مدار: 21 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025
بقلم: موسى أبو هشهش
ربما ما يغيظ صحافيًّا أو باحثًا في حقوق الإنسان حين يستمع لشهادات أقارب الضحايا أو الضحايا (الناجين) من قتلٍ مؤكَّد، أكثر من جسامة الانتهاك نفسه وقساوته، هو أنه لا يعرف مضمون الحوار الذي دار بين الجنود أنفسهم أو بين الضابط الذي أصدر الأمر والجندي الذي نفّذه، أو حتى الحوار الذاتي في عقل الجندي الذي أطلق النار على طفلٍ كان ينتظر حافلة نقل الطلاب برفقة شقيقه أمام بيتهم في الصباح المبكر من ذلك اليوم، حين كان معظم الناس في البلدة لم يغادروا فراشهم بعد، وحين كان الشارع خاليًا من المارّة وحتى من الطلبة المتوجهين إلى مدارسهم.
الوحيدون الذين يعلمون هم فقط زملاء الجندي، أو بشكل أدق الجنود الذين كانوا يستقلّون السيارة العسكرية التي فتح بابها الجنديُّ السائقُ وأطلق النار على الطفل نزيه مسالمة، 14 عامًا، من بلدة بيت عوا غرب مدينة الخليل، الساعة السادسة وأربعين دقيقة من يوم الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول/ أكتوبر، فحطّم وجهه واقتلع عينه اليسرى. أمّا ضبّاط التحقيق في الشرطة العسكرية الإسرائيلية فسيستمعون إلى شهادات كاذبة من الجندي وزملائه تساعده في النجاة من الإدانة وتبرئه من جريمة القتل أو الشروع بالقتل مع سبق الإصرار والترصّد.
ما الذي يدفع جنديًّا لإطلاق قنبلة غاز من مسافة ستة أمتار على وجه طفلٍ ذي 14 عامًا، يحمل حقيبته المدرسية ويقف أمام بيته برفقة شقيقته ذات الـ 16 عامًا، يتناولان البسكويت وينتظران الحافلة لتقلهما إلى مدرستيهما؟

أهي هواية القتل كما اتّهم يائير جولان، رئيس حزب الديمقراطيين الإسرائيلي، جيشَ دولته الذي قتل أكثر من 20 ألف طفل في غزة؟ أم هي التربية الفاشية المتوحشة التي تربّى عليها الجيش الإسرائيلي (الأكثر أخلاقية بين جيوش العالم)، والتي تربّى عليها أكثر من نصف المجتمع الإسرائيلي حسب استطلاعات الرأي وحسب تصريحات العديد من القادة الإسرائيليين من وزراء وأعضاء كنيست وحاخامات ليسوا أقل فاشية من نتنياهو وسموتريتش وبن غفير؟
هذه الفاشية المدعومة من مجتمع حُشِيَ في عقليته أنه شعب الله المختار، وأنه محصّن من المحاسبة، ولجنوده كاملُ الحقّ في قنص الأطفال وتقطيع أطرافهم وقلع عيونهم، ستعفيك من نزعة الفضول لتعرف بماذا فكّر الجندي حين أطلق النار على وجه نزيه. لكن يبقى فضولك مستفَزًّا لتعرف بماذا أحسّ الجندي بعد أن اقترف جريمته، فتتساءل: كيف سيتناول المجرم طعامه ذلك اليوم؟ وماذا سيقول حين يقابل زوجته أو عشيقته أو والدته أو شقيقه الأصغر؟ وهل سيستطيع النوم ويتذكر ما فعله في الصباح؟ وهل سيشعر بالأمان حول مستقبل دولته وأطفاله حين يكبر نزيه، الذي عاد بعد 7 أيام من الغيبوبة وتذكر ما حدث له؟ وهل سيصالح نزيه على عينه؟ وهل سيصالح آلاف الأطفال في غزة على أذرعهم أو سيقانهم المقطوعة وعيونهم المفقودة؟ وهل ستصالح أمٌّ على فقدان زوجها وبناتها السبع؟
من المؤكّد أن الجندي المجرم لم يقرأ قصيدة الشاعر المصري أمل دنقل “لا تصالح”، كما أن نزيه ووالدة الطفل محمد الحلاق، ابن التاسعة الذي قتله قنّاص قبل ثلاثة أسابيع بينما كان يلعب كرة القدم في قريته، لم يقرأوا القصيدة. لكن أحدًا منهم لن يصالح، ولو دمٌ بدم، ولو عينٌ بعين، حتى وإن كان الصلح خيرًا كما غنّت الفنانة المصرية نادية مصطفى بعد اتفاق كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل.
من ينظر في عيون والدة نزيه وشقيقته، وفي عين نزيه الناجية، لا يحتاج إلى سماع تفصيلات الحدث، لكنه يتوقف عند التفصيلات الصغيرة والمشاعر المتناقضة بين الحزن الشديد والغضب الشديد وبين اليأس والإحباط والأمل، فيصمت إلى حين، أو يحبس دموعه إلى حين. وسيمشي حيث لا تفيد كلمات المواساة وبث الأمل قبل الأوان.
سيتذكر الزائر لعائلة نزيه فقط أن نزيه، بعد أن عاد إلى بيته، يطلب من والدته أن تطفئ الضوء في غرفته طوال الوقت، وأنه لا يريد أن يقابل أحدًا، وأنه يخاف من الناس. وسيتذكر كيف شاهدت والدته زوجها ينثر التراب على رأسه بعد إصابة نزيه، وكيف أن شقيقته ما تزال تعاني من صدمة لم تذهب بسببها إلى مدرستها منذ الحادثة. سيتذكر الزائر عائلة نزيه التي تعيش في غرفتين من الطوب، ووالده الذي تعطّل عن عمله في جمع علب المشروبات المعدنية الفارغة بمساعدة ابنه نزيه ليبيعها بشواقل معدودة يسدّ بها رمق أسرة تعاني من فقرٍ مدقع.
أمّا الجندي الذي أطلق النار على نزيه من مسافة ستة أمتار، والذي عاد ليصوّر مكان الحدث، فسيَتذكّر بركة من الدم في مكان الحدث، وربما سيرسل الصورة إلى عشيقته ليقنعها كم كان بطلًا صباح ذلك اليوم. وسينام مطمئنًّا أن أحدًا لن يسأله حين فقأ عين نزيه وحطّم حَجْرَة عينه وفكَّه، وستمرّ حادثة إصابة نزيه مرورًا عابرًا…
على الهامش: حين كنت في زيارة لهولندا العام الماضي وتحدثتُ أمام طلاب المدرسة الدولية للأمم المتحدة في مدينة ماستريخت وقلتُ إن المجتمع الإسرائيلي يعاني من غباء طالما بقي يسمح لجيشه بارتكاب جرائم حرب دون معارضتها والتصدي لها، وسيغامر بمستقبل وجوده في محيط من الشعوب المقهورة تؤمن بدوران الأرض وتردد أن الحياة دوّارة وأن الظلم عاقبته وخيمة… ذلك اليوم اتُّهمت من قبل عائلات طلاب إسرائيليين في المدرسة بأني معادٍ للسامية.
واليوم تُضاف قصة عين نزيه إلى ملف جرائم الفاشية الصهيونية العمياء، ويلتحق نزيه بجيش من الفلسطينيين والفلسطينيات الذين لن يصالحوا ولو عينٌ بعين. فهل يقرأ ذلك الجندي قصيدة أمل دنقل؟ وهل يستطيع أن ينظر في عين نزيه؟

