعي وزوجته تعتني بأمور المنزل مقابل 150 دولارا في الشهر.

رغم قساوة الحياة، يجد محمد بعض الوقت للعب، ولاد الصغير، عمالة سطات، صورة: مدار.

 لم تف العائلة الميسورة بالاتفاق، وظل الأب يشتغل سنوات لقاء السكن في المنزل وبعض النقود التي يوفرها من شغل إضافي. كان الطفل محمد يرافق والده عند الرعي ويجري فرحا وراء الكلب الذي يحدد للأغنام مسارها، وكان يرافق أمه عند حلب البقرة ويساعد في بعض المهام؛ لم يكن له وقت ليلعب مع أطفال القرية، بل كان يصحب معه بعض الدمى البالية التي عثر عليها في المنزل، ذكرت أمه أن جسمه لم ينم طيلة الأعوام الثلاثة الماضية؛ ربما يعاني من مرض ما، نصحتها إحدى نساء القرية بأخذه إلى “فقيه” ليعدّ له تميمة تفك عقدته، ترددت وفكرت في أنها ربما مشيئة الله التي سيغيرها بقدرته.

قد تكون مشكلة محمد سوء التغذية أو أحد الأمراض المنتشرة بهذه المناطق، لكن السكان هنا لا يعرفون شيئا اسمه المستشفى، يسمعون عنه ويبعد عنهم مئات الكيلومترات. في هذه القرية أبعد مكان تقصده الساكنة هو السوق الأسبوعي على بعد كيلومترات؛ أما المستشفى فقليل من يحظى بالذهاب إليه. يقتصر طعام محمد على وجبتين في اليوم، يشكل الخبز والشاي أهم مكوناتهما.

وللخبز رمزية كبيرة في الثقافة الشعبية المغربية، فهو مكون أساسي في أغلب الأطباق بالمغرب، ويصف المغاربة مورد الرزق بـ”طرف د الخبز” أو “الخبزة”، ويتفاخر آخرون بأنهم كبروا على “الخبز والشاي”، كما تعتبر بقايا الخبز شيئا مقدسا لا يجب خلطه أو رميه مع بقايا الطعام، وهناك من يقبلون الخبز إذا سقط أرضا ويعتبرونه من أهم نعم الله. ورغم ما يحمله الخبز من دلالات عند الناس، فإن هذا السلوك الاجتماعي يخفي تاريخا طويلا من سوء التغذية، وخوفا ملازما للملايين من المهمشين من الجوع أو من فقدان مصادر رزقهم.

ولا يختلف واقع الطفل محمد عن ملايين الأطفال بالقرى التي تضم حوالي نصف سكان المغرب، إذ أورد تصريح لوزيرة التضامن والأسرة أن 92،1 بالمائة من الأطفال في المناطق القروية بالمغرب يعانون من الحرمان سنة 2017. وأفادت دراسة حول “وضعية الفقر متعدد الأبعاد لدى الأطفال بالمغرب” بأن 68،7 من الأطفال بالوسط القروي يعانون من الفقر متعدد الأبعاد، خصوصا التغذية، الصحة والتعليم.

الهجرة إلى حيث يغذي الجوع الإرهاب

 أصبحت نساء القرية ذاتها اليوم أكثر رغبة في كسر هذه القوقعة المدمرة، يفكرن في الهجرة إلى المدن للحصول على أي عمل متاح وتحت أي ظرف من أجل تعليم أبنائهن، لكنهن يواجهن مقاومة شرسة من الجيل القديم، تذكرهن الجدة رقية بالمثل القائل: “تخرج المرأة من بيتها مرتين في حياتها، مرة إلى بيت زوجها وأخرى إلى قبرها”. لم تعد الكثير من الشابات يبالين بهذا القول، لكن أم محمد لا تجرؤ على السفر للمدينة مخافة ما تسمعه من قصص عن معاناة الفقراء في المعامل وفي دور الصفيح ومآل أبنائهم وبناتهم الذين يسقطون فريسة تشغيل الأطفال في المنازل والورش الصناعية أو مختلف أشكال الاتجار بالبشر. تفضل أم محمد أن تعيش في البادية تحت وطأة الجفاف وغياب برامج النهوض بالعالم القروي على أن تصبح من سكان الكانتونات المسحوقين تحت عجلة “برامج الإقلاع الاقتصادي” بالمدينة.

في أحد دور الصفيح بالمدينة البيضاء، ضربنا موعدا مع نشطاء في الجمعية المغربية لحقوق الإنسان، وانتقلنا إلى “دوار” [تجمع سكني غير مهيكل] في “عين السبع” بالشطر الشمالي للدار البيضاء، كان الغرض معاينة أحوال بعض الناس بعد أن أقدمت السلطات على هدم العديد من “البراريك” في “كاريان طوما” بـ”سيدي مومن”، بينما رفض آخرون أن تهدم منازلهم، بسبب عدم ثقتهم في الوعود التي قدمتها السلطات المحلية بأنها ستوفر لهم منازل “لائقة” في إطار السكن الاجتماعي، وتشبثوا بالحصول على “وثائق رسمية” تثبت ذلك.

جزء كبير من الحي بعد أن هدمته السلطات المحلية، بينما رفض آخرون التخلي عن بيوتهم، كاريان التومة، عين السبع، الدار البيضاء، صورة: مدار.

وفور وصولنا إلى “كاريان طوما”، اصطدمنا بمساحات شاسعة هدمت عن آخرها، لم تتبق سوى أكوام من التراب والصخور، و”براريك” العشرات من العائلات التي رفضت أن تبسط ملاذاتها بالأرض، ومن حول “الدوار” أبراج إسمنتية رمادية. “الأمر شبيه بغزة”، (قطاع غزة بفلسطين) يقول أحد السكان الذين كانوا في استقبالنا، ساخرا من المشهد. ووسط هذه المساحة تجري مياه عادمة، برائحة كريهة تزكم الأنوف، وقربها حاوية نفايات ضخمة، تحتل مركز القطاع السكني، ولم تكسر رتابة المشهد سوى طيور إوز جائعة تتغذى على ما جادت به حاوية القاذورات، بينما وجدت في المياه الملوثة مشربا يروي عطشها، ومسبحا يعوضها عن مياه الأنهار التي كان يجدر أن تكون بيئتها الطبيعية، وعلى الهامش لكن ليس خارج التجمع السكني، كانت جثة حمار ميت قد وجدت لنفسها مكانا وسط حفرة كبيرة قرب منازل السكان. “نعاني من القوارض – الجرذان، لقد اقتحمت البيت”، يخبرنا شاب استقبلنا بسرور.

وتحدثنا إلى عبد العالي، الذي يقطن بالكاريان نفسه، ويشتغل حارسا ليليا، وهو متزوج وأب لطفلة، وله أخ متزوج وأب لستة أبناء، وهو أيضا حارس ليلي، وأخ آخر له أربعة أبناء، وهو الآخر يشتغل حارسا للسيارات، ويقطنون جميعا في التجمع نفسه السكني، مع أختين أرملتين، وأخبرنا عن المظاهر الكبيرة لانتشار الفقر في المكان.

ومثّل زمن الجائحة أحد أبرز ملاحم الصراع مع الجوع، إذ قال عبد العالي في تصريحه لـ”مدار”: “أيام كورونا أصبح الوضع مأساويا، يخرج الشخص صباحا ليكافح من أجل توفير لقمة عيش لأبنائه ويعود أدراجه، هناك من يقبع في “الموقف” (مكان يعرض فيه العمال قوة عملهم في انتظار أن يعينهم صاحب مصلحة مقابل أجرة هزيلة).. الجميع تقريبا فقد عمله. أيام الحجر الصحي كنا نأكل ما كان يمدنا به المحسنون، والجمعيات، وغرق الجميع في الديون، وهناك من قضى عيد الأضحى الماضي بدون أضحية”. ويكتسي عيد الأضحى لدى المسلمين أهمية بالغة، وفي المجتمع المغربي يعتبر “عارا” ألا تستطيع الأسرة تدبّر أضحية، وهو مصدر إحراج كبير لها.

ولا تتوفر في المغرب إحصائيات رسمية دورية حول الجوع، بينما توضح إحصائيات تقديرية أن 4.30 بالمائة من المغاربة يعانون من الجوع سنة 2018. وحسب “مؤشر الجوع العالمي” حل البلد الشمال إفريقي في المرتبة 44 عالميا في تقرير سنة 2020، من أصل 107 دول، إذ تراجع بدرجتين عن التصنيف الأخير الذي حل خلاله في المركز 42 من أصل 117 دولة، وبالمثل، قدّرت الأمم المتحدة أن نسبة صغيرة من السكان يعانون من سوء التغذية.

تشق المياه العادمة الحي المهمش، بينما تغيب البنيات التحتية الأساسية، كاريان التومة، عين السبع، الدار البيضاء، صورة: مدار.

وعاينا حالات عديدة لأسر معوزة تلعب فيها الأمهات على وجه الخصوص لعبة “الغميضة” مع الجوع. و أخبرتنا إحدى الأمهات أنها لا تستطيع أن تواجه أبناءها بصحون فارغة، وإذا كان الخبز والشاي الوجبة الغالبة على برنامج الأسبوع فإنه يتم كسرها حسب الأحوال بوجبات بسيطة، فلا تتردد في أن تسمي وجبة تتكون من نوعين من الخضروات وبعض التوابل بـ”الطاجين”، أو تحويل الطحين الرخيص إلى “كسكس” دون أن يتوفر على الحد الأدنى من مكونات هاته الوجبة الشهيرة. “ما يهم هو إسكات الأبناء”، تخبرنا الأم.

الجوع أيضا قابل للمتاجرة

ورغم فداحة أمر الجوع إلا أن كثيرا من سياسيي اليمين خصوصا، الاتجاه الغالب الذي يشارك في “اللعبة الانتخابية” المغربية، لا يتورعون عن الاتجار في الجوع سياسيا، حسب ما أورده حقوقيون في حديث مع “مدار”، مشيرين إلى تفجر الجدل من جديد قبل أشهر بخصوص مؤسسة “خيرية” كبيرة يمولها وأسسها الملياردير عزيز أخنوش، الذي يعد حسب قائمة فوربس ثاني عشر أغنى رجل في إفريقيا والأغنى في المغرب، وهو وزير الفلاحة والصيد البحري والتنمية القروية والمياه والغابات في الحكومة المنتهية ولايتها ورئيس حزب التجمع الوطني للأحرار الذي تصدر الانتخابات الأخيرة، كما أنه رئيس الحكومة المكلف حاليا، إذ اشتكى مواطنون من أنهم بمجرد حصولهم على مواد غذائية من هذه المؤسسة على شكل مساعدات توصلوا ببطائق الانخراط في الحزب المذكور. 

وليست المؤسسة ذاتها إلا نموذجا للمتاجرة بالفقر ومآسي الناس لأغراض انتخابية، وفق المصادر ذاتها، مشيرة إلى تفشي هذه الممارسة في أوساط الأحزاب التي وصفتها بـ”المخزنية”، أي الموالية لنظام الحكم الملكي في المغرب، الذي يوصف محيا بـ”المخزن”.

على سبيل الختم

يظل الجوع إذن، وغيره من مظاهر غياب السيادة الغذائية، شبحا يقض مضاجع الأسر الفقيرة وكافة المحرومين بالمغرب، في الحواضر الكبرى كما في المناطق الفلاحية القروية، وخاصة في زمن الجائحة هذا، وهو ما يحكيه الواقع المرصود الذي لا يرتفع، وتروي عن تاريخه السرديات التراثية الشعبية التي سمعنا منها قصصا عن أعوام ضربت فيها المجاعة البلاد، منها “عام الجوع” و”عام البون”، (البون وصل كانت تقدمه السلطات للسكان يمكنهم من شراء حصة من الدقيق المدعم)؛ كما يرد في الأعمال الأدبية، ومنها أبيات بليغة للشاعر  محمد الحلوي، الذي عُرف بنشاطه السياسي ضد المستعمر الفرنسي، ما عرضه للاعتقال سنة 1944، نورد منها:

مــن هــؤلاء يلفـهـم جـنـح الـدجـى = غـرثـى عرايا فــوق أرصـفــة الدروب

جثثـاً هزيـلاتٍ علـى بـسـط الـتـراب= تئِـن من فـرط التعاسـة واللغـــوب

و الجوع مـوت مبطـئ يمشـي بهـا = للقـبـر أشبـاحـا تشيعـهـا الـكـروب

مـاذا جنـت هـذي الجسـوم العاريـات = الجائعات وما أتـتـــه من الذنوب؟

مــاذا أفـــاد الـعـلـم فـــي جـولاتــه = عبر الفضاء محاولاً كشف الغيوب

الجهـل فـوق الأرض ينـشـر ظـلـه = والفقر والأمراض تفتك بالشعـوب

*: “الجوع في العالم” هو سلسلة ساهم في إنتاجها كل من: “آ إر جي ميديوس“، “برازيل دي فاتو“، “بريك ثرو نيوز“، “مدار“، نيو فرايم” “نيوز كليك” و “بيبلز ديسباتش“.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة