معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 30 يونيو/ حزيران 2023
عرف العام 2002 زيارة للرئيس الكوبي فيديل كاسترو روز إلى مدرسة الباليه الوطنية من أجل افتتاح مهرجان هافانا الثامن عشر للباليه، هذه المدرسة التي تأسست في عام 1948 من قبل راقصة الباليه الشهيرة أليسيا ألونسو (1920 – 2019). استمرت المدرسة تعاني طيلة سنوات من ضائقة مالية حتى قررت الثورة الكوبية أن الباليه – مثل الأشكال الفنية الأخرى – يجب أن يكون متاحا للجميع، وبالتالي يجب أن يستفيد من التمويل الاجتماعي.
في خضم زيارة كاسترو للمهرجان في 2002، تذكر أن المهرجان الأول الذي أقيم في 1960 “أكد على أهمية المحافظة على مكانة كوبا الثقافية وهويتها وتعزيز قيم المواطنة، حتى في ظل الظروف الصعبة، عندما تلوح في الأفق مخاطر وتهديدات كبيرة على البلاد”.
إن الباليه، مثله مثل العديد من الأشكال الثقافية، تم عزله عن المشاركة والتمتع الشعبيين، وهو الأمر الذي أرادت الثورة الكوبية تغييره من خلال إعادة هذه الممارسة الفنية إلى الشعب كجزء من أهدافها القائمة على تعزيز كرامة الإنسان. وفي هذا الإطار، كانت الثورة الكوبية واعية بأنه من أجل بناء ثورة في بلد هوجم من قبل الهمجية الاستعمارية لا بد للعملية الثورية الجديدة من ترسيخ سيادة الدولة، وبناء كرامة كل فرد من شعبها، وقد اعتُبرت هذه المهمة المزدوجة هي أساس التحرير الوطني؛ فكما قال كاسترو: “بدون ثقافة، الحرية غير ممكنة”.
تحمل كلمة “ثقافة” كما في العديد من اللغات معنيين على الأقل؛ ففي المجتمع البرجوازي أصبحت تعني التحسين والفنون الرفيعة. وهذه الثقافة هي في ملكية الطبقات المهيمنة، وقد تم توريثها من خلال نقل الأخلاق والتعليم العالي. أما المعنى الثاني للثقافة فهو طريقة الحياة، بما في ذلك المعتقدات والممارسات الشعبية باعتبارها جزءاً من المجتمع (سواء كان قبيلة أو أمّة). وكان إضفاء الديمقراطية على موسيقى الباليه والموسيقى الكلاسيكية في الثورة الكوبية، على سبيل المثال، جزءا من محاولات الثورة إضفاء الطابع الاجتماعي على جميع أشكال الحياة الاجتماعية، من الاقتصادية إلى الثقافية. علاوة على ذلك، حاولت السيرورة الثورية الكوبية حماية التراث الثقافي للشعب من التأثير الضار لثقافة الاستعمار. ومن أجل أن نكون أكثر دقة فإن “الحماية” لا تعني رفض ثقافة المستعمر بأكملها، لأن ذلك من شأنه أن يفرض حياة ضيقة الأفق على الناس الذين يجب أن تكون لديهم إمكانية الوصول إلى جميع أشكال الثقافة. لقد اعتمدت الثورة الكوبية لعبة البيسبول، على سبيل المثال، على الرغم من جذورها التي تعود للولايات المتحدة، البلد نفسه الذي سعى إلى خنق كوبا على مدار ستة عقود.
لذلك فإن النهج الاشتراكي للثقافة يتطلب أربعة جوانب: دمقرطة أشكال الثقافة الرفيعة، وحماية التراث الثقافي للشعوب التي سبق أن تعرضت للاستعمار، والنهوض بالعناصر الأساسية لمحو الأمية الثقافية، وتدجين الأشكال الثقافية التي تأتي من القوة الاستعمارية.
ألقيت في يوليوز/ تموز 2022 محاضرة في كاسا دي لاس أمريكاس في كوبا، وهي مؤسسة لها دور أساسي في الحياة الثقافية في هافانا، كما تشتهر باحتوائها على مختلف الملفات التي تتضمن التطورات الثقافية من تشيلي إلى المكسيك. وقد تركزت هذه المحاضرة على عشر أطروحات حول الماركسية وإنهاء الاستعمار. بعد أيام قليلة، عقد مدير كاسا ووزير الثقافة السابق، أبيل برييتو، ندوة في المكان نفسه لمناقشة بعض هذه الموضوعات، وأساساً كيف كان على المجتمع الكوبي أن يدافع عن نفسه من اندفاع الأشكال الثقافية الإمبريالية ومن الميراث الخبيث للعنصرية والنظام الأبوي. وأثارت هذه المناقشة سلسلة من الأفكار حول مراحل تنزيل البرنامج الوطني لمناهضة العنصرية والتمييز العنصري الذي أعلنه الرئيس ميغيل دياز كانيل في نونبر/ تشرين الثاني، وحول السيرورة التي أدت إلى استفتاء قانون الأسرة لعام 2022 (الذي سيتم التصويت الشعبي عليه في 25 شتنبر/ أيلول) – وهاتان ديناميكيتان لديهما القدرة على تحويل المجتمع الكوبي في اتجاه مناهض للاستعمار.
يحتوي الملف رقم 56 (سبتمبر/ أيلول 2022) الذي تم إنتاجه بالشراكة بين معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي وكاسا دي لاس أمريكاس على نسخة موسعة من تلك المحاضرة مع مقدمة من أبيل برييتو، وقد تم اختيار الأطروحات العشر حول الماركسية وإنهاء الاستعمار كعنوان للملف.
الأطروحة التاسعة: معركة المشاعر. أثار فيدل كاسترو في فترة التسعينيات جدلا حول معركة الأفكار، أو الصراع الطبقي الفكري ضد تفاهات المفاهيم النيوليبرالية للحياة البشرية. إن جزءاً مهماً من خطب فيدل في تلك الفترة لم يكن فقط ما قاله ولكن أيضا كيف قاله، فكل كلمة كانت مليئة بالشغف الكبير لرجل ملتزم بتحرير البشرية من مخالب الملكية والامتيازات والسلطة. في الواقع لم تكن معركة الأفكار تتعلق بالأفكار وحدها، ولكن أيضا حول “معركة المشاعر”، وهي محاولة لتحويل مسار المشاعر من التركيز على الجشع إلى اعتبارات التعاطف والأمل.
إن أحد التحديات الحقيقية في عصرنا الحالي هو استخدام البرجوازية للصناعات الثقافية ومؤسسات التعليم والإيمان من أجل صرف الانتباه عن أي مناقشة جوهرية تتناول المشاكل الحقيقية – وحول إيجاد حلول مشتركة للمعضلات الاجتماعية – ونحو هوس بالمشاكل الخيالية. أطلق الفيلسوف الماركسي إرنست بلوخ عام 1935 على هذا الفعل “الإنجاز المخادع”، وهو بمثابة زراعة مجموعة من الأوهام لإخفاء تحقيقها المستحيل. كتب بلوخ أن المنفعة المتأتية من الإنتاج الاجتماعي “تجنيها الطبقة العليا الرأسمالية، التي توظف الأحلام القوطية ضد الحقائق البروليتارية”. وتعمل صناعة الترفيه بكل ما أوتيت من قوة على تقويض الثقافة البروليتارية بحمض التطلعات التي لا يمكن تحقيقها في ظل النظام الرأسمالي. لكن هذه التطلعات كافية لإضعاف أي مشروع للطبقة العاملة.
ينتج المجتمع المتدهور في ظل الرأسمالية حياةً اجتماعية مليئة بالانفصال والتغريب والخراب والخوف والغضب والكراهية والاستياء والفشل، هذه هي المشاعر القبيحة التي يتم تشكيلها وتعزيزها من خلال الصناعات الثقافية (“يمكنك الحصول على ذلك أيضا!”) والمؤسسات التعليمية (“الجشع هو المحرك الرئيسي”) والفاشيين الجدد (“يكرهون المهاجرين والأقليات الجنسية وأي شخص يعمل على تقريبك من أحلامك”). إن قبضة هذه المشاعر على المجتمع شبه مطلقة، لاسيما أن صعود الفاشيين يعتمد على هذه الحقيقة؛ فهناك شعور بأن المعاني أصبحت فارغة، وذلك راجع ربما لمجتمع مكون من العديد من المشاهد التي أخذ كل واحد منها مساره للنهاية.
لا يُنظر إلى الثقافة من المنظور الماركسي على أنها جانب منعزل وخالد من الواقع البشري، كما لا يُنظر إلى العواطف على أنها عالم خاص بها أو على أنها خارجة عن تطورات التاريخ. فنظرا لأن التجارب البشرية يتم تحديدها من خلال ظروف الحياة المادية، فإن أفكار القدر ستظل قائمة طالما أن الفقر هو سمة من سمات الحياة البشرية، كما أنه إذا ما تم تجاوز الفقر فسيصبح للقدرية أساس إديولوجي أقل، لكن لن تتم إزاحته تلقائياً. إن الثقافات متناقضة، حيث تُقرب بين مجموعة من العناصر بطرق غير متساوية من النسيج الاجتماعي لمجتمع غير متكافئ مُتأرجح بين إعادة إنتاج التسلسل الهرمي الطبقي ومقاومة عناصر التسلسل الهرمي الاجتماعي، كما أن الإديولوجيات المهيمنة تغمر الثقافة من خلال مخالب أجهزتها الإيديولوجية مثل موجة المد، وتطغى على التجارب الفعلية للطبقة العاملة والفلاحين. وفي نهاية المطاف، لا تنشأ الثقافات الجديدة سوى من خلال الصراع الطبقي ومن خلال التشكيلات الاجتماعية الجديدة التي أنشأتها المشاريع الاشتراكية- وليس فقط من خلال التمني.
من المهم أن نتذكر أنه في السنوات الأولى لكل السيرورات الثورية – من روسيا في عام 1917 إلى كوبا في عام 1959 – كان الازدهار الثقافي مشبعاً بمشاعر الفرح والإمكانيات والإبداع المكثف والتجريب. تلك هي الحساسية التي تفتح نافذة على شيء آخر غير المشاعر الغامضة للجشع والكراهية.
في السنوات الأولى من العام 1959، عرفت كوبا العديد من الطفرات المتعلقة بالإبداع والتجريب. سبق لنيكولاس جيلين (1902-1969)، وهو شاعر ثوري عظيم سُجن خلال دكتاتورية فولجنسيو باتيستا، أن أوجز قسوة الحياة والرغبة الكبيرة في العملية الثورية لتحرير الشعب الكوبي من بؤس الجوع والتسلسل الهرمي الاجتماعي من خلال قصيدته “Tengo” (لديّ) من عام 1964، التي تخبرنا بأن الثقافة الجديدة للثورة كانت غير متجذرة – ذلك الشعور بأنه لا يتعين على المرء أن يحني أكتافه أمام رئيسه، وبإمكانه القول للعاملين في المكاتب إنهم أيضاً رفاق وليس “سيدي” و”سيدتي”، وأن يسير أي رجل أسود إلى فندق دون أن يطلب منه التوقف عند الباب. تنبهنا قصيدته العظيمة المناهضة للاستعمار إلى الأسس المادية للثقافة:
ماذا لديّ، دعونا نرى،
لقد تعلمت القراءة،
وتعلمت العدّ.
لقد تعلمت الكتابة،
والتفكير،
والضحك.
لدي، نعم، لدي
مكان للعمل
وكسب
ما يسد جوعي.
لديّ، دعونا نرى،
أنا لديّ ما يجب أن أن يكون لدي.
كتب أبيل برييتو في ختام مقدمته الخاصة بالملف: “يجب علينا تحويل معنى مناهضة الاستعمار إلى غريزة”. إنها فكرة لا بد من التفكير فيها: مناهضة الاستعمار ليست مجرد إنهاء للحكم الاستعماري الرسمي، ولكنها عملية أعمق، يجب أن تصبح متأصلة على المستوى الغريزي حتى نتمكن من بناء القدرة على توفير كل الاحتياجات الأساسية (مثل تجاوز الجوع والأمية) وبناء نهوضنا على أساس الحاجة إلى ثقافات تحررنا ولا تلزمنا بالعالم البراق للسلع الذي لا يمكن تحمله.
* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 22 شتنبر/ أيلول 2022.