مدار: 30 مارس/ آذار 2023
ماهر الشريف
انتفض الفلسطينيون في الثلاثين من آذار/مارس 1976، ضد محاولات سلطات الاحتلال الحاكمة مصادرة أراضيهم وتهويدها، فأعلنوا إضراباً عاماً ونظموا مظاهرات حاشدة في عدة بلدات عربية، وقعت فيها مواجهات عنيفة مع قوات الاحتلال أسفرت عن سقوط خمسة شهداء وشهيدة من بين المتظاهرين. ومنذ ذلك الحين، أصبح الثلاثون من آذار/مارس من كل عام يوماً وطنياً يعبّر فيه الفلسطينيون عن وحدتهم وعزمهم على الدفاع عن أرضهم وتمسكهم بهويتهم الوطنية.
اتسمت سنة 1975 بتفاقم الحملات الإسرائيلية الرامية إلى الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين وحصرهم في جزر معزولة عن بعضها البعض. وفي المقابل، اتسم هذا العام أيضاً باستشعار الفلسطينيين وقياداتهم خطورة المشاريع الإسرائيلية، فشهد تحركهم تصاعداً تدريجياً في تعبئة القوى وتنظيمها وتوحيدها، الأمر الذي أدى في نهاية الأمر إلى الإعلان عن يوم 30 آذار/ مارس 1976 يوم احتجاج شامل دفاعاً عن أرضهم المهددة بالمصادرة والاستيطان.
لقد شكل النجاح الفلسطيني الكاسح في يوم الأرض، والتضحيات التي قدمت فيه، علامة فارقة في تاريخ النضال العربي داخل الأراضي المحتلة منذ سنة 1948، ونقطة التقاء مع التجمعات الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات.
بدأ التحرك في 21 أيار/ مايو 1975 عندما بادر بعض الناشطين السياسيّين والمثقّفين العرب إلى عقد اجتماع تشاوري في حيفا (كان من بينهم المحامي حنّا نقارة، والمحامي محمد ميعاري، والشيخ فرهود فرهود، ومحمد كيوان، ومحمود سعيد نعامنة، ومسعد قسّيس، وصليبا خميس)، وقد دعوا في إثره عدداً كبيراً من رؤساء السلطات المحلّـية العربية، والناشطين السياسيّين والمثقّفين والمحامين والأطباء والصحافيّين، إلى عقد لقاء في 29 تموز/ يوليو من العام ذاته، للتحضير لاجتماع موسّع يرمي إلى بلورة ردّ شعبي على المشاريع الاستيطانية المزمع تنفيذها. وفي ذلك اللقاء، تقرر إنشاء “لجنة مبادرة للدفاع عن الأراضي.”
بعد إنشائها، دعت “لجنة مبادرة للدفاع عن الأراضي” إلى عقد اجتماع تشاوري آخر في 14 آب/ أغسطس في الناصرة، وترأّسه الناشط السياسي وعضو حركة الأرض سابقاً، أنيس كردوش، وانبثق عنه تشكيل “اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي”، بمشاركة 121 عضواً من جميع التيارات والأطر السياسية والفكرية ومن المناطق المختلفة (الجليل والمثلّث والنقب)، والعديد من رؤساء السلطات المحلّـية العربية. كما تقرّر إنشاء لجان محلّـية في القرى للدفاع عن الأراضي، وعقد اجتماعات ومهرجانات ونشاطات مختلفة بغية زيادة الوعي بين السكّان العرب بشأن التهديد القائم خلف سياسة المصادرات، وتعديل قانون ضريبة الأملاك في تموز/ يوليو 1972 (الذي رمى إلى جعل الملاّكين العرب يضطرون إلى بيع أراضيهم جراء رفع نسبة الضريبة بشكل جوهري)، وإنشاء مستوطنات في محيط البلدات العربية. كذلك اتّخذ المجتمعون قراراً بعقد مؤتمر عام للدفاع عن الأراضي في مدينة الناصرة في 18 تشرين الأوّل/ أكتوبر 1975.
اعتُبر المؤتمر العام أكبر مؤتمر شعبي عقده السكّان العرب في الداخل منذ سنة 1948، فاحتشدت فيه مئات الوفود وآلاف الأشخاص الذين أتوا من كافة التجمعات العربية. وصدر عن المؤتمر بيان تلاه حنا نقارة استعرض فيه المشاريع الاستيطانية الإسرائيلية والوسائل والحجج التي تلجأ إليها السلطات للاستيلاء على الأراضي العربية.
كما أصدر المؤتمر عدداً من القرارات، من ضمنها المطالبة بوضع حد لسياسة مصادرة الأراضي العربية التي تعتبر “خطراً يتهدّد كيان [الجماهير العربية] القومي واليومي”، وتشكيل لجنة متابعة لتنفيذ قرارات المؤتمر، والأهم من ذلك أنَّ المؤتمِرين تناولوا إمكانية إعلان إضراب عام في جميع أماكن وجود السكّان العرب في البلاد إذا لم تتراجع الحكومة عن مشاريع المصادرة، من دون أن يشيروا إلى يوم محدّد لهذا الإضراب.
في نهاية السنة، أقدمت السلطات الإسرائيلية على مصادرة نحو 3 آلاف دونم من الأراضي التي يملكها أهالي قرية كفر قاسم، هذه القرية التي وقعت ضحية مجزرة رهيبة قبل ما يقارب 20 عاماً. وقد تبع قرار المصادرة قرار آخر في مطلع شباط/ فبراير 1976 رفضت الشرطة بموجبه منح تصاريح تسمح للفلاحين من قريتي عرّابة وسخنين ودير حنّا بدخول أراضيهم الواقعة في منطقة المال (التي تعتبر جزءاً صغيراً من “المنطقة رقم 9” والتي كانت تستخدم لتدريبات عسكرية)، وأعلمتهم بأن من يدخل هذه الأراضي يرتكب مخالفة جنائية.
رداً على هذا الإجراء، شهدت قرية سخنين في 14 شباط/ فبراير التئام مؤتمر شعبي واسع احتشد فيه ما يزيد على 5 آلاف نسمة، وصدر عنه بيان طالب بإلغاء الصبغة العسكرية عن الأراضي المغلقة ودعا، فيما دعا، إلى إعلان إضراب عام وشامل. وبغية تحضير السكان العرب للإضراب، تكثّفت جهود اللجان المحلّـية للدفاع عن الأراضي وفروع الحزب الشيوعي المحلّـية التي قامت بتوزيع المناشير وتنظيم المظاهرات والمسيرات وعقد الاجتماعات في العديد من القرى والمدن العربية، وبخاصّة في قرى سخنين وعرّابة ودير حنّا.
في هذا الجو المتوتر الناجم عن المطالبة العربية بتراجع السلطات الإسرائيلية عن إجراءات مصادرة الأراضي وعن الاستعداد المتزايد لمواجهة هذه السلطات، اتخذت الحكومة الإسرائيلية برئاسة يتسحاق رابين، بتاريخ 29 شباط، قراراً آخر بمصادرة 20 ألف دونم من أراضي الجليل في إطار خطة “تطوير الجليل”. فما كان من “اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي” إلا الرد بالدعوة إلى عقد اجتماع موّسع في الناصرة في 6 آذار/ مارس 1976، حضره 70 مندوباً من مختلف القرى العربية (رؤساء سلطات محلّـية، ولجان دفاع محلية)، واُتُخذ في هذا الاجتماع قرار بدعوة الجماهير العربية ومؤسّساتها الشعبية وفئاتها المختلفة في البلاد “إلى إعلان الإضراب العامّ في 30 آذار 1976 وتحويل هذا اليوم إلى ’يوم الأرض‘ في الداخل، ترفع فيه الجماهير العربية صوتها مطالبة بوضع حدّ للسياسة الرسمية التي أصبحت تهدّد مستقبل الجماهير العربية في البلاد.”
في 19 آذار 1976، اجتمعت اللجنة التوجيهية لـ حزب العمل، بمشاركة رئيس الحكومة يتسحاق رابين، ويوسف الموغي (رئيس الوكالة اليهودية)، وغولدا مئير (سكرتيرة حزب العمل)، وتبنت قراراً يدعو إلى تعزيز حضور قوّات الشرطة في الناصرة والقرى العربية، واتّخاذ “أشدّ الإجراءات” ضدّ الإضراب والمظاهرات المتوقّعة. ويبدو أن وزير الشرطة، شلومو هيلل، الذي حضر هذا الاجتماع، طلب تعزيزات من الجيش لتكون تحت قيادة الشرطة وحرس الحدود لمواجهة الإضراب العام. وبذلت جميع الصحف الإسرائيلية ونقابة العمال العامة (الهستدروت) ووزارة التربية والتعليم والثقافة ووزارة الداخلية وحاكم لواء الشمال (يسرائيل كنيغ) ووزير الصحة (فيكتور شيمطوف) جهوداً حثيثة لإجهاض الإضراب، وذلك عبر اللجوء إلى الدعاية المضادة ووسائل الترغيب والترهيب.
في 25 آذار، وبعد ضغط وتهديد من حاكم لواء الشمال وضبّاط الشرطة، اجتمع بعض رؤساء السلطات المحلّـية العربية في بلدية شفا عمرو، بهدف إلغاء الإضراب. وبعد مشادّات كلامية حادّة شهدتها قاعة الاجتماع، أكد رؤساء سلطات محلّـية آخرون من أعضاء “اللجنة القطرية للدفاع عن الأراضي”، أن لا سلطة للمجتمعين لإلغاء قرار بادرت إليه واتّخذته اللجنة. وفي مساء اليوم ذاته، أعلنت سكرتاريا اللجنة “أنّ إضراب الجماهير العربية في إسرائيل يوم 30 آذار 1976 احتجاجاً على مصادرة الأراضي العربية في الجليل ومناطق أخرى في البلاد، سيجري في موعده المقرّر”.
اندلعت الشرارات الأولى للمواجهة بين المواطنين وقوات الأمن الإسرائيلية في قريتي دير حنّا وعرّابة في 29 آذار، أي عشية يوم الأرض. ففي عصر ذلك اليوم، خرج أبناء هاتين القريتين في مظاهرتين، أشعلوا خلالهما إطارات السيارات وقاموا بإغلاق شوارع عديدة في دير حنّا، وطالب المتظاهرون في عرّابة بإطلاق سراح عضو مجلس عرّابة المحلّـي السيّد فضل نعامنة، الذي اعتُقل في اليوم السابق (فأُطلق سراحه نحو الساعة العاشرة ليلاً في 29 آذار). تدخّلت قوّات من الجيش والشرطة في المساء، وأطلقت الرصاص الحي على المتظاهرين، فجُرح عدد كبير منهم. في المقابل أغلقت الجماهير العربية الطريق الرئيسي في سخنين، لعرقلة دخول الآليّات العسكرية إليها وإلى قريتَي عرّابة ودير حنّا. ورُجمت الآليّات بالحجارة ورميت عليها زجاجات حارقة في الشارع الرئيسي في سخنين.
وفي فجر يوم الإضراب، قامت الشرطة وقوّات من الجيش وحرس الحدود بمداهمة قرى ومدن عربية (من بينها سخنين وعرّابة ودير حنّا والناصرة وطمرة والطيبة وباقة الغربية والطيرة ونحف)، بواسطة سيّارات عسكرية ومجنزرات ودبّابات، كما داهمت قرى ومدناً أخرى (من بينها المغار ودالية الكرمل وكفر قاسم وكفر قرع وقلنسوة وجلجولية، ومدينتا حيفا وعكا) لاعتقال شخصيّات سياسية ناشطة، أو لتفريق مظاهرات.
وعلى الرغم من جميع هذه الإجراءات القمعية، فإن الإضراب كان شاملاً في غالبية القرى والمدن العربية. ووقعت أعنف المواجهات في قرى سخنين وعرّابة ودير حنّا، حيث بلغت حصيلة مواجهات “يوم الأرض” هناك أربعة شهداء (رجا أبو ريّا، وخضر خلايلة، وخديجة شواهنة من سخنين، وخير ياسين من عرّابة)، فضلاً عن سقوط الشهيدين محسن طه (كفر كنّا) ورأفت زهيري (من مخيم نور الشمس للاجئين وقد سقط في المواجهات في الطيبة). كما جُرح خلال المواجهات قرابة 50 فلسطينياً، واعتقلت الشرطة نحو 300 متظاهر.
حملت أحداث يوم الأرض، في بعض جوانبها، نوعاً من العصيان المدني ومواجهات عنيفة، بدت وكأنّها بين قوّة عسكريّة ومتمردين. فعلاوة على المواجهات بين المتظاهرين (ولا سيّما النساء) وقوّات الجيش، احتُجز أربعة من أفراد الشرطة وستّة جنود في أحد بيوت قرية سخنين، وحاول بعض سكّان سخنين الوصول إليهم، وسط حصار فرضه آلاف غيرهم على البيت، ولم يمنعهم من ذلك سوى تدخّل بعض الأشخاص وصاحب البيت الذين فتحوا قنوات تفاوض مع قادة القوّة العسكرية لإخراجهم من القرية سالمين. كما احتُجزت مصفّحة عسكرية في داخلها عدد من الجنود في أحد أحياء قرية عرّابة، وفتحت قناة للتفاوض بين أبناء القرية وبين القائد العسكري للواء الشمال رفائيل إيتان في حينه (الذي أصبح رئيساً لأركان الجيش الإسرائيلي أثناء غزو لبنان سنة 1982)، الذي هدد باقتحام القرية وهدمها تماماً، إن لم يُطلَق سراح الجنود وتُفتح الطريق أمام المصفّحة للخروج. كذلك حوصر عدد من الجنود في أحد أزقّة قرية دير حنّا.
ومن الجدير بالذكر، أن وزارة الدفاع الإسرائيلية اعتبرت مواجهات ذلك اليوم “نشاطاً حربياً”، كما جاء في ردّها على مطالبة بعض المصابين بالتعويضات.
وفي إطار التضامن مع الجماهير العربية في مناطق 1948 والمساهمة في إنجاح إضراب “يوم الأرض”، كان ممثلون عن المنظمات الجماهيرية والمؤسّسات الفلسطينية قد عقدوا اجتماعاً في 17 آذار في بيروت، قرروا فيه اتخاذ عدد من الإجراءات الرامية إلى توسيع نطاق المشاركة في هذا اليوم عربياً وعالمياً. كذلك تجنّدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية لإنجاح “يوم الأرض” وتحويله إلى “يوم الأرض الفلسطينية المحتلّة جميعها”. وفي 30 آذار، بالتزامن مع التحرك الشعبي العربي في إسرائيل، شهدت الضفة الغربية وقطاع غزة ومخيمات اللجوء في لبنان إضرابات تضامنية.
لقد شكل يوم الأرض نقطة تحول في التوجهات والأدوات النضالية للفلسطينيين في الداخل. فقد بلوروا تدريجياً بعد هذه المناسبة كيانهم كمجموعة وطنية واحدة فيما هو أبعد من نضالاتهم المحلية. وفي الوقت ذاته، خلقوا المناسبة الواحدة التي يمكن أن يلتف حولها الفلسطينيون في كل مكان. فمنذ سنة 1976 حتى اليوم، يحيي الفلسطينيون في إسرائيل والضفة الغربية وقطاع غزة والشتات ذكرى يوم الأرض، تأكيداً لتمسكهم بأرضهم ووطنهم، ولعدم استسلامهم لواقع استمرار السياسة الإسرائيلية في الاستيلاء على أراضيهم.