رويترز: 20 تشرين الأول/ أكتوبر 2025
تحت سماء ملبدة بأبخرة رمادية كثيفة، تحوّلت مياه البحر قبالة مدينة قابس التونسية التي كانت تتلألأ بلونها الفيروزي ذات يوم إلى مسطح ملوث تلطخه بقع كبيرة من النفايات الكيميائية السوداء والصدئة.
الهواء هنا ثقيل وخانق، يجعل من كل نفس تجربة مؤلمة، مشبع بغازات سامة تلسع العيون وتحرق الحناجر.
اختفت الأسماك، وذبلت الأشجار، والواحات التي كانت تُروى من ينابيع طبيعية عذبة تحترق الآن في تربة ملوثة ومسمومة. وعلى الشواطئ، لم يتبقَ سوى بضع سلاحف نافقة ونفايات وسفن مهجورة.
لطالما عُرفت قابس بأنها جوهرة بيئية نادرة، حيث تعانق الواحات الخضراء البحر المتوسط في مشهد فريد. الجوهرة التي كانت تسمى “جنة الدنيا” حوّلها التلوث إلى أرض سامة، يتنفس سكانها هواء مسموما، كأنهم داخل غرفة غاز مغلقة بلا نوافذ أو مفرّ.
ما بدا ذات يوم أنه مشروع صناعي واقتصادي طموح، تحوّل ببطء إلى كارثة إنسانية وبيئية متفاقمة.
المجمع الذي يحول الفوسفات، أهم ثروات تونس الطبيعية، أنشأ عام 1972 باعتباره ركيزة للنمو الاقتصادي ومحركا رئيسيا لصادرات تونس، أصبح اليوم كابوسا حقيقيا يرعب السكان بشكل متزايد.
تلوح مداخن المجمع الكيميائي بقابس فوق شواطئ تغمرها النفايات، وتُنفث غازات سامة يستنشقها سكان المناطق المحيطة بدلا من الهواء النقي. كل شهيق هنا يبدو كأنه خطوة نحو موت بطيء.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، ومع تكرر حالات اختناق بين عشرات التلاميذ في مدارس قريبة من المصنع، انفجر الغضب في واحدة من أكبر التحديات للرئيس قيس سعيد منذ بدأ الحكم بالمراسيم سنة 2021.
وأطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع لتفريق المحتجين الذين اقتحموا المجمع وطالبوا بتفكيكه، وخرج عشرات الآلاف مجددا إلى الشوارع يوم الأربعاء الماضي في احتجاج حاشد.
وعلى عكس الاحتجاجات السابقة التي رفعت شعارات الحرية والديمقراطية في تونس، جاءت مطالب سكان قابس أبسط وأكثر إلحاحا.. هم يطالبون فقط بحقهم في الحياة، في التنفس، يريدون نهاية لظروف يقولون إنها لا تطاق.
وفي الماضي، كانت المدينة تُعرف بأنها لؤلؤة بيئية، بمزيجها الفريد من الواحات والسواحل وتنوعها الإيكولوجي، لكنها اليوم أصبحت أرضا سامة، تنتشر فيها أمراض السرطان والجهاز التنفسي وهشاشة العظام على نطاق واسع.
يقول صفوان قبيبيع وهو ناشط بيئي محلي: “المصنع سمّم كل شيء الشجر، والبحر، والناس”. وأضاف “حتى رمان قابس التي اشتهرت به تغير وصار طعمه كالدخان”.
وسعيا لإخماد موجة الاحتجاجات المتصاعدة منذ أسبوعين، قال سعيد هذا الشهر إن سكان قابس يتعرضون “لاغتيال بيئي”، لكنه ألقى باللوم على حكومات سابقة، داعيا الوزارات إلى معالجة التسربات الكيميائية بأسرع وقت ممكن.
ولم يتسن الحصول على تعليق من المجمع الكيميائي.
“دعونا نتنفس”
بني مجمع قابس قبل نصف قرن، ويعد أكبر مصانع معالجة الفوسفات في تونس، ويساهم بأكثر من نصف الإنتاج الوطني.
توفر هذه الصناعة مصدر دخل حيويا لحكومة تواجه ديونا كبيرة ونموا اقتصاديا ضعيفا.
لكن السكان يقولون إن الكلفة البشرية كانت باهظة.
ففي غنوش وشط السلام، وهما منطقتان على أطراف المصنع، من النادر أن تجد عائلة لم تمسّها الأمراض أو فقدان أحد افرادها.
تصف رِمال الحاجي كيف بدأت ابنتها ناريمان (تسع سنوات) تعاني نهاية الشهر الماضي من صعوبات حادة في التنفس وبطء في الحركة، إلى جانب عشرات التلاميذ الذين تعرضوا لتسمم واختناق جراء انبعاثات غازية من المصنع.
وفي منزل قريب جدا من المصنع، تجلس الطفلة ناريمان بجوار والدتها على كرسي بلاستيكي، تعتمد عليها في كل حركة بعد أن أصيبت بمشكل عصبي نتيجة للاختناق، أثر على قدرتها على الحركة بسلاسة.
تضيف الأم وهي تغالب دموعها “لم تعد تستطيع المشي أكثر من خطوتين. إنها مثل الوردة التي تذبل”.
ومنذ ذلك اليوم، توقفت ناريمان عن الذهاب إلى المدرسة، وباتت حبيسة منزلها وفقا لوالدتها.
وعلى بعد حوالي كيلومترين فقط من المصنع، تعيش أمينة منصور (53 عاما) في منزل متواضع مغطى بالغبار.
وتملأ الأدوية وعاء بلاستيكيا وتتناثر عبوات دواء أخرى على السرير، إنها مسكنات لعلاج هشاشة العظام وأيضا لسرطان الحنجرة الذي اكتشفته قبل ست سنوات.
وتقول “أخبرني الأطباء أنني بحاجة لمغادرة هذه البلدة على الفور لأتمكن من النجاة. لكن إلى أين نذهب وكيف؟ هذه أرضنا”.
وتعدد أمنة منصور ستة من أقاربها أصيبوا بالسرطان، كما أن زوجها وأطفالها يعانون من أمراض في العظام “هذا التلوث يقتلنا جميعا هنا ببطء”.
جارتها مها محمود ليس أسعد حظا.. هي أيضا أصيبت بورم سرطاني ولا يفارق يديها جهاز الاستنشاق.
وتقول بكثير من الألم “أصبح هذا خبزي اليومي”.
وقالت “لم نعد نطلب طعاما أو وظائف لأبنائنا ولا تنمية… نريد شيئا واحدا: فككوا الوحدات الكيميائية القاتلة. دعونا نتنفس دعونا نعيش”.
إلى جانب أزمة الصحة العامة المتفاقمة، انهارت الثروة السمكية التي كانت مصدر رزق رئيسيا لآلاف الصيادين هنا بحسب السكان والناشطين البيئيين.
ويتذكر ساسي علية، وهو واحد من هؤلاء الصيادين، كيف كان البحر مصدر رزقه وكرامته. الآن، لم يعد بالنسبة له سوى مصدر للبؤس.
وعند قارب صيد يعلوه الصدأ على شاطئ غنوش، يفكك ساسي شباكه المتأكلة، ويقول بحرقة “البحر كان كل شيء ورثت الصيد عن أبي وجدي، كان مصدر رزقنا الأساسي. الآن، صار كابوسا. الأسماك اختفت انقرضت بعد أن أصبح بحر قابس مصبا للنفايات الكيميائية”.
يقول هذا الصياد إن صيده اليومي كان يكسبه ما يصل إلى 700 دينار تونسي (حوالي 240 دولارا)، لكنه الآن بالكاد يجني 20 دينارا وفي أحسن الحالات مئة دينار. لكنه غالبا ما يعود خالي الوفاض.
وبعد أكثر من 25 عاما في البحر، اضطر ساسي مثل كثير من الصيادين في غنوش وشط السلام للاتجاه إلى الزراعة لإعالة أطفاله الخمسة.
“كأنها منطقة حرب”
أظهر تقرير تدقيق بيئي رسمي، أنجز في يوليو تموز 2025، “مخالفات جسيمة للمعايير الوطنية والمتطلبات الدولية”.
التقرير الذي جاء في 160 صفحة كشف أن المجمع الكميائي يلقي يوميا بين 14000 و15000 طن من مياه “الفوسفوجيبسوم غير المعالجة في البحر، إلى جانب انبعاثات عالية من الأمونيا وأكاسيد النيتروجين والكبريتات”.
وأضاف أن هذه التصريفات “ألحقت ضررا بالغا بمروج الأعشاب البحرية وأدت إلى تصحر مناطق بحرية واسعة في خليج قابس”.
يذكر موقع وكالة حماية البيئة الأمريكية أن الفوسفوجيبسوم، وهو مخلفات صناعية تتكون أثناء معالجة الفوسفات، يحتوي على الراديوم، الذي يتحلل لينتج غاز الرادون، مشيرا إلى أن الراديوم والرادون عنصران مشعّان وقد يتسببان في الإصابة بالسرطان. وفي الولايات المتحدة، تُلزم الوكالة بإدارة الفوسفوجيبسوم ضمن هياكل هندسية مصممة خصيصا للحد من تعرض العامة لانبعاثات الرادون.
لا توجد إحصاءات رسمية حول انتشار الأمراض في قابس، كما أن نقص الدراسات يجعل من الصعب ربط هذه الحالات بالتلوث بشكل قاطع وفقا للدكتور كريم توفيق.
ولم يتسن الحصول على تعليق بخصوص عدد الإصابات بالسرطان ومدى ارتباطها بالتلوث الناتج عن المصنع الكيميائي.
لكن الطبيب المحلي كريم توفيق أكد أنه لاحظ ارتفاعا حادا في أمراض الحنجرة والأنف والعيون والعظام مع تدهور لافت في الظروف البيئية.
يضيف قائلا “المدينة تبدو كمنطقة حرب. حيث كنا نرى بضع حالات سرطان كل ثلاثة أشهر، نراها الآن يوميا. السكان يعيشون فوق قنبلة كيميائية موقوتة”.
وبينما تحاول السلطات تجنب توسع رقعة الاحتجاجات وفي الوقت نفسه دعم اقتصاد متعثر وحماية قطاع حيوي، فإنها تسعى للبحث عن حلول. واستقبل وزير التجهيز التونسي هذا الأسبوع سفير الصين ليبحث معه إمكانية تأهيل الوحدات الملوثة في المجمع الكيميائي وفقا لبيان من الوزارة.
في 2017 تعهدت الحكومة بإغلاق المصنع واستبداله بآخر مطابق للمعايير الدولية ولكنه أمر لم يتحقق مطلقا. والآن تقول السلطات إنها تخطط لإعادة تأهيل المنشآت الحالية بدلا من إغلاقها.
لكن هذه الخطط لم تهدئ من غضب الناشطين والسكان، الذين يقولون إنهم وصلوا إلى نقطة الانفجار مهددين بتصعيد تحركاتهم.
وتعتزم الحكومة إنعاش صناعة الفوسفات، وتأمل في زيادة الإنتاج إلى خمسة أضعاف ليصل إلى 14 مليون طن بحلول عام 2030. لكن الكلفة الإنسانية تبدو باهضة.
يقول الناشط البيئي قبيبيع “لكل طن من الفوسفات تتم معالجته، تُزهق روح. نحن لن نتخلى عن أرضنا”.
ويضيف بنبرة واثقة وحاسمة “سنواصل النضال ولو بأشكال مؤلمة حتى ينبض قلب قابس من جديد”.
المصدر: رويترز.