معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 17 أيار/ مايو 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: ملك مطر (فلسطين)، قاعة هند، 2024.
عنوان هذه المراسلة، ” قلبي يدوّخني” مقتبس من كتاب فرانز فانون “بشرة سوداء، أقنعة بيضاء” (1952)، إذ يكتب في فصل بعنوان “تجربة الأسود المعاشة” عن اليأس الذي تنتجه العنصرية، والقلق الهائل من العيش في عالم قرر ببساطة أن بعض الناس ليسوا بشرًا أو ليسوا كذلك بما فيه الكفاية. مُنحت حياة هؤلاء الناس، أبناء إله أقل شأناً، قيمة أقل من حياة الأقوياء وأصحاب النفوذ. إن التقسيم الدولي للبشرية يمزق العالم إلى أشلاء، ويلقي بأعداد كبيرة من الناس في نيران العذاب والنسيان.
ما يحدث في رفح، أقصى جنوب قطاع غزة، أمر مروع. فمنذ أكتوبر/تشرين الأول 2023، أمرت إسرائيل 2.3 مليون فلسطيني في غزة بالتحرك جنوبًا مع قيام القوات المسلحة الإسرائيلية بنقل مدافعها بشكل مطرد عبر أراضي وادي غزة الرطبة وصولًا إلى أطراف رفح. ومع تقدم الجيش الإسرائيلي كيلومترًا تلو الآخر، تتحرك ما تسمى بالمنطقة الآمنة أكثر فأكثر نحو الجنوب. وفي ديسمبر/كانون الأول، زعمت الحكومة الإسرائيلية، بقسوة شديدة، أن مدينة الخيام في المواصي (غرب رفح، على طول البحر الأبيض المتوسط) هي المنطقة الآمنة الجديدة التي تم تحديدها. تبلغ مساحة المنطقة الآمنة المزعومة داخل المواصي 6.5 كيلومتر مربع فقط (نصف مساحة مطار هيثرو في لندن)، و ليست كبيرة بما يكفي لإيواء أكثر من مليون فلسطيني في رفح. من السخيف أن تقول إسرائيل بأن المواصي ستكون ملجأً، لأن المنطقة الآمنة-وفقًا لقوانين الحرب- يجب أن يكون متفقا عليها من قبل جميع الأطراف.
تساءل فيليب لازاريني، المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا): ”كيف يمكن أن تكون المنطقة آمنة في منطقة حرب إذا كانت مقررة بشكل أحادي الجانب من أحد أطراف النزاع؟” وأضاف ”لا يمكن أن تروج إلا للشعور الزائف بأنها ستكون آمنة“. علاوة على ذلك، قصفت إسرائيل في عدة مناسبات المواصي، وهي المنطقة التي تقول إنها آمنة. وفي 20 فبراير/شباط، هاجمت إسرائيل ملجأً تديره منظمة أطباء بلا حدود، مما أسفر عن مقتل اثنين من أفراد عائلة موظفي المنظمة. وفي هذا الأسبوع، بتاريخ 13 أيار/مايو، قُتل أحد موظفي الأمم المتحدة الدوليين بعد أن أطلق الجيش الإسرائيلي النار على مركبة تابعة للأمم المتحدة، وهو واحد من بين نحو 200 موظف أممي قُتلوا في غزة بالإضافة إلى الاغتيالات التي استهدفت عمال الإغاثة.
ولم تكتفِ إسرائيل بقصف رفح، بل أرسلت دباباتها بدون تردد للاستيلاء على المعبر الحدودي الوحيد الذي كانت تتدفق منه المساعدات عبر الشاحنات القليلة التي كان يُسمح لها بالدخول يوميًا. وبعد أن استولت إسرائيل على معبر رفح، منعت دخول المساعدات إلى غزة تمامًا. لطالما كان تجويع الفلسطينيين سياسة إسرائيلية، وهي بالطبع جريمة حرب. إن منع دخول المساعدات إلى غزة هو جزء من التقسيم الدولي للبشرية الذي لم يميّز هذه الإبادة الجماعية فحسب، بل هو جزء من احتلال الأرض الفلسطينية في القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية منذ عام 1967 ونظام الفصل العنصري داخل الحدود التي وضعتها إسرائيل بعد نكبة عام 1948.
هناك ثلاث كلمات في هذه الجملة تعترض عليها إسرائيل بشكل أساسي: الفصل العنصري والاحتلال والإبادة الجماعية. وتريد إسرائيل وحلفاؤها في الشمال العالمي أن تزعم بأن استخدام هذه الكلمات لوصف السياسات الإسرائيلية أو الصهيونية أو اضطهاد الفلسطينيين هو بمثابة معاداة للسامية. ولكن، كما تلاحظ الأمم المتحدة والعديد من منظمات حقوق الإنسان المحترمة، فإن هذه أوصاف قانونية للواقع على الأرض وليست أحكامًا أخلاقية تصدر إما عن تسرع أو بدافع معاداة السامية. ومن الضروري تقديم تمهيد قصير حول دقة هذه المفاهيم الثلاثة لمواجهة هذا الإنكار.
الفصل العنصري. تتعامل الحكومة الإسرائيلية مع الأقلية الفلسطينية داخل حدود 1948 (21%) كمواطنين من الدرجة الثانية. وهناك ما لا يقل عن 65 قانونًا إسرائيليًا يمارس التمييز ضد المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل. ويعلن أحد هذه القوانين، الذي صدر في عام 2018، أن البلاد ”دولة قومية للشعب اليهودي“. وكما كتب الفيلسوف الإسرائيلي عمري بوم، فإن الحكومة الإسرائيلية من خلال هذا القانون الجديد ”تصادق رسميًا“ على استخدام ”أساليب الفصل العنصري داخل حدود إسرائيل المعترف بها“. وقالت الأمم المتحدة ومنظمة هيومن رايتس ووتش إن معاملة إسرائيل للفلسطينيين تندرج تحت تعريف الفصل العنصري. إن استخدام هذا المصطلح واقعيّ تمامًا.
الاحتلال. في عام 1967، احتلت إسرائيل الأراضي الفلسطينية الثلاث: القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية. ومنذ 1967 وحتى 1999، كان يُشار إلى هذه المناطق الثلاث كجزء من الأراضي العربية المحتلة (والتي شملت في أوقات مختلفة شبه جزيرة سيناء المصرية ومنطقة الجولان السورية وجنوب لبنان). ومنذ عام 1999، أصبح يُطلق عليها الأراضي الفلسطينية المحتلة. يُشار إلى إسرائيل في وثائق الأمم المتحدة وفي محكمة العدل الدولية على أنها ”القوة المحتلة“، وهو مصطلح تقني يستوجب التزامات معينة من إسرائيل تجاه من تحتلهم. وعلى الرغم من أن اتفاقات أوسلو لعام 1993 أنشأت السلطة الفلسطينية، إلا أن إسرائيل لا تزال القوة المحتلة للأراضي الفلسطينية المحتلة، وهو تصنيف لم تتم مراجعته. والاحتلال مطابق للحكم الاستعماري: وهو عندما تسيطر قوة أجنبية على شعب في وطنه وتحرمه من السيادة والحقوق. وعلى الرغم من الانسحاب العسكري الإسرائيلي من غزة في عام 2005 (الذي شمل تفكيك 21 مستوطنة غير شرعية)، إلا أن إسرائيل تواصل احتلال غزة من خلال بناء سياج عازل حول القطاع ومراقبة مياه البحر الأبيض المتوسط في غزة. كما أن ضم أجزاء من القدس الشرقية والضفة الغربية وقصف غزة بشكل متواصل هو انتهاك لالتزامات إسرائيل باعتبارها قوة احتلال.
ويفرض الاحتلال وضعية هيكلية من العنف على الخاضع للاحتلال. ولهذا السبب يعترف القانون الدولي بحق الواقعين تحت الاحتلال في المقاومة. في عام 1965، وفي خضم نضال غينيا بيساو ضد الاستعمار البرتغالي، أقرّت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 2105 ( المتعلق بـ ”تنفيذ إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة“). من الواجب قراءة النقطة العاشرة من هذا القرار بعناية: ”تعترف (الجمعية العامة) بمشروعية كفاح الشعوب الواقعة تحت الحكم الاستعماري من أجل ممارسة حقها في تقرير المصير والاستقلال، وتدعو جميع الدول إلى توفير المساعدة المادية والمعنوية لحركات التحرر الوطني في الأقاليم المستعمرة“. لا يوجد غموض هنا. فمن حق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال أن تقاوم، والواقع أن جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة ملزمة بموجب هذه المعاهدة بمساعدتها. وبدلاً من بيع الأسلحة إلى القوة المحتلة، التي هي المعتدية في الإبادة الجماعية الجارية، ينبغي على الدول الأعضاء في الأمم المتحدة – وخاصة من دول الشمال العالمي – مساعدة الفلسطينيين.
الإبادة الجماعية. وجدت محكمة العدل الدولية في قرارها الصادر في 26 كانون الثاني/يناير أن هناك أدلة ”معقولة“ على ارتكاب إسرائيل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. وفي مارس/آذار، نشرت مقررة الأمم المتحدة الخاصة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأرض الفلسطينية المحتلة، فرانشيسكا ألبانيز، تقريرًا ضخمًا بعنوان ”تشريح الإبادة الجماعية“. وكتبت ألبانيز في هذه الوثيقة إن ”هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن الحد الأدنى الذي يشير إلى ارتكاب إسرائيل للإبادة الجماعية قد تحقق“. و”على نطاق أوسع”، أوردت إن هذه الأسباب “تدلّ أيضًا على أن أفعال إسرائيل كانت مدفوعة بمنطق الإبادة الجماعية الذي يشكل جزءًا لا يتجزأ من مشروعها الاستعماري الاستيطاني في فلسطين، مما يشير إلى مأساة تم التنبؤ بها”.
يمكن إثبات نية ارتكاب الإبادة الجماعية بسهولة في سياق القصف الإسرائيلي. ففي تشرين الأول/أكتوبر 2023، قال الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوغ إن ”أمة بأكملها مسؤولة“ عن الهجمات التي وقعت في 7 تشرين الأول/أكتوبر، وليس صحيحًا أن ”المدنيين [لم يكونوا]… على علم، لم يكونوا مشاركين“. وقد أشارت محكمة العدل الدولية إلى هذا التصريح، من بين تصريحات أخرى، لأنه يعبر عن نية إسرائيل وتنفيذها لـ ‘العقاب الجماعي’، وهي جريمة حرب إبادة جماعية. وفي الشهر التالي، قال وزير التراث وشؤون القدس الإسرائيلي عميحاي إلياهو إن إلقاء قنبلة نووية على غزة ”خيار مطروح“ لأنه ”لا يوجد غير مقاتلين في غزة“. وقبل صدور قرار محكمة العدل الدولية، قال موشيه سعدة، عضو البرلمان الإسرائيلي عن حزب الليكود الذي يتزعمه رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، إنه ”يجب تدمير جميع سكان غزة“. تُظهر هذه المشاعر، بكل معيار دولي، نية لارتكاب إبادة جماعية. وكما هو الحال مع مصطلح ”الفصل العنصري“ و”الاحتلال“، فإن استخدام مصطلح ”الإبادة الجماعية“ دقيق تمامًا.
في وقت سابق من هذا العام، نشرت دار ”إنكاني بوكس“، وهي مشروع تابع لمعهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في جنوب أفريقيا، ترجمة إلى اللغة الزولوية لكتاب فانون ”معذبو الأرض” (Izimpabanga Zomhlaba) من إنجاز ماخوسازانا زوماهلابا. نحن فخورون جدًا بهذا الإنجاز، حيث نقلنا أعمال فانون إلى لغة أفريقية أخرى (تُرجمت سابقا إلى العربية والسواحلية).
عندما كنت آخر مرة في فلسطين، تحدثت مع أطفال صغار عن تطلعاتهم. وقد ذكرني ما قالوه لي بمقطع من كتاب ”معذبو الأرض“: ”في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من العمر، يعرف أطفال القرى أسماء الرجال الكبار الذين كانوا في الانتفاضة الأخيرة، والأحلام التي يحلمون بها في الدواوير أو في القرى ليست المال أو النجاح في الامتحانات مثل أطفال المدن، بل أحلام التماهي مع ثائر أو آخر، لا تزال قصة موته البطولية تدفعهم حتى اليوم إلى البكاء“.
سيتذكر الأطفال في غزة هذه الإبادة الجماعية، على الأقل، بالحدة نفسها التي تذكر بها أجدادهم عام 1948، وكما تذكر آباؤهم الاحتلال الذي كان يلقي بظلاله على هذه البقعة الضيقة من الأرض منذ طفولتهم. سوف يقرأ الأطفال في جنوب أفريقيا هذه السطور من فانون بلغة الزولو ويتذكروا أولئك الذين سقطوا لتدشين جنوب أفريقيا الجديدة قبل ثلاثين عامًا.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 16 أيار/ مايو 2024.