“تمزيق العالم لإحكام السيطرة عليه”

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

بيبلز ديسباتش/ مدار: 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025

بوساني نغكاويني

هذه المقالة مبنية على كلمة افتتاحية ألقاها الباحث الجنوب-أفريقي بوساني نغكاويني في “منتدى الأكاديميين من الجنوب العالمي 2025: انتصار الحرب العالمية ضد الفاشية والنظام الدولي بعد الحرب: الماضي والمستقبل”. وقد جرى تحرير محتوى الكلمة بشكل طفيف من أجل الوضوح والإيجاز.

تريدنا وسائل الإعلام السائدة أن نصدّق أن الفاشية انتهت في القرن العشرين. تتمسّك بالوهم القائل بأن الفاشية ماتت مع الديكتاتوريين الذين ارتدوا الزي العسكري والميداليات. وتواسي نفسها بخرافة أن عصر “مشية الإوزة العسكرية” ومعسكرات الاعتقال قد أصبح من الماضي.

ومع ذلك، يدعونا موضوع هذا المؤتمر إلى النظر إلى ما تخفيه أنظمة الحوكمة العالمية المعاصرة وفحص طبيعة قوة في طور التحوّل. إنه يدعونا لنسأل عمّا يصيب الإنسانية عندما يُخلط النظام العالمي بالطاعة العالمية. ويوجّهنا إلى استكشاف الأسس الأخلاقية للهيمنة التي لا تزال ثابتة رغم ظهور مفردات جديدة.

لم تختفِ الفاشية. لقد صقلت نفسها. تخلّت عن زيّها العسكري وتبنّت لغات ومؤسسات جديدة. بقيت طموحاتها الإمبريالية، مختبئة تحت أقمشة التهذيب ومغطاة بخطاب التقدّم والتنمية.

ما نواجهه اليوم ليس حياة الفاشية بعد الموت، بل تحوّلها. إنها فاشية بلا استعراض، ترتدي ثوب الدبلوماسية والسياسة وأرثوذكسية السوق. تسمّي نفسها الحكم الرشيد والنظام الدولي. تختبئ خلف وكالات التصنيف، وشركات الاستشارات أو “الخديعة الكبرى” كما تسميها ماريانا مازوكاتو، ومراكز الفكر. تتحدث عن الاستقرار لكنها تزرع عدم الاستقرار من أجل الربح، كما رأينا في جمهورية الكونغو الديمقراطية. تبني إجماعًا عبر إغراق العالم بالفكرة القائلة إنه لا بديل عن الكونية الغربية.

لم تعد تصرخ. إنها تُدير. لم تعد تحرق الكتب. إنها تُشكّل الخوارزميات وترتكب عنفًا معرفيًا. لم تعد تنظّم استعراضات. إنها تنظّم حروب “الضرورة الإنسانية”. تمارس العنف عبر القانون والبيروقراطية والدّيون. وفي هذا الشكل، تبدو عقلانية، بل حتمية، وبالتالي أكثر خطورة من تعبيرها السابق.

يمتدّ هذا المنطق إلى الثقافة، الآن بمساعدة نماذج اللغة الضخمة. فكما صنّف المسؤولون الاستعماريون سابقًا الثقافات واللغات الأفريقية لتأديب المجتمعات، تقوم منصات وادي السيليكون بتسطيح خطابنا إلى نقاط بيانات ضخمة. تدّعي الحياد لكنها تحمل الدافع ذاته لفرض المعنى. لقد قلت سابقًا إن هذه الأدوات الرقمية تعيد كتابة تعابيرنا في نغمات أحادية وتحوّل اللهيب إلى رماد. إنها تكرر — بشكل أكثر تطورًا — الفعلَ الاستعماري المتمثل في تجريد أنظمة المعرفة من سيادتها.

هذه هي فاشية عصرنا: نظم الحكم القائمة على الهيمنة.

الباحث الجنوب أفريقي بوساني نغكاويني يتحدث في منتدى الأكاديميين من الجنوب العالمي 2025: (الصورة: GSAF)

كانت الفاشية الكلاسيكية مرئية. رأيناها في ألمانيا وإيطاليا وتشيلي واليابان وجنوب أفريقيا. عبدت الدولة وكأنها قدر. طالبت بالطهارة والخضوع. مجّدت القوة والطاعة. عاقبت المعارضين وسحقت الضعفاء. وإذا اقتبسنا من راي تشارلز، لقد ركلت الرجل الذي كان يزحف؛ فليُغثنا الله جميعًا.

تبدو نظم الحكم القائمة على الهيمنة مهذّبة. تعقد قممًا وتتحدث عن الديمقراطية والتنمية. لكن تحت هذا السطح المهذّب يكمن الدافع الميتافيزيقي ذاته: الرغبة في السيطرة والتنظيم وإعادة تشكيل العالم على الصورة الأوروبية-الأمريكية.

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، بُني النظام العالمي على منظومة أخلاقية فاسدة للقلة. استخدمت القوى الغربية لغة الليبرالية لتأديب الآخرين، وهندسة التعددية لاستدامة عدم التكافؤ؛ فأنظمة الحكم عندها تعمل بوصفها هيمنة لا تضامنًا.

تمارس نفوذها عبر العقوبات، والدّيون، والمساعدات، والإعلام، والتدخل العسكري. تتحكم بالمعرفة من خلال براءات الاختراع والدعاية. تحتفي بالأسواق المفتوحة بينما تركل سلّم التنمية بعيدًا عن بلدان الجنوب.

لهذا المسار جذور عميقة في أنظمة التصنيف الإمبريالية. وكما كتب الباحث اللامركزي رامون غروسفوغيل:

“انتقلنا من توصيف القرن السادس عشر للناس بأنهم بلا كتابة، إلى توصيف القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بأنهم بلا تاريخ، إلى التصنيف في القرن العشرين للناس بأنهم بلا تنمية، والآن إلى سردية أوائل القرن الحادي والعشرين حول الناس بلا ديمقراطية.”

نحن دائمًا “بلا”، نحتاج المعنى من الآخرين.

هذه هي القواعد الطويلة الأمد لتفكيك الآخرين. إنها تجرد مجتمعات بأكملها من الصوت والشرعية حتى تُظهر بأن الهيمنة وسيلة للارتقاء بهم.

تحكم الهيمنة عبر “صناعة الموافقة”. تقنع المظلومين باستبطان ظلمهم. تُعلّمهم أن الفقر خطأ ذاتي، وأن اللامساواة طبيعية، وأن المقاومة غير عقلانية. وبهذا، تُفرغ الخيال من البدائل.

تكمن براعتها في استتارها.

الفاشية ليست عنفًا سياسيًا فحسب. إنها عنف ميتافيزيقي. تعبُد كونية زائفة بينما ترفض الإنسانية المشتركة. ترسم حدودًا على الخرائط وفي العقول. تُرتّب البشر بحسب درجات الكينونة. تسمّي نفسها حضارة وتسمّي الآخرين تهديدًا.

الاستعمار، والفصل العنصري، والصهيونية، والفاشية ينتمون إلى سلالة واحدة. إنها أساليب لتشكيل العالم عبر المحو. إنها تصنع الفراغ لتبرير الاحتلال. تعيد تسمية الأراضي المدمرة لإثبات أنه لم يكن هناك شيء قبلها.

النظام العالمي الذي تحكمه الهيمنة يواصل حمل هذا الإرث. يعيد تسمية الهيمنة بوصفها تدخلًا إنسانيًا، أو ابتكارًا، أو تحديثًا. يعامل السيادة كامتياز لا كحق. يقيس القيمة بالعملة بدل الكرامة. يقسّم الإنسانية إلى قادرين وغير قادرين، متحضرين وهشّين.

غزواته تسمى حفظ السلام. نهبه للثورات يسمى شراكة. تدميره يُروى بوصفه إصلاحًا.

لا يستطيع التعايش مع التعددية. يتسامح مع الاختلافات فقط عندما تكون مطيعة. يفكك الأمم ويعيد تركيبها كمحميات أو أسواق. يتدخل لا لإنهاء المعاناة بل لضمان الاصطفاف. يعيد البناء لا لاستعادة السلام بل لخلق التبعية.

اليوم، العالم في حرب، غالبًا بطريقة غير مرئية. العقوبات تُجَوِّع أكثر من القنابل. الدّيون تدمِّر أكثر من النار. المراقبة الرقمية تخترق أكثر من الجيوش. الحواجز التجارية تخنق الاقتصادات الصغيرة. أصبح العنف الأخلاقي للفاشية روتينيًا وإداريًا. إنه الشيفرة الوراثية للرأسمالية الحديثة.

أيها السيدات والسادة، لا يمكن الحديث عن الفاشية دون الإشارة إلى الفظائع المرتكبة ضد شعب فلسطين.

الحديث عن فلسطين هو حديث عن لغة القوة العالمية. فلسطين ليست مجرد ساحة للاحتلال. إنها النموذج الأصلي للتمزيق.

تمزيق شعب يعني فصله عن النظام الرمزي الذي يثبت وجوده. يعني حرمانه من حق تسمية نفسه وتذكّر نفسه وتخيّل نفسه. يقوم المشروع الإسرائيلي على هذا العنف الميتافيزيقي. إنه لا يسعى فقط لاحتلال الجغرافيا بل لمحو الوجود.

يزعم أنه لا وجود لفلسطينيين، بل “سكان”. يعامل الذاكرة كإزعاج. محو الاسم هو محو إمكانية للمستقبل.

يمارس التفكيك محليًا عبر تجزئة الأرض، وتاريخيًا عبر الادعاء بعدم الوجود، ومعرفيًا عبر السرديات المسيطر عليها التي تعيد تسمية الاحتلال بوصفه “صراعًا”.

تكشف فلسطين أمرًا آخر مهمًا لتحليلنا: إنها تُظهر كيف يحتكر الأقوياء لغة الأخلاق نفسها. يعرّفون العنف بناءً على من يمارسه لا من يتعرض له. يعرّفون الإرهاب بناءً على من يسمّيه لا من يتحمّله. بهذه الطريقة، يتحكم الإمبرياليون ليس فقط بالحدود بل بمعنى العدالة.

فلسطين هي المرآة التي يرى الجنوب العالمي فيها بنية تجريده الخاص. إنها المكان الذي يتعلم فيه العالم إلى أي مدى يمكن أن يذهب نظام ما للحفاظ على نظامه العرقي. ولذلك قال الرئيس نيلسون مانديلا إن حرية جنوب أفريقيا ناقصة من دون تحرير فلسطين.

الفاشية ليست ميتة. لقد أصبحت فعّالة. تصنع الموافقة. تقنع الناس بأن اللامساواة طبيعية وبأن الفقر نتيجة مستحقة. تعبُد السوق كسيّد مطلق للنظام. الجسد ليس مسجونًا… بل مَدينًا. والعقل ليس مُراقَبًا… بل مُشتَّتًا. تتداول المعلومات لكن المعنى محتكر.

خارج الشرق الأوسط، الفاشية اليوم رقمية. معسكراتها غير مرئية. عنفها مكتوب في الشيفرات والعقود. في المجال اللغوي، تجرّد اللغات الأفريقية من مرونتها. تعيد كتابتها لآذان أجنبية. تراقب ما تدّعي إصلاحه. هذا هو الحدّ الجديد من الإبادة المعرفية. إنه استعمار مترجم إلى خوارزمية.

تحكم ممارسات الهيمنة الدول عبر التصنيفات، والدّيون، والعقوبات، والإصلاحات الهيكلية. تفرض التبعية تحت لافتة العولمة. تظهر الهيمنة كأنها تعاون، واللامساواة كأنها كفاءة. هذا هو كمال الفاشية: السيطرة من دون غزو، والمحو من دون ضوضاء.

إذا كانت الهيمنة تُفكِّك، فإن التنمية تعيد التركيب من خلال التضامن.

في باندونغ عام 1955، أعلن قادة آسيا وأفريقيا أن للأمم حقًا في أن تتطور بطريقتها الخاصة. لم يكن باندونغ مجرد اجتماع. كان إعلانًا أخلاقيًا. أكد أن الحرية ليست صدقة، وأن الحضارة ليست ملكًا غربيًا.

التضامن ليس شعورًا. إنه مهيكل. يؤكد أنه لا يمكن لأي أمة أن تكون حرة بينما أمة أخرى مستعمرة، ولا يمكن لأي إنسانية أن تكون كاملة بينما أحد أطرافها لا يزال مبتورًا.

اليوم، يمكن رؤية أصداء باندونغ في مبادرات الجنوب العالمي، مثل “مبادرة التنمية العالمية” الصينية التي تعزز الازدهار المشترك، و“مبادرة الأمن العالمي” التي تشدد على مبدأ الأمن غير القابل للتجزئة، و“مبادرة الحضارات العالمية” التي تحتفي بالتعددية الثقافية، و“مبادرة الحوكمة العالمية” التي تدعو إلى مؤسسات تعكس العدالة لا القوة.

ترفض هذه المبادرات الغطرسة الأحادية. إنها ترسم جغرافيا أخلاقية خطّها العالم أول مرة في باندونغ. هذه هي التنمية في التطبيق.

التنمية ليست نموذج سياسة. إنها فلسفة وجود. تقترح أن تكون الدولة في الجنوب العالمي فاعلًا أخلاقيًا وتواصليًا. يجب أن تعيد بناء المعنى ليس فقط في المؤسسات، بل في الأفراد أيضًا.

ورث العالم ما بعد الاستعمار دولًا بلا سيادة وحكومات بلا سلطة. تعترف منهجية التنمية بهذا الانقطاع. تبني الصوت وتعيد الصلاحيات.

أزمة الجنوب ليست اقتصادية فحسب. إنها معرفية وتواصلية. غُلبنا ليس فقط بالجيوش بل بالسرديات. ومن هنا حجتي: يجب الدفاع عن لغاتنا في الأكواد، وفي المدونات اللغوية، وفي الدوريات، وفي الفصول الدراسية. السيادة تُنطَق. تُشفَّر. تُروى.

هنا يجب أن نتذكر المسار الفكري الذي شكّل نضالنا. علّمنا فرانز فانون أن إزالة الاستعمار برنامجٌ لإحداث خلخلة كاملة للمعنى الاستعماري. وأكد سمير أمين أن دول الأطراف لا يمكنها أن تتطور داخل هياكل صُمّمت لإبقائها تابعة. وذكرنا آرتشي مافييجي بأن الأنثروبولوجيا نفسها أصبحت سلاحًا ضد شعوبنا. ترث التنمية هذا التقليد. تصرّ على أن الدولة يجب أن تصبح صانعة نشطة للقيمة العامة، لا مجرد مدبّرة سلبية لعقائد مستوردة. يجب أن توجه الأسواق، وتعبّئ المجتمع، وتعيد بناء أنظمة المعرفة التي حاول الاستعمار محوها.

يجب أن تصبح الدولة التنموية “دولة تربوية” تستمع قبل أن تعلّم. التواصل هو جوهر الشرعية. السلطة عادلة فقط عندما تكون مفهومة، والقيادة أخلاقية فقط عندما تصغي.

تعيد عملية “إعادة التركيب” تحويل البقاء إلى وكالة. تحول الذاكرة إلى حركة. تعيد الإنسانية إلى مركز السياسة.

ممارسات الهيمنة هي الامتداد الأخلاقي للفاشية. التنمية هي إعادة تركيب ما تم تفكيكه بفعل الفاشية.

فلنَمضِ قُدمًا، ولنعَلِ راية التضامن عاليًا.

بوساني نغكاويني: هو مدير مركز السياسات العامة والدراسات الأفريقية في جامعة جوهانسبرغ.

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مقالات ذات صلة

المغرب

السلطات المغربية تعتقل فنان راب مشهور

مدار: 23 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025 اعتقلت السلطات الأمنية المغربية، الأسبوع الماضي، فنان الراب المغربي المشهور جواد أسرادي المعروف بـ”Pause Flow”، بتهم مرتبطة بمضامين أكثر