مدار: 15 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025
يواجه المجتمع المدني التونسي حملة قمع ممنهجة ومتصاعدة، تشنها السلطات على جبهات متعددة، مهددة بتفكيك سيادة القانون وخنق أي شكل من أشكال المعارضة المستقلة، وفق تقرير حقوقي حديث.
وحسب منظمة العفو الدولية، دخلت حملة القمع ضد المنظمات الحقوقية التونسية مراحل خطيرة، حيث تستخدم السلطات ترسانة من الإجراءات القضائية والإدارية والمالية لشل حركة المجتمع المدني.
وتشمل هذه الأدوات الاعتقالات التعسفية، وتجميد الأصول، وفرض قيود مصرفية خانقة، وصولاً إلى قرارات قضائية بتعليق نشاط منظمات بارزة، كل ذلك تحت غطاء ذرائع فضفاضة مثل مكافحة التمويل الأجنبي “المشبوه” وحماية “المصالح الوطنية”.
وقالت إريكا غيفارا روساس، عن منظمة العفو الدولية، إن ما يحدث هو “تآكل متواصل للمجتمع المدني” و”تفكيك ممنهج لسيادة القانون”، واصفة إياه بأنه جزء من “توجه أوسع نحو ممارسات استبدادية”.
وبدأت الحملة تكتسب زخماً منذ عام 2023، لكنها شهدت تصعيداً حاداً في مايو/أيار 2024، حين اتهم الرئيس قيس سعيّد المنظمات غير الحكومية العاملة في مجال الهجرة بأنهم “خونة” و”عملاء أجانب”.
وقد كان هذا الخطاب بمثابة الضوء الأخضر لتحرك قضائي واسع، فبعد يوم واحد، أعلن وكيل للجمهورية عن فتح تحقيق ضد هذه المنظمات، لتبدأ بعدها موجة من المداهمات والتحقيقات المالية التي طالت ما لا يقل عن 12 منظمة تونسية ودولية، وفق ما جاء في الوثيقة الصادرة بتاريخ 14 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025.
وكانت ألقت الشرطة القبض على 10 من مديري وموظفي هذه المنظمات، بعضهم ما زال رهن الحبس الاحتياطي بتهم خطيرة، ومن أبرز القضايا، محاكمة ستة من العاملين في “المجلس التونسي للاجئين”، بينهم المدير التنفيذي مصطفى جمالي ومدير المشروع عبد الرزاق كريمي المحتجزان منذ مايو/أيار 2024.
ويواجه هؤلاء تهماً قد تصل عقوبتها إلى السجن 13 عاماً، مثل “تكوين وفاق” لتسهيل دخول أشخاص إلى التراب التونسي، رغم أن عملهم كان يتم بالشراكة مع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين.
وبالمثل، يمثل ثلاثة موظفين من جمعية “تونس أرض اللجوء” أمام المحكمة في ديسمبر/كانون الأول، بعد احتجازهم منذ مايو/أيار بتهم “إيواء أشخاص دخلوا خلسة”. اللافت في هذه القضية هو استشهاد قاضي التحقيق بـ”مخطط المجتمع المدني المدعوم من أوروبا لتعزيز الاندماج” كدليل يدعم التهمة، مما يكشف عن تحويل العمل الحقوقي المشروع إلى جريمة، تتابع منظمة العفو الدولية.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية في سبتمبر/أيلول 2024، اتسعت دائرة القمع لتشمل منظمات مراقبة الانتخابات ومكافحة الفساد، إذ رفضت الهيئة العليا المستقلة للانتخابات اعتماد منظمتي “مراقبون” و”أنا يقظ” بحجة تلقيهما “تمويلات أجنبية مشبوهة”، وسرعان ما استدعتهما فرقة مكافحة التهرب الجبائي وجمدت حساباتهما المصرفية، مما أدى إلى شلّ عملهما فعلياً.
وامتدت التحقيقات لتشمل منظمات حقوقية كبرى، بما في ذلك المكتب الإقليمي لمنظمة العفو الدولية في تونس، والمنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، ومؤسسات إعلامية.
وتتنوع الجهات التي تتولى التحقيق، من الشرطة إلى الحرس الوطني، بتهم مثل سوء التصرف المالي وغسيل الأموال، مما يخلق ضغطاً قضائياً وإدارياً هائلاً.
وإلى جانب الملاحقات الجنائية، تستخدم السلطات أداة إدارية أخرى تتمثل في تعليق أنشطة الجمعيات بموجب المرسوم عدد 88، الذي كان يعتبر في السابق ضمانة لحرية التنظيم، فخلال أربعة أشهر فقط، صدرت أوامر قضائية بتعليق نشاط 14 منظمة لمدة 30 يوماً، بينها أسماء وازنة مثل “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” و”المنظمة العالمية لمناهضة التعذيب”.
وتؤكد عدة منظمات أن هذه القرارات تعسفية، حيث لم تتلقَّ تنبيهاً مسبقاً لتصويب أوضاعها كما ينص القانون، أو أنها كانت قد تداركت المخالفات المزعومة بالفعل.
وقد أدى قرار تعليق نشاط “الجمعية التونسية للنساء الديمقراطيات” إلى إغلاق مراكز إيواء النساء وتوقف خط المساعدة للناجيات من العنف الأسري، مما ترك نساءً في أمس الحاجة إلى الحماية والدعم دون ملاذ، تقول منظمة العفو الدولية.
وعلى إثر القيود المصرفية التي فرضتها السلطات التونسية، واجهت 20 منظمة على الأقل صعوبات في تلقي تمويلاتها الخارجية، حيث رفضت المصارف إتمام التحويلات أو طلبت وثائق مرهقة تسببت في تأخيرات وصلت إلى عشرة أسابيع، ووصل الأمر إلى أن بعض البنوك وجهت تعليمات لمنظمات بإغلاق حساباتها دون مبرر، مما أجبر إحداها على إغلاق مكتبها بالكامل.
وتترافق هذه الحملة مع حملات تشويه ممنهجة عبر وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي المقربة من السلطة، حيث يتم وصم النشطاء والمنظمات بـ”المرتزقة” و”الخونة”، مما يخلق مناخاً عاماً من الخوف يقيّد حرية التعبير ويخنق الحيز المدني، حسب ما جاء في التقرير المذكور.
وتطالب منظمة العفو الدولية بإنهاء فوري لما وصفته بـ “الحملة الترهيبية”، وإسقاط التهم التعسفية، والسماح للمنظمات بمزاولة أنشطتها بحرية، قبل أن يتم إغلاق آخر نوافذ الفضاء المدني في البلاد.

