التطلعات البروميثية للشعوب السمراء: المراسلة 4 (2025)

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 07 شباط/ فبراير 2025*

فيجاي براشاد

صورة الواجهة: باسانجاف شويجيلجافين (منغوليا)، طعم المال بين السحب، 2009.

كان هناك فهم واضح، منذ عقود، بأن نماذج التنمية التي اقترحها صندوق النقد الدولي وإجماع واشنطن – الديون والتقشف والتقويم الهيكلي – لم تنجح بكل بساطة. فالتاريخ الطويل من الشدائد التي عانت منها البلدان المُستعمرة سابقا لا يزال على حاله. تُظهر نظرة سريعة على الأرقام الواردة في قاعدة بيانات مشروع ماديسون 2023 أن الناتج المحلي الإجمالي العالمي (GDP) من حيث تعادل القوة الشرائية (PPP) قد ارتفع بنسبة 689.9% بين عامي 1980 و2022 (من 18.8 تريليون دولار إلى 148.5 تريليون دولار). ومع ذلك، وخلال الفترة نفسها، لم تنخفض معدلات الفقر العالمية بوتيرة متناسبة، مما يشير إلى أن فوائد النمو الاقتصادي العالمي لم يتم توزيعها بشكل عقلاني. والاستثناء الوحيد لهذا الاتجاه هو الصين. يُظهر لنا أحدث تقرير صادر عن مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) بعنوان ”عالم من الديون“ أن الدين العام العالمي بلغ ”مستوى قياسيًا مرتفعًا“ وصل 97 تريليون دولار أمريكي (2023) وأن الدين العام في البلدان النامية ”نما بضعف سرعة نمو الدين العام في البلدان المتقدمة“ منذ سنة 2010. وليس من المستغرب أن مؤسسات مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي قد أخبرت بلدان الجنوب لعقود من الزمن أن الطريقة الوحيدة للخروج من الديون هي الاقتراض – أي الاستدانة. وفي عام 1998، كتبت صحيفة “وول ستريت جورنال” بصراحة أن صندوق النقد الدولي ”لم يكن يكافح الحرائق المالية، بل كان يغمرها بالبنزين“.

باولا نيتشو كوميز (غواتيمالا)، ”ما وراء الكون“، 2005.

عام 1980، تحت قيادة الرئيس جوليوس نيريري، نظمت حكومة تنزانيا مؤتمر جنوب-شمال حول النظام النقدي الدولي والنظام الدولي الجديد. وقد أسفر ذلك المؤتمر عن مبادرة أروشا التي دعت إلى إنشاء سلطة نقدية دولية جديدة تكون تحت إدارة ومراقبة ديمقراطية، مع وحدة عملة دولية تكون بمثابة وسيلة دولية للتبادل وأصل احتياطي أساسي. وحاججت مبادرة أروشا بأنه ”لا يمكن للعالم أن يستمر في تحمل وضع“ حيث ”تفرض دولة واحدة عملتها الخاصة لتلعب هذا الدور ويُسمح بتكوين نقود دولية غير خاضعة للرقابة وحركات مضاربة عابرة للحدود الوطنية“. كان هذا المؤتمر واحداً من المؤتمرات العديدة التي عقدت في تلك الفترة، عندما كانت أزمة ديون العالم الثالث تلوح في الأفق، وبدا واضحاً أن وصفات سياسة صندوق النقد الدولي لن تؤدي إلا إلى تكريس المعاناة وليس التنمية. وتساءل نيريري في ملاحظاته في المؤتمر: ”متى أصبح صندوق النقد الدولي وزارة مالية دولية؟”، وزاد: “متى وافقت الدول على أن تتنازل له عن سلطتها في اتخاذ القرارات؟ … إن مشاكل بلدي وبلدان العالم الثالث الأخرى خطيرة بما فيه الكفاية دون التدخل السياسي لمسؤولي صندوق النقد الدولي. وإذا كانوا لا يستطيعون المساعدة، فعليهم على الأقل أن يكفوا عن التدخل“.

دينه ثي ثام بوونغ (فيتنام)، جنباً إلى جنب، 2020.

مع ذلك، وعلى الرغم من معارضة قادة العالم الثالث مثل نيريري، استمر ”تدخل“ صندوق النقد الدولي. وأنهى نيريري ملاحظاته رافعاً أكفه عاليا: ”أعتقد أنهم سيتحملون المزيد من التضحيات والأعباء الإضافية التي تفرضها علينا الظروف الحالية طالما أنهم مطمئنون إلى أننا نبذل قصارى جهدنا لتقاسم الأعباء بشكل منصف، ونواصل اتباع سياساتنا الخاصة“. ولكن ما هي السياسات ”الخاصة بنا“؟ لم يتم تحديد هذا الأمر في المؤتمر ولم يتم التعبير عنه بوضوح في السنوات الخمس المتبقية من فترة رئاسة نيريري، وسنة 1986، أي بعد عام من مغادرته منصبه، توجهت الحكومة التنزانية الجديدة إلى صندوق النقد الدولي واعتمدت برنامج الإنعاش الاقتصادي الذي خفض الإنفاق العام وحرر ضوابط النقد الأجنبي. ومع غياب بديل في الأفق، اضطرت تنزانيا إلى الاستسلام لصندوق النقد الدولي والتخلي عن سياسات التنمية التعاونية التي طبقها نيريري في أوجاما.

تمر بلدان الجنوب كل بضع سنوات بالدورة نفسها. فبعد استسلامها لصندوق النقد الدولي ونظامه التقشفي الخاص بالديون، تتفشى أزمة عميقة حتمًا وتؤدي إلى اضطرابات سياسية. ثم تظهر قوى جديدة تعد بالخروج من الأزمة، وتتولى حكومات جديدة السلطة، وبعد عدة تجارب تعود هذه البلدان مرة أخرى إلى صندوق النقد الدولي وتستمر الدورة مرة أخرى. وعلى الرغم من وضع ”سياساتنا الخاصة“، وفق ما أشار إليه نيريري. إلا أن ميزان القوى كان معاكسًا إلى درجة أنه لم يكن من الممكن وضع جدول أعمال مستقل من هذا القبيل. فقد تم قمع أي رغبة في نظام اقتصادي دولي جديد، وكان هناك نقص في التمويل الميسر الكافي المتاح للسياسات خارج وصفة صندوق النقد الدولي.

في آخر خطاب له كرئيس للولايات المتحدة الأمريكية قال جو بايدن: “هناك منافسة شرسة جارية – مستقبل الاقتصاد العالمي والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والكثير من الأمور الأخرى”، وأضاف أن هذه “المنافسة العالمية” هي بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة و”إيران وروسيا والصين وكوريا الشمالية” من جهة أخرى، وأن الولايات المتحدة “تفوز” فيها. هناك أمرٌ صبياني في هذا الخطاب. لم تتحدث أي دولة أخرى عن “منافسة”. عندما سأل مراسل فرانس برس المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية قوه جيا كون عن هذه التصريحات، أجاب بهدوء: “خلال السنوات الأربع الماضية، مرت العلاقات الصينية الأمريكية خلال السنوات الأربع الماضية بتقلبات لكنها ظلت مستقرة بشكل عام”. لم يكن هناك أي عداء. كانت الكلمات الرئيسية في بقية الخطاب هي ”التشاور“ و”الحوار“ و”التعاون“. لكن بايدن لديه وجهة نظر. فقد أدى صعود الصين، وغيرها من الدول الآسيوية، كمصدر للطلب على السلع وكذلك تمويل التصنيع في دول الجنوب، إلى ترجيح كفة ميزان القوى لصالح الدول النامية. والآن، لم يعد يتعين عليها الاعتماد على صندوق النقد الدولي. فمركز ثقل التجارة العالمية والتكنولوجيا آخذ في التحول.

ولأن هذا التحول في غير صالح الولايات المتحدة – ورأس المال الاحتكاري الذي تمثله – بدأت ترى الوضع على أنه ”منافسة“، في حين أن البلدان التي برزت كقوى اقتصادية كبرى ترى في ذلك حقها في التنمية. نحن، في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي، لا نرى الوضع العالمي الحالي على أنه ”منافسة“ بالطريقة التي يصفها بايدن، بل نراه فرصة. فمع ظهور مصادر جديدة للتمويل والاستثمار، ستتاح لبلدان الجنوب العالمي فرصة أخرى ”لاتباع سياساتنا الخاصة“، كما قال نيريري قبل نصف قرن. ماذا ستكون تلك السياسات الجديدة؟

في ملفنا الأخير ”نحو نظرية تنمية جديدة لبلدان الجنوب العالمي“ (الذي أعددناه بالشراكة مع مؤسسة رؤى الجنوب العالمي)، نرى أن هناك علاقة شديدة الارتباط بين حصة صافي تكوين رأس المال الثابت في الناتج المحلي الإجمالي والنمو الاقتصادي. ببساطة، ما هو مطلوب بشكل أساسي لنمو الاقتصاد هو الاستثمار في الأصول الثابتة الجديدة (سواء كانت مباني أو بنية تحتية أو آلات صناعية). علاوة على ذلك، نبين علاقة ذات دلالة إحصائية بين نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومتوسط العمر المتوقع. وتوضح هذه النتائج أن دخول الاستثمار الأجنبي المباشر والتدفقات المالية المضاربة وحدها لن يحسن المؤشرات الاجتماعية. فنوعية التمويل هي مفتاح جدول أعمال التنمية، وفي قلب ذلك عملية التصنيع. لم يتطور أي بلد من دون صناعة آلية حديثة، ولا يمكن لأي بلد أن يتطور – حسب ما نعرفه في عصرنا الحالي – من دون بناء قدراته الصناعية. يجب علينا الاستثمار من أجل البناء، والبناء من أجل النمو، والنمو من أجل تحسين حياة الناس.

سليمان الكامل (تونس)، Cudding، سنة 2022.

سيقضي معهدنا السنوات القليلة القادمة في استكشاف الجوانب المختلفة لنظرية التنمية الجديدة. نعتقد أن هذه الفرصة، التي يسميها بايدن ”منافسة“، أهم من أن نبددها. هناك شاعرية في السطور الأخيرة من الملف:

لقد علمنا الثوري الأفريقي أميلكار كابرال أن هدف التحرر الوطني هو ”تحرير عملية تنمية القوى الوطنية المنتجة“. لذلك، فإن صياغة نظرية تنمية جديدة للجنوب العالمي هي أيضًا عودة إلى مصدر نضالنا من أجل التحرر من الإمبريالية والاستعمار الجديد. وبها سنتمكن من رسم الطريق للتطلعات البروميثية للشعوب السمراء.

*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 23 كانون الثاني/ يناير 2025.

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مقالات ذات صلة