مدار : 12 تشرين الأول/ أكتوبر 2025
شهدت العديد من المناطق في قطاع غزة احتفالات باتفاق وقف إطلاق النار بعد موافقة حماس رسميا وتسليمها ردها النهائي، ثم دخول الاتفاق حيز التنفيذ بعد مصادقة مجلس الحكومة الصهيوني عليه. وقد أعطيت الأوامر لجيش الاحتلال الإسرائيلي بالانسحاب وإعادة التمركز بالقطاع نحو الخط الأصفر، في انتظار الأوامر من القيادة السياسية، كما أعدت الترتيبات لاستقبال الرهائن وزيارة ترامب إلى مصر التي سيعلن فيها سريان تنفيذ الاتفاق نهاية الأسبوع.
وتتضارب التصريحات بين قيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس ومسؤولي الاحتلال بخصوص أهداف الاتفاق وبنوده، إذ اعتبرت قيادة حماس أن الاتفاق الذي وافق عليه الطرفان سيمكن من وقف الحرب ورفع الحصار وإدخال المساعدات وإعادة الأسرى، وأن الوسطاء قدموا ضمانات بألا تخرق إسرائيل التزاماتها مثل ما وقع سابقا. وفي المقابل صرح المسؤول الأول عن جريمة الإبادة بنيامين نتنياهو بأن الاتفاق يمكن من تحقيق أهداف الحرب بإعادة الرهائن، وهو ما يشكل بالنسبة له نصرا دبلوماسيا لإسرائيل، وعكس تصريحاته السابقة لم يتطرق لأهداف الحرب، كما ركزت تصريحاته على المحتجزين، واعتبر عودتهم نصرا قوميا وأخلاقيا لدولة إسرائيل بخلاف خطابه المعتاد منذ بدء الإبادة بخصوص هزيمة حماس وإعادة احتلال القطاع.
اتفاق وقف النار: البنود والمآلات
يشكل الاتفاق الحالي المرحلة الأولى مما سمي مقترح ترامب للسلم، الذي يتضمن في مسودته 21 بندا ويضمنه الوسطاء، وهم الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وتركيا وقطر. ووضعت إدارة ترامب أجندة واضحة لهذه المرحلة الأولى تبدأ بالاتفاق المتبادل، ثم انسحاب جيش الاحتلال إلى ما وراء الخط الأصفر في غضون 24 ساعة من مصادقة حكومة نتنياهو، ثم إطلاق سراح الرهائن الأحياء واعادة 360 من جثث القتلى الصهاينة في غضون 72 ساعة. وبالمقابل سيطلق الكيان الصهيوني سراح 250 أسيرا فلسطينيا من المحكومين بالمؤبدات و1700 من الأسرى المعتقلين بعد طوفان الأقصى وغير المشاركين فيه. كما سيطلق سراح 22 قاصرا دون 18 سنة من غير المشاركين في عملية طوفان الأقصى.
رغم ذلك يتضمن الاتفاق العديد من البنود التي لم يتم التدقيق بعد في كيفيتها تطبيقها، مثل البند التاسع المتعلق بإدارة غزة من قبل حكومة انتقالية مؤقتة من تكنوقراط فلسطينيين بإشراف هيئة دولية بقيادة واشنطن، بالتعاون مع شركاء عرب وأوروبيين، والبند الثالث عشر بخصوص نزع سلاح حماس ومنعها من الحكم، والبند السادس عشر المتعلق بالانسحاب التدريجي للجيش الإسرائيلي، والبند العشرين الذي يوصي بتمهيد الطريق لإقامة دولة فلسطينية في المستقبل، وغيرها. وتقدم تأويلات المسؤولين فهما مختلفا لكلا الطرفين، وهوما يفتح المجال أمام حكومة الاحتلال للمناورة وإمكانية التراجع عن الاتفاق، خصوصا بعد رفض جزء من الائتلاف الحكومي لنتنياهو المصادقة عليه، إذ صوت المتطرف بنغفير وسموتريتش ضده، وتعهد هذا الأخير بتدمير حماس بعد عودة الرهائن. كما صرح وزيرالعدل الصهييوني بأن الاتفاق يتضمن تنازلات مؤلمة وبأنه سيعمل على ضمان ألا تعود حماس لحيازة السلاح.
الصفقة الأمريكية والاتفاق الجزئي الهش ورهانات ترامب:
عملت الإدارة الأمريكية على الضغط على الطرفين، سواء حماس عبر الوسطاء، من قبيل تركيا وقطر ومصر، أو على حكومة نتنياهو التي عملت منذ بداية حرب الإبادة على إفشال أي اتفاق، بل ونقضت اتفاق 1701 رغم ضمانات الوسطاء. ويتبين من مشاركة صهر ترامب كوشنر ومبعوثه للشرق الأوسط ويتكوف في اجتماع جلسة الحكومية الإسرائيلية للمصادقة على الاتفاق عدم قدرة نتنياهو على الحصول على موافقة الأحزاب المشكلة للائتلاف الفاشي لحكومته، بل شكل حضور المسؤولين الأمريكيين ضغطا إضافيا من أجل تمرير المصادقة الإسرائيلية على الاتفاق.
كما يبدو من تصريحات ترامب الجديدة بخصوص التزامه بحل الدولتين وعدم إجبار الفلسطينيين على مغادرة غزة أن هناك تراجعا في الموقف الرسمي الأمريكي المعلن بخصوص قطاع غزة، وضغطا على حكومة الكيان من أجل قبول الاتفاق ووقف إطلاق النار، رغم محاولات الحكومة الفاشية التحايل على الاتفاق، سواء باستمرار القصف واستهداف المدنيين أو برفض الإفراج عن أسماء قيادية وازنة من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
ويعول ترامب على هذا الاتفاق من أجل العودة إلى وضع ما قبل السابع من أكتوبر ومواصلة اتفقايات التطبيع ضمن ما سميت صفقة القرن، كما يعول على الدعم الدولي للاتفاق من أجل استرجاع مكانة أميركا كراعية للسلام وقائد للنظام الدولي العالمي بعدما تلطخت سمعتها بدماء الأطفال والمدنيين وابتعد عنها حتى أقرب حلفائها، أي الدول الأوروبية. إذ أدانت معظم الدول الأوروبية سياسة التهجير والتجويع والتقتيل التي نهجها نتنياهو، واعترفت أكثر من نصفها بالدولة الفلسطينية، بالإضافة إلى كندا وأستراليا، في خطوة لم تكن لتقدم عليها هذه الدول دون موافقة أمريكية قبل السابع من أكتوبر. ويهدف ترامب إلى لجم الدبلوماسية الأوروبية الموازية بقيادة فرنسا، وإعادة المبادرة العالمية لأمريكا على أساس دعم الاتفاق الحالي.
اتفاق ترامب للسلام: بنود ملغومة وضمانات غائبة
تواجه المقاومة الفلسطينية مستقبلا عصيبا حسب بنود الاتفاق الذي يتحدث عن نزع سلاح حماس، وعدم مشاركتها في الإدارة المقبلة للقطاع، واستمرار التواجد العكسري الإسرائيلي خلف الخطوط المتفق عليها، وحتى وجود قوة دولية تشرف على تطبيق الاتفاق قد تعقد من مهام النضال التحرري الفلسطيني.
بالإضافة إلى ذلك لا توجد ضمانات دولية حقيقية لإلزام الكيان الصهيوني بالاتفاق، فالضغط الأمريكي محدود بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط والأولويات التي تضعها الإدارة الأمريكية، ومن ضمنها تسريع اتفاقيات الإذعان الاقتصادي والتبعية السياسية لدول الخليج التي وضعتها حرب الإبادة في حرج أمام شعوبها ووضع سلبي أمام منافسيها الإقليميين. كما تهدف الإدارة الأمريكية إلى استئناف إنجاز المخططات الاقتصادية والسياسية الإستراتيجية الكبرى لمحاصرة المد الصيني، وإقامة الممر الاقتصادي الذي يربط آسيا بالمصالح الأمريكية في الشرق الأوسط وأوروبا من أجل إعادة التحكم في دول المنطقة وإخضاع غرب آسيا. كما أن الدول العربية عاجزة حتى عن بلورة رد ملموس على استهداف بعضها مباشرة من طرف الكيان، ولا تعد مخرجات القمة العربية الإسلامية بخصوص الهجوم على قطر إلا استمرارا لنهج الإدانة الشفهية والتطبيع الرسمي للعديد من الدول العربية. من جهة أخرى يقف المجتمع الدولي عاجزا أمام التغول الإسرائيلي المدعوم أمريكيا، ولا تستطيع تصريحات روسيا والصين الخجولة هنا وهناك أن تغير شيئا من واقع الأمر.
السابع من أكتوبر مرة أخرى: أي تقييم للمنجزات والتضحيات
لا شك أن وضع التضحيات الهائلة التي بذلها الشعب الفلسطيني في قطاع غزة أمام بنود الاتفاق الحالي يسائل معركة السابع من أكتوبر من حيث قيمة المنجزات مقابل حجم الخسائر والتضحيات، إلا أن التقييم الحقيقي للمعركة يتطلب العودة إلى وضع ما قبل السابع من أكتوبر، ثم ما تلاه من حرب إبادة، وصولا إلى الاتفاق الحالي.
إذ شهدت القضية الفلسطينية منذ ولاية ترامب الأولى منعطفا خطيرا تجلى في توقيع اتفاقيات أبراهام التي نقلت التطبيع العملي للعديد من الدول العربية إلى تطبيع رسمي، وجرت معها دولا أخرى في إطار اتفاقيات اقتصادية وأمنية مع إسرائيل كان الغائب الأكبر فيها ممثلو الشعب الفلسطيني ومطالبه. وقد زادت من خطورة الوضع حالة الانقسام التي يعرفها الوضع الداخلي وارتهان السلطة الفلسطينية لالتزامات اتفاق أسلو رغم تراجع نتنياهو عنه. وقد شكل هذا الأخير ائتلافه الحكومي اليميني المتطرف بالتعاقد مع باقي الأحزاب الفاشية على أساس ضم الضفة الغربية بالكامل إلى إسرائيل، وتفكيك السلطة الفلسطينية والسيادة على يسمونهما يهودا والسامرة. وقد شكلت هذه الاتفاقيات التصفوية للقضية الفلسطينية أساس ترؤس بنيامين نتنياهو الحكومة أواخر عام 2022، التي استوزر خلالها العديد من الفاشيين من قبيل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، زعيم حزب “الصهيونية الدينية”، ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، زعيم حزب “القوة اليهودية” وغيرهما. وبعد السابع من أكتوبر حددت الحكومة الفاشية لنتنياهو أهداف الحرب في القضاء على حماس، واسترحاع المحتجزين وإعادة احتلال القطاع وضم الضفة ووضع الفلسطينيين أمام خيارين، التهجير أو الموت، بهدف توحيد ما تسميها إسرائيل الكبرى.
أمام كل هذه المخططات التي تطبقها إسرائيل بحرب الإبادة والتقتيل بدعم أمريكي شامل، مكن صمود الشعب الفلسطيني وتشبث المقاومة بخيار الكفاح في أصعب الظروف من إسقاط كل هذه الأجندات، وأفشل مخطط التهجير، وأثبت شرعية الوجود بأرض فلسطين عبر تحقيق الاعتراف بالدولة الفلسطينية من طرف 159 دولة، وأرجع القضية الفلسطينية إلى رأس جدول أعمال حركة التضامن العالمي.
وبالنسبة لما حققته المقاومة الفلسطينية بغزة يمكن الاتفاق في مرحلته الأولى من وقف الإبادة والتقتيل وإدخال المساعدات والمستلزمات الضرورية، وإطلاق سراح المئات من المعتقلين في السجون الإسرائيلية من الأوزان الثقيلة. كما تمكن الشعب الفلسطيني بصموده من إسقاط مخطط التهجير وضمان عودة السكان إلى أجزاء من القطاع. وقد أصبح المجرم نتنياهو اليوم يتحدث فقط عن عودة الرهائن كمكسب قومي لإسرائيل دون الإشارة للاهداف التي وضعها من قبل.
من جهة أخرى تمكنت المقاومة الفلسطينية عبر كفاحها وعبر الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني بغزة من الحصول على تضامن عالمي منقطع النظير، لعب دورا كبيرا في اتخاذ العديد من الحكومات الغربية موقفا ضد جريمة الإبادة الصهيونبة، ما دفع ترامب إلى القول إن إسرائيل لا يمكنها مواجهة العالم كله، كما تمكنت المقاومة من إيقاف التواطؤ الأمريكي وتغيير موقف الإدارة الأمريكية من الدعم الشامل والتواطؤ المباشر في جريمة الإبادة ومخططات التهجير إلى الضغط من أجل اتفاق السلام.
ويبقى المجال مفتوحا لكافة السيناريوهات، خصوصا مع اشتداد الخناق على نتنياهو بسبب ضغط أحزاب ائتلافه الحكومي الفاشي وقرب موعد الانتخابات، لكن فقط صمود الشعب الفلسطيني وتشبثه بخيار المقاومة الضامن لتحرره، أضف لذلك ضرورة الاشتغال على المستوى الداخل الفلسطيني لإفشال مخطط الوصاية الدولية عبر توحيد إستراتيجية المشروع الوطني الفلسطيني وإعادة بناء مؤسساته بإشراك كافة الفصائل، وضرورة استمرار التضامن الأممي الذي أزال قناع السردية الصهيونية وثبت المشروعية الفلسطينية كحق تدعمه شعوب العالم وحكوماته.
كما يتوجب على الحركات المناضلة أمميا وشعوب العالم الاستمرار في الضغط على الحكومات من أجل محاسبة المجرمين الصهاينة المسؤولين عن حرب الإبادة، وفي مقدمتهم نتنياهو، والنضال ضد التطبيع مع الكيان الصهيوني الفاشي، والاستمرار في دعم صمود الشعب الفلسطيني حتى تمكنه من تقرير مصيره.