[ملف]. روح مؤتمر باندونج

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 03 آب/ أغسطس 2025*

ترجمة: محمد السادات

في عام 1955، اجتمع قادة المستعمرات السابقة في الجنوب العالمي في باندونج بإندونيسيا. حيث جمعتهم معًا الروح المشتركة للتحرر الوطني والتعاون. بعد سبعين عامًا من مؤتمر باندونج، هل مازال لتلك الروح أثر؟

الفهرس:

الجزء الأول: ماذا تعني روح مؤتمر باندونج

  • دخلاء على العالم الشرقي
  • التعايش السلمي
  • التعاون التنموي
  • عالم الانقلابات 

الجزء الثاني: لماذا لا توجد روح مؤتمر باندونج اليوم؟

  • غمرة من النوستالجيا
  • المزاج الجديد في الجنوب العالمي
  • لا وجود لروح مؤتمر باندونج اليوم

اجتمع قبل سبعة عقود، في عام 1955، رؤساء حكومات تسع وعشرين دولة أفريقية وأسيوية، بالإضافة إلى ممثلي مستعمرات لم تحظى باستقلالها بعد في مدينة باندونج (إندونيسيا) للمشاركة في المؤتمر الأفريقي الأسيوي. لقد شكّل إحدى أبرز المحطات في مسيرة التحرر من الاستعمار. كان تجمعًا تاريخيًا، إذ مثّل المرة الأولى التي يجتمع فيها ممثلو مئات الملايين من شعوب العالم الثالث لمناقشة العملية الاجتماعية الكبرى المعروفة بإنهاء الاستعمار وتقييم تبعاته. افتتح سوكارنو (1901-1970)، الذي كان يرأس الحكومة الإندونيسية واستضاف المؤتمر، بخطاب عبّر عن طموحات الشعوب التي نظمت هذا المؤتمر. قال أنه أراد من المؤتمر أن “يرشد البشرية” وأن ذلك الإرشاد سوف ” يدل البشرية إلى الطريق الذى يجب عليها أن تسلكه لتحقيق الأمان والسلام”. لم يجتمع هؤلاء القادة فقط للاحتفال باستقلالهم، الهند (1947)، والثورة الصينية (1949)، وتقويض السلطة في ساحل الذهب Gold Coast (1951) الذي أدى في نهاية المطاف إلى تحرير غانا (1957)؛ بل أرادوا “إثبات أن آسيا وأفريقيا جديدتين قد ولدتا”.

كان رسلان عبد الغني (1914-2005) مساعد سوكارنو، يشغل منصب الأمين العام لمؤتمر باندونج. وقد بدأ بالحديث خلال المؤتمر وبعده عن “روح باندونج”، التى وصفها بأنها “الروح المُحبة للسلام، والمناهضة للعنف والتمييز، والتنمية للجميع دون محاولة التدخل الخاطئ في شؤون بعضنا البعض، وإنما لإبداء الاحترام الكبير اتجاه بعضنا”. لم تكن “روح باندونج” هذه مثالية؛ بل كان لها أساس مادي متجذر في نضالات الشعوب المستعمَرة حول العالم من أجل الحرية، وهو ما وصفته الجمعية العامة للأمم المتحدة بعد خمس سنوات في إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة بأنه “سيرورة تحرر” التي “لا تقاوم ولا رجعة فيها”.

وُلدت هذه الروح في خضم النضالات الجماهيرية ضد الاستعمار، ثم وحّدها النشطاء المناهضون للاستعمار حين التقوا في أماكن مثل المؤتمر الديمقراطي الدولي السادس للسلام في بيرفيل، فرنسا (1926)، والمؤتمر الدولي الأول ضد الاستعمار والإمبريالية في بروكسل، بلجيكا (1927). وقد أشار عبد الغني في وقت لاحق إلى أن أولئك الذين اجتمعوا في هذه المؤتمرات كانوا “يتمتعون بنفس الروح المتقدة، ويتحدثون جميعا بنفس الصوت المتردد صداه: كانت تلك هي روح وصوت شعوبهم، الذين تعرضوا للاستعمار والاضطهاد والإذلال”. كانت روح باندونج صوت مئات الملايين من الناس الذين عاشوا تحت نير الاستعمار وتحدثوا ضد فظائع الاستعمار، كما عبّروا عن أملهم في عالم جديد.

تلاشت روح باندونغ ولم يبقَ سوى الحنين اليها. ويرجع ذلك لعدة أسباب أغلبها مدفوع بالضغط من البنية الاستعمارية الجديدة (النيوكولونيالية)، التى استمرت على الرغم من انتهاء الحكم الاستعماري الرسمي. إذ لم تعد الأجيال الجديدة التى ولدت بعد الحكم الاستعماري تتقرب من بقايا النضالات الطويلة والمريرة ضد الاستعمار. تآكلت أجندة التحرر الوطني داخل تلك البنيات الاستعمارية الجديدة، صار العمال والفلاحون في حقبة ما بعد الاستعمار يرون حكم طبقاتهم على أنه المشكلة ولا يرون المشكلات الموروثة من تلك البنية المستعصية على أنها عدوهم. بعد سبعين عامًا على مؤتمر باندونغ، من الجدير ان نتساءل هل ما تزال روح باندونج سليمة، ولو كضباب أثيري فوق الجنوب العالمي. وهذا هو هدف هذا الملف، الذي هو أقرب إلى مقالة مطوّلة تثير بعض الاستفزازات الفكرية أكثر من كونها ثمرة برنامج بحثي طويل الأمد. ونأمل أن تولد هذه التساؤلات المستفزة نقاشات ومناظرات.

الجزء الأول: ماذا تعني روح مؤتمر باندونج

دخلاء على العالم الشرقي

من 5 أكتوبر إلى 14 ديسمبر 1953، قام نائب الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون بجولة موسعة في آسيا، زار خلالها أربعة عشر دولة في المنطقة (من اليابان إلى إيران) ودولتين على أطرافها (أستراليا ونيوزيلاندا). ذهب نيكسون إلى آسيا من أجل بعض الأهداف الهامة: طمأنة حلفاء الولايات المتحدة بشأن اتفاقية الهدنة الموقَّعة في شبه الجزيرة الكورية في يوليو، وتقييم موقع الولايات المتحدة في الهند الصينية، حيث قامت بالفعل بتمويل الجزء الأكبر من العمليات العسكرية بدلًا من فرنسا، قبل أن تحل محلها عسكريًا بعد هزيمة هذه الأخيرة في ديان بيان فو في مايو 1954؛ وأيضا لفهم الدور الجديد للثورة الصينية في آسيا. في مذكراته التي كُتبت بعد عقدين من الزمن، استعاد نيكسون تأملاته من تلك الزيارة وأشار إلى أنه “عندما كان المفكرون المتفائلون في واشنطن والعواصم الغربية الأخرى يقولون أن الشيوعية الصينية لن تشكل تهديدًا في آسيا لأنها كانت شديدة التخلف وغير متطورة”، رأى هو ” أن تأثيرها كان منتشرًا بالفعل عبر المنطقة”. كتب نيكسون، فعلى العكس من السوفييت الذين هم “مثلنا، مايزالون دخلاء على العالم الشرقي”، “فقد أسس الشيوعيون الصينيون برامج للتبادل الطلابي، وأرسل عدد كبير من الطلاب إلى الصين الحمراء من أجل تدريب جامعي مجاني”. كتب نيكسون تقريرًا إلى حكومته، أنه على الولايات المتحدة الاستجابة فورًا للتطورات الجديدة في آسيا التي حفزتها الثورة الصينية.

في سبتمبر 1954، شكّلت ثماني دول منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (SEATO) عقب توقيعها معاهدة دفاع جماعي ُمسماة «ميثاق مانيلا». ثلاثة دول منهم فقط تقع في آسيا (باكستان، الفلبين، تايلاند)، بينما تقع دولتين في أوروبا (فرنسا والمملكة المتحدة). وقد وقع بالفعل الأعضاء الثلاثة الأخرون في SEATO على اتفاقية عسكرية في عام 1951 تدعى الاتفاقية الأمنية بين أستراليا ونيوزيلندا والولايات المتحدة (ANZUS). جاءت هذه المعاهدة ومعها  سياتو SEATO إلى جانب ثلاثة اتفاقيات أخرى رئيسية في جانب الجبهة الباسيفيكية لآسيا: معاهدة سان فرانسيسكو للسلام بين اليابان ودول الحلفاء في 1951، ومعاهدة الدفاع المشترك بين كوريا الجنوبية والولايات المتحدة في 1953، ومعاهدة الدفاع المشترك بين الجمهورية الصينية (كانت تُعرف باسم فورموزا، والآن تايوان) والولايات المتحدة في 1954.  في عام 1951، جادل جون فوستر دوليس، الذي أصبح وزيرًا للخارجية الأمريكية سنة 1953، أن على الولايات المتحدة أن تبني سلسلة جزر من القواعد البحرية تمتد من اليابان إلى شبه جزيرة الملايو (التي تشمل أجزاءًا من ميانمار، وتايلاند، وماليزيا، وسنغافورة) من أجل تطويق الاتحاد السوفيتي وجمهورية الصين الشعبية (PCR). وقد أرست هذه المعاهدات الخمس الأساس لبناء هذه السلسلة من اليابان إلى تايلاند. في 1956، تلقى أحد مسؤولي وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة بريطانية “بخصوص التخطيط العسكري لسياتو (SEATO) و الجاري وفقًا لافتراض أن الأسلحة النووية بالإضافة إلى الأسلحة غير النووية ستُستخدم للدفاع عن المنطقة… أي تخطيط لا يأخذ الأسلحة النووية في الاعتبار سيكون من الواضح أنه غير واقعي أو مجدي”. بعبارة أخرى، شجعت الاتفاقيات الخمس التي حاصرت الصين على وضع الأسلحة النووية على حافة آسيا وأجازت استخدامها إن لزم الأمر.

من المهم تذكر أنه لا شئ من ذلك كان نظريًا. فقد استخدمت الولايات المتحدة بالفعل القنابل الذرية على اليابان سنة 1945، وفجرت كل جزء ممكن من البنية التحتية في الجزء الشمالي من كوريا بحلول نهاية عام 1951 ( على الرغم من ذلك، استمر القصف حتى 1953).  قال الجنرال إيميت أودونيل، قائد سلاح الجو الأميركي الذي قصف كوريا، أمام مجلس الشيوخ الأمريكي في يونيو 1951، “تدمر كل شئ. لم يعد هناك شئ قائم يستحق التسمية”. أضاف أودونيل أنه عندما عبرت القوات الصينية نهر يالو على الحدود مع كوريا الشمالية في نوفمبر 1950، أوقفت القوات الجوية الأمريكية قصفها لأنه “لم يعد هنالك من أهداف متبقية في كوريا”. في ديسمبر 1953، اقترح الرئيس الأمريكي  دوايت أيزنهاور على وينستون تشرشل أن تُلقي الولايات المتحدة قنابل ذرية على الصين إذا انتهكت بكين الهدنة الكورية. وبعد فترة وجيزة، في مارس 1955، أوضحت حكومة الولايات المتحدة لجمهورية الصين الشعبية أنها مستعدة لاستخدام الأسلحة النووية إذا دخل جيش التحرير الشعبي الصيني إلى فورموزا (تايوان حاليًا).

التعايش السلمي

في أعقاب الحرب العالمية الثانية، كانت الولايات المتحدة تعد نفسها ببطء لتكون القوة الرائدة للكتلة الإمبريالية القديمة، خصوصًا لتفوقها العسكري والاقتصادي الهائل على أوروبا المدمرة. في نفس الوقت، كانت بريطانيا تشن حملة عنيفة لمكافحة التمرد في شبه جزيرة الملايو (الطوارئ المالاوية 1948-1960) وكانت فرنسا تحارب حربًا بائسة لحماية جيشها في الهند الصينية (هُزم الهولنديين بالفعل في إندونيسيا بحلول عام 1949). تشربت تربة آسيا بالدماء وملئت رائحتها أنوف القادة مناهضي الاستعمار الذين قدموا إلى باندونج. لهذا ركزت نقاشات المؤتمر على السلام والعنصرية: فقد كان القادة المناهضين للاستعمار الحاضرون يخشون من استمرار العقلية الاستعمارية القديمة المتمثلة في التقسيم الاستعماري للبشرية في حقبة ما بعد الاستعمار، وكذلك الاستخدام الجامح للعنف ضد من يعتبرهم المستعمِرون على الجانب الآخر من ذلك التقسيم. وضعت الداساسيلا The Dasasila، أو المبادئ العشر لمؤتمر باندونج، تفصيلًا  للبانشيل The Panchsheel، المبادئ الخمسة التي وضعتها الصين والهند في 1954 للمساعدة على إرشادهما في اختلافاتهما. عارضت هذه المبادئ عن “التعايش السلمي” بقوة بناء التحالفات العسكرية والقواعد حول آسيا وتهديد الدول بالهجمات النووية.

في 1956، بعد أربعة أعوام من انضمام تركيا إلى الناتو، كتب الشاعر الشيوعي التركي ناظم حكمت مرثية لطفلة في السابعة من عمرها من هيروشيما بعنوان “طفلة هيروشيما”، اشتهرت بالبيت القائل: “حين يموت الأطفال، فإنهم لا يكبرون”:

كل ما أريده هو من أجل السلام

أن تحاربوا اليوم، أن تحاربوا اليوم

من أجل أن يعيش أطفال هذا العالم، 

ويكبروا وهم يلعبون، ويضحكون.

كان هذا هو جوهر روح باندونج. لقد كان بمثل هذه البساطة. تغلغل ذلك الجوهر في المبادئ العشر، التى نشرت في البيان الختامي للمؤتمر في 24 أبريل 1955:

  1. احترام حقوق الإنسان الأساسية وأهداف ومبادئ ميثاق الأمم المتحدة.
  2. احترام سيادة جميع الدول ووحدة أراضيها.
  3. الاعتراف بالمساواة بين جميع الأعراق والمساواة بين جميع الدول كبيرة كانت أم صغيرة.
  4. الامتناع عن التدخل أو المساس بالشؤون الداخلية للدول الأخرى.
  5. احترام حق كل أمة في الدفاع عن نفسها على نحو منفرد أو جماعي، بما يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة.
  6. (أ) الامتناع عن استخدام اتفاقيات الدفاع الجماعية لخدمة المصالح الخاصة لأي من القوى الكبرى.

(ب) امتناع أي دولة عن ممارسة الضغوط على دول أخرى.

  1. الكف عن أعمال العدوان أو التهديد بالعدوان أو استخدام القوة ضد وحدة الأراضي الإقليمية أو الاستقلال السياسي لأي بلد.
  2. تسوية جميع النزاعات الدولية بوسائل سلمية، مثل المفاوضات، والمصالحة، والتحكيم، أو التسوية القضائية، بالإضافة إلى أي وسائل سلمية أخرى يختارها الأطراف، بما يتفق مع ميثاق الأمم المتحدة.
  3. تعزيز المصالح المشتركة والتعاون.
  4. احترام العدالة والالتزامات الدولية.

عمليًا، دعت هذه المبادئ إلى نظام دولي قائم على ميثاق الأمم المتحدة (1945)، عوضًا عن نظام آخر يرتكز على إنشاء تكتلات عسكرية واستخدام القوة العسكرية  لتشكيل العالم وتقويض السيادة. في تأملاته حول مؤتمر باندونج، أشار عبد الغني إلى أن المؤتمر كان عبارة عن منتدى “لتحديد معايير وإجراءات العلاقات الدولية في الوقت الحاضر” والتى أيدت التعايش بدلًا من التدمير المتبادل. بحلول عام 1955، كانت ستة وسبعون دولة قد وقّعت على ميثاق الأمم المتحدة، الذي ينصّ على التزامات تعاهدية تجاه الدول الموقعة؛ بينما ظل ثمانون إقليمًا تحت سيطرة الاستعمار، بما يشمل معظم قارة أفريقيا وأغلب جزر المحيط الهادئ. كان ميثاق الأمم المتحدة آنذاك، ولا يزال حتى الآن، أهم وثيقة توافقية في العالم؛ فمع حصول الدول على استقلالها منذ أواخر الخمسينيات وحتى السبعينيات، انضمت إلى الأمم المتحدة كأعضاء كاملي العضوية.

انتقلت روح باندونج بسرعة، لتحل في القاهرة من أجل مؤتمر التضامن الأفريقي الآسيوي 1957-1958، ومن ثم في أكرا من أجل مؤتمر الشعوب الأفريقية في 1958، قبل أن تستمر في ترحالها إلى تونس من أجل مؤتمر الشعوب الأفريقية في 1960، ثم بلجراد من أجل مؤتمر قمة رؤساء دول و حكومات حركة عدم الانحياز في 1961، وأخيرًا إلى هافانا من أجل مؤتمر القارات الثلاث في 1966. وقد أسّس كل واحد من تلك المؤتمرات أجهزة مؤسسية: منظمة تضامن الشعوب الأفريقية الآسيوية، وحركة عدم الانحياز، ومنظمة التضامن مع شعوب إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية. وكان في جوهرها الصراع مع الإمبريالية، مع التركيز على التهديد النووي ونزع السلاح والاعتراف بأن إهدار الثروة الاجتماعية الثمينة على الأسلحة يعني إهدار أجندة التنمية. وكان التوازن بين “الأسلحة والزبدة” (أي بين التسلّح والتنمية) في محور هذه المداولات. وقد كانت آليات الحد من التسلح التى تطورت خلال هذه الفترة، مثل معاهدة الحظر المحدود للتجارب عام 1963، نتاجًا للمفاوضات التي فرضتها مشاريع دول عدم الانحياز في العالم الثالث.

التعاون التنموي

علاوة على الدعوة للسيادة والسلام، حملت حقبة باندونج أيضًا بذور نظام اقتصادي دولي جديد. كان التعاون بين دول الجنوب  نداءً أساسيا في مؤتمر باندونج. خصص القسم الأول من بيان المؤتمر الختامي بالكامل للتعاون الاقتصادي، إذ وضح الرغبة في التنمية الاقتصادية والمساعدة التقنية. كانت هنالك أيضا دعوة لإنشاء صندوق الأمم المتحدة الخاص للتنمية الاقتصادية من أجل تمويل الاستثمارات في تلك الدول. وبما أن الإمبريالية لم تطور المستعمَرات إلا كمواقع لإنتاج المواد الخام، فقد تم التركيز بشكل كبير على الحاجة إلى استقرار أسعار السلع الأساسية وتطوير القدرات المحلية لمعالجة هذه السلع قبل تصديرها.

كانت إحدى الآثار الدائمة لمؤتمر باندونج، هي تأثيره في تشكيل العمليات والمؤسسات متعددة الأطراف التى استمرت حتى يومنا هذا، على الرغم من تضائل تأثيرها أو تعرضها لسوء استخدام. ويشمل ذلك إنشاء صندوق الأمم المتحدة الخاص للتنمية الاقتصادية في عام 1958، الذي سيتحول لاحقًا إلى برنامج الأمم المتحدة للتنمية في 1965. أنشأ أيضًا مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) في 1964 ومعه نظامه الاقتصادي الدولي الجديد، وهو مجموعة من المقترحات التي اعتمدتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1974. في الذكري الستين لتأسيس مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية في 2024، أعلن نائب الأمين العام بيدرو مانويل مورينو “ولد بنفس الروح (روح مؤتمر باندونج)، وبعدها بتسع سنوات، مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية UNCTAD .

عالم من الانقلابات 

قبل مؤتمر باندونج بأسابيع قليلة، في أبريل 1955، عقد وزير الخارجية الأمريكي جون فوستر دوليس اجتماعًا مع السفير البريطاني للولايات المتحدة، السير روجر ماكينز. أخبر دوليس ماكينز أنه قد كان “مكتئبا إلى حد كبير” بسبب “الوضع العام في آسيا”. تجسد ذلك “الوضع” في خطاب القاه أول رئيس وزراء للهند بعد استقلالها، جواهرلال نهرو في البرلمان الهندي في 31 مارس 1955 تمهيدًا لمؤتمر باندونج، حيث هاجم نهرو منظمة معاهدة جنوب شرق آسيا (سياتو) باعتبارها اتفاقية عدائية، والناتو لدعمه البرتغال في الحفاظ على مستعمرتها غوا في الهند، ونظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، والغرب “لتدخله” في غرب آسيا. قال دوليس أن خطاب نهرو ” ”اتخذ موقفًا عامًا مفاده أن الحضارة الغربية قد فشلت، وأن هنالك حاجة لنوع جديد من الحضارة لتحل محلها”. وقد أحبط هذا دوليس، الذي أراد إفشال مؤتمر باندونج لأنه، على حد قوله، ” معاد للغرب من حيث طبيعته ومفهومه”.

أعلنت الانقلابات في إيران (1953) وجواتيمالا (1954) رفض الغرب لبناء أي نظام عالمي جديد. تبع ذلك سلسلة من الانقلابات في أفريقيا (ضد شعب الكونغو في 1961، وضد شعب غانا في 1966)، وأمريكا اللاتينية (ضد شعب البرازيل في 1964)، وفي آسيا (ضد شعب إندونيسيا في 1965). أنتج كل من تلك الانقلابات الأربعة بؤرًا للرجعية الإمبريالية، إذ لعبت تلك الأنظمة العسكرية الجديدة دورًا قاريًا في خنق أي تنمية تقدمية. كان الإنقلاب العسكري في إندونيسيا، والذي أدى إلى مقتل مليون شيوعي، انتقامًا من باندونج على الأغلب .

الجزء الثاني: لماذا لا توجد روح مؤتمر باندونج اليوم؟

غمرة من النوستالجيا

في أبريل 1965، عقدت حكومة سوكارنوا المحاصرة مؤتمر الذكرى السنوية العاشرة بحضور وفود من 37 دولة. إلا أنه كان نسخة باهتة من المؤتمر الأصلي: فقد علقت إندونيسيا عضويتها بالأمم المتحدة في يناير، وسيغادر جيشها الثكنات في أكتوبر للإطاحة بسوكارنو. في عام 1965، تم إلغاء محاولة عقد المؤتمر الأفروآسيوي الثاني في الجزائر العاصمة، الجزائر، بسبب الإطاحة ببن بلة في يونيو 1965؛ بالإضافة إلى النزاع الصيني السوفييتي؛ والانقسامات بين الدول الأفريقية المستقلة حديثًا، حيث كانت مجموعة الدار البيضاء تطمح إلى شكل قوي ومُنسّق من الوحدة الإفريقية، بينما كانت مجموعة برازافيل تدعو إلى علاقات أوثق مع القوى الاستعمارية السابقة. نظرا لأن العديد من المؤسسات التي انبثقت عن مؤتمر باندونج ظلت سليمة وسيكون لها تأثير ملحوظ على الشؤون العالمية على مدى العقود التالية، فإن الفشل في عقد مؤتمر ثان لم يكن مؤشرا كما يبدو. فما دمر روح باندونج كان أزمة ديون العالم الثالث، التى ألقت بدول العالم النامي إلى وضع دائم من الديون والتقشف، مما نسف تطلعاتها التنموية. حينها، تبخرت روح باندونج.

كانت أزمة ديون العالم الثالث نفسها مؤشرًا على عدم قدرة روح باندونج على التغلب، في وقت قصير، على الأسس المادية لتقسيم العمل النيوكولونيالي. بينما تواجدت الظروف الذاتية للتعاون والتبادل، إلا أن الظروف الموضوعية لم توجد. فكل البنى التحتية التي ورثتها الدول المستقلة حديثا كانت قد بنيت بواسطة الإمبريالية لتسهيل الاستخراج من الأطراف إلى المركز. في 1963، كان أكثر من 70% من صادرات البلدان النامية موجها نحو الدول المتقدمة. قطع الاستعمار الروابط التجارية القديمة داخل ما نسميه الآن بالجنوب العالمي، ولم تكن إعادة بنائها مهمة سهلة. علاوة على ذلك، كانت هذه الدول المستقلة حديثًا تمثل جزءًا صغيرًا من التجارة العالمية، على الرغم من كونها موطنًا لغالبية سكان العالم. كما أن تدني مستوى تطورها التكنولوجي حال دون أي تبادل فعال للخبرات التقنية.

كان لكل دولة مستقلة حديثًا في مسار باندونج طابع فريد من حيث تكون رأس المال والبنية الطبقية الداخلية، وظل كل منهما مجزأ وفقًا للتقسيم الدولي للعمل الذي حددته الإمبريالية. وبسبب عدم قدرتها على التغلب على نمط التخلف الاستعماري والهجوم الإمبريالي من انقلابات ومكافحة التمرد، أدت أزمة الديون في العالم الثالث إلى التحول من روح التعاون إلى قانون المنافسة. وقد استُخدمت هذه الأزمة لتقسيم دول الأطراف وتأديبها وإعادة دمجها في سوق عالمية بشروط مواتية لرأس المال متعدد الجنسيات.

في 2005، حضرت أغلب دول أفريقيا وآسيا -106 دولة من 177 دولة- الذكرى السنوية الخمسون لمؤتمر القمة الأفرو آسيوي في باندونج ( لم تكن إسرائيل مدعوة، ولا أستراليا ولا نيوزيلندا، لكن شاركت معظم دول جزر المحيط الهادئ وفلسطين)، وحضرت عدد من دول أمريكا اللاتينية بصفة مراقب. غادر رؤساء الحكومات فندق “سوفاي هومان” وساروا في الشارع الآسيوي الأفريقي (سُمي تخليداً لذكرى المؤتمر الأول) إلى مكان انعقاد المؤتمر، تماماً كما فعل أسلافهم قبل خمسين عاماً. غمرت النوستالجيا ذلك التجمع، ولكن أيضًا من حيث الشعور بأن العالم يمر بمرحلة انتقالية على الرغم من انعقاد هذا المؤتمر في خضم الحرب البشعة على الإرهاب التي دمرت بالفعل أفغانستان والعراق، وستدمر قريبًا مجموعة من البلدان الأخرى (بما في ذلك إندونيسيا نفسها، حيث جلبت تفجيرات أكتوبر 2002 في بالي هذه الحرب على الإرهاب إلى جنوب شرق آسيا). كان البيان الختامي بعنوان “شراكة استراتيجية آسيوية-إفريقية جديدة”، مليئًا بالمفاهيم النيوليبرالية عن الميزة النسبية والأهداف التنموية. بالتالي، كان ذلك إنفصالًا عن المنطق المناهض للإمبريالية الذي أطلقته الدعوة الأصلية. لقد عُبِئَت روح باندونج في العرض؛ إذ لم تكن حرة في الهواء. المسألة إذًا، لم تكن مجرد إحياء شبح باندونج، إنما إيجاد تلك الروح مرة آخرى.

المزاج الجديد في الجنوب العالمي

لم يكن هناك إدراك حيوي بأن الغرب لن يسمح بتقدم الجنوب العالمي ولن يتيح له ذلك، إلا بعد أن حلّ الكساد الكبير الثالث (2007-2008). في عام 2009، أنتج هذا الإدراك “بريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، والتي تم توسيعها في عام 2025 لتشمل خمس دول أخرى (مصر وإثيوبيا وإندونيسيا وإيران والإمارات العربية المتحدة) بالإضافة إلى ثلاث عشرة دولة شريكة. في حين ركزت قمم البريكس الأولى على التعاون بين دول الجنوب، أو التجارة والاستثمار عبر الجنوب العالمي، أعادت القمم اللاحقة طرح فكرة الاستقلال الاقتصادي عن الشمال العالمي وفكرة التعددية السياسية بدلاً من الأحادية القطبية التي تحركها الولايات المتحدة. إن ستة عشر عاماً ليست فترة كافية لكي يخضع مشروع البريكس لتقييم كامل. فحتى خلال هذه السنوات، عانت المجموعة من خلافات سياسية بين الدول الأعضاء فيها (الصين والهند على سبيل المثال) ومن تغير طبيعة قادتها (مثل انتقال البرازيل من حكومة ديلما روسيف اليسارية الوسطية إلى حكومة جايير بولسونارو الفاشية الجديدة ثم العودة إلى يسار الوسط في عهد لويس إيناسيو لولا دا سيلفا). جاء ازدهار عملية البريكس وغيرها من الهياكل المماثلة بين بلدان الجنوب بسبب النمو الاقتصادي الذي بدأ يميز البلدان الكبيرة في آسيا (الصين وفيتنام والهند وبنغلاديش وإندونيسيا على وجه الخصوص). في يناير 2025، الذكرى السنوية السبعين لمؤتمر باندونج، أصبحت إندونيسيا عضوًا كامل العضوية في مجموعة بريكس.

أدى تحول مركز ثقل الاقتصاد العالمي إلى آسيا إلى بداية ثقة جديدة، أو “مزاج جديد”، في الجنوب العالمي، حيث لم تعد دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية مضطرة للاعتماد الكامل على مؤسسات الشمال العالمي للتمويل والتكنولوجيا. لقد كانت مبادرة الحزام والطريق التي تبنتها الصين في عام 2013 استجابة للكساد العظيم الثالث، تطورًا بالغ الأهمية في هذا الصدد، حيث وفرت ظروفًا موضوعية للتعاون بين دول الجنوب لم تكن موجودة ببساطة وقت انعقاد مؤتمر باندونج. تخلق مبادرات مثل بناء السكك الحديدية في شرق أفريقيا وافتتاح ميناء جديد في بيرو شروطًا مسبقة للتجارة الداخلية بين بلدان الجنوب العالمي. بحلول 2023،  كانت نسبة 46.6% من مجمل التجارة الصينية مع دول ضمن شبكة مبادرة الحزام والطريق (BRI). في حين أنه ما يزال من المبكر القول بأن أي شئ مشابه لـ”فك الارتباط” قد حدث، فمن الواضح أن تحول كبيرا يحدث، حيث أصبحت الصين الآن الشريك التجاري الرئيسي لأكثر من 120 دولة. وفي الوقت نفسه، حظيت مبادرة الحزام والطريق بنصيبها من النجاح والفشل، وتطلب من الدول الأعضاء أن تطرح مشاريعها التنموية الوطنية الخاصة بها على طاولة المفاوضات.

استخدمنا في العديد من منشوراتنا في معهد القارات الثلاث عبارة “المزاج الجديد” لوصف الحاضر. إن الأهداف الأساسية من “المزاج الجديد” في الجنوب العالمي متجذرة في مفهومين: الإقليمية وتعددية الأطراف، وكلاهما مدفوع برغبة في دمقرطة النظام العالمي من حيث الشروط الاقتصادية والسياسية. يجري بالفعل تطوير هذه الإقليمية، من منظمة شنجهاي للتعاون إلى السوق المشتركة الجنوبية (Mercosur)، وقد تعززت هذه الإقليمية من خلال زيادة التجارة المقومة بالعملة المحلية، مما يجعل تحقيق “تقرير المصير الاقتصادي” و “التكامل الإقليمي” ممكنا مادياً، على حد تعبير إنديرا لوبيز أرغويليس من وزارة الخارجية الكوبية. يرتبط بهذه النزعة الإقليمية توسع فكرة تعددية الأطراف، والاعتقاد بأن المؤسسات العالمية (مثل الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية) يجب ألا تكون أدوات للشمال العالمي، بل يجب أن تسمح لجميع الدول الأعضاء فيها بتشكيل أجندتها.

لا وجود  لروح مؤتمر باندونج اليوم

في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، كان لدى حركات التحرر الوطني قاعدة جماهيرية (على الأغلب معظم سكانها). على الرغم من قيادتهم –في أغلب الحالات- من قبل البرجوازية الصغيرة وأجزاء من نخبة ملاك الأراضي، إلا أن التزامها بالتحرر الوطني دفعها اتجاه مسار اشتراكي، لخلع الحكومات ذات البنية النيوكولونيالية، والاستجابة لقاعدتها الجماهيرية المنظمة. جاءت تلك “الاشتراكيات” بتوجهات مختلفة، سواء “الطريق الاشتراكي نحو المجتمع” في الخطة الخمسية الثانية للهند (1956-1961)، أو الاشتراكية الأفريقية لإعلان أروشا (كتبه جوليوس نيريري من تنزانيا عام 1967)، أو في الواقع السياسات الجماهيرية لمتغيرات الشعبوية في أمريكا اللاتينية مثل البيرونية الأرجنتينية (¡Ni yanquis, ni marxistas!, ¡peronistas!,  أو “ليسو يانكيز وليسوا ماركسيين، بل بيرونيين!”). وعلى الرغم من التوجهات الطبقية لقيادة هذه الاتجاهات وضيق منظوراتها الخاصة، فإن الجماهير النشطة لن تسمح لها بالتخلي عن البرنامج الأوسع للتحرر الوطني. ولهذا السبب يمكننا الحديث عن باندونج من الأسفل.

اليوم، أصبح  وضع الحركات الشعبية أضعف. فهي لاتزال تقود مجتمعات بضعة بلدان فقط من الجنوب العالمي. وصارت الحكومات التقدمية في أوقاتنا هذه تحالفات بين مجموعة طبقات مختلفة – بما في ذلك البرجوازية الصغيرة والبرجوازية الليبرالية التي لم تعد قادرة على تحمل فظائع النيوليبرالية، ولكنها لن تنفصل بسهولة عن أرثوذكسياتها. وفي حين أن المد الوردي الثاني في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال، وظهور حكومات تقدمية في بلدان مثل السنغال وسريلانكا، هما من آثار انهيار النيوليبرالية ورد فعل على فظائع اليمين، إلا أنهما لم يصعدا على ظهور حركات جماهيرية منظمة، ولم يتحدا حول برنامج ينفصل عن النيوليبرالية. في جميع أنحاء منطقة الساحل الأفريقي – في النيجر ومالي وبوركينا فاسو – تحظى الانقلابات العسكرية المناهضة للإمبريالية بدعم موجة جديدة من الحركات الاجتماعية، التي ما تزال في طور صياغة مشروع أوسع نطاقًا للسيادة والتنمية. تلك التطورات قادرة على إنتاج مزاج جديد- على سبيل المثال “روح البريكس”- لكنها ليست مكافئة لروح باندونج بعد. سيكون من السابق لأوانه، بل ومثاليًا، الإعلان عن مثل هذه الظاهرة، روح باندونج من الأسفل لعصرنا، ظاهرة جماهيرية قادرة على دفع الحركة الفعلية للتاريخ.

إن السياق الأساسي الذي يشكل هذا المزاج الجديد، والتهديدات التي تلوح في الأفق وتستلزم إحياء روح باندونج، هو الإمبريالية المفرطة. في أبحاثنا في معهد القارات الثلاث، اقترحنا أن هنالك كتلة سياسية اقتصادية عسكرية واحدة فقط في العالم: التحالف الذي تقوده الولايات المتحدة ويضم حلف الناتو وإسرائيل. على الرغم من تراجع قوتها الاقتصادية والتكنولوجية، تظل هذه الكتلة قوة عسكرية مهولة لديها سيطرة كبيرة على نظم المعلومات في العالم. إن استخدام تكتيكات الحرب الهجينة، والتهديد باستخدام العنف أو استخدامه ضد الدول الساعية إلى السيادة ولو بشكل متواضع، يتطلب ردًا جماعيًا من دول الجنوب العالمي، والذي قد يأخذ شكل إحياء روح باندونج.

ومع ذلك، هناك مجموعة من العوامل التي تحد من ظهور حقبة باندونغ جديدة في الجنوب العالمي:

  1. لا يزال هناك خوف من القيادة الغربية ورغبة في قيادتها على الرغم من إخفاقاتها الكثيرة وانحطاطها وخطورتها. ومن المنطقي أن تخشى دول الجنوب العالمي احتمال نشوب حرب بكل الوسائل (من التدابير القسرية الأحادية الجانب إلى القصف الجوي) لأن هذا ليس افتراضاً نظرياً بل حقيقة فعلية. مع ذلك، هناك شعور آسر في الوقت نفسه بأن القيادة الغربية ضرورية بالنظر إلى بقايا النظام الدولي الذي يهيمن عليه الغرب.
  2. هناك عدم وضوح في الجنوب العالمي بشأن التقدم المحرز في آسيا، وخاصة من قبل الصين. ولا ترى البلدان الأخرى أن هذه المكاسب – لا سيما عندما يتعلق الأمر بالقوى الإنتاجية الحديثة النوعية – قابلة للتكرار بسهولة، مما يؤدي إلى التقليل المتبادل من القوة الكامنة في جنوب عالمي جماعي. وعلاوة على ذلك، وعلى عكس الأدلة المتاحة، هناك اعتقاد متزايد يدفعه الشمال العالمي بأن التقدم الذي تحرزه قاطرة قوى الجنوب سيكون خطيرًا على البلدان الأكثر فقرًا. ويجري الإيحاء بأن تقدم البلدان الآسيوية، على وجه الخصوص، يشكل تهديدًا أكبر من سجل الخطر الذي شكله الشمال العالمي على مدى مئات السنين.
  3. هناك استسلام لواقع سيطرة الغرب على المشهد الرقمي والإعلامي والمالي، والذي يتم إظهاره على أنه من غير الممكن تجاوزه.
  4. ما تزال نسبة كبيرة من النخب الاقتصادية الحاكمة في الجنوب العالمي مرتبطة بعمق مع رأس المال المالي العالمي. ويتجلى ذلك بشكل خاص في اعتمادهم على الدولار الأمريكي كملاذ آمن للاستثمار، ومشاركتهم في استخراج الثروات من بلدانهم للاستثمار في أسواق العقارات والأسواق المالية في الشمال العالمي. هذه المصالح الطبقية دعمت بترحيب من قبل المثقفين وصانعي السياسات الذين لا يستطيعون رؤية ما وراء نظريات الاقتصاد النيوكلاسيكي وإجماع واشنطن. ولهذا السبب ندعوا في معهد القارات الثلاث إلى نظرية تنموية جديدة للجنوب العالمي.
  5. هناك تقاليد قديمة في العديد من حركاتنا الاجتماعية مفادها أن اليسار يجب أن يعارض بشكل دائم واقع السياسة الطبقية وأنه لا يمكننا الفوز بالسلطة في هذه الظروف. يُنظر لأي مساومة من باب الواقعية للاستيلاء على السلطة وبناء أجندتنا بشكل أكبر، على أنها انحلال لأهدافنا النهائية. إن الفشل في الفوز هو إحساس آسر لم يكن معروفًا في حقبة التحرر الوطني، عندما كان الفوز بسلطة الدولة هو الهدف المباشر و المستعصي على الحل. حتى أن هناك توجهًا يقترح أن على الحركات اليسارية، بدلًا من المطالبة بسلطة الدولة والاستيلاء عليها، أن تقاتل اليمين وتبني ديناميكية ضد النيوليبرالية، ومن ثم تسلم السلطة إلى يسار الوسط. إن التوجه الأسوأ هو عدم التنافس على سلطة الدولة على الإطلاق.

إلى أن تتمكن شعوب الجنوب العالمي من التغلب على بعض تلك التحديات (وغيرها)، من غير المرجح أن تصبح روح باندونج جزءًا من الحركة الفعلية للتاريخ. إننا نخرج ببطء من حقبة بائدة من التاريخ، حقبة الإمبريالية. ولكننا لم نخرج بعد إلى حقبة جديدة تتجاوز الإمبريالية – وهي أصعب البنى التي يمكن الخروج منها.

[ملف]. روح مؤتمر باندونج

1 Sukarno, ‘Opening address given by Sukarno (Bandung, 18 April 1955)’, Asia-Africa Speak from Bandung (Djakarta: Ministry of Foreign Affairs, Republic of Indonesia, 1955), 19–29.

2 Roeslan Abdulgani, Bandung Spirit: Moving on the Tide of History (Djakarta: Prapantja, 1964) and The Bandung Connection: The Asia-Africa Conference in Bandung in 1955 (Singapore: Gunung Aguna, 1981), 89.

3 تم طرح الحل الشاعري رسميًا أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة من قبل الدبلوماسي السوفيتي فاسيلي كوزنتسوف. انظر الجمعية العامة للأمم المتحدة، إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمرة (A/RES/1514)، 14 ديسمبر 1960. كان رئيس الجمعية العامة في ذلك الوقت الدبلوماسي الأيرلندي فريدريك بولاند. أصبحت ابنة بولاند إيفان شاعرة مشهورة ونشرت في عام 1998 قصيدة “الشاهدة” التي تحتوي على هذه الأبيات:

“ما هي المستعمرة

إذا لم تكن الحقيقة القاسية

أننا عندما نتكلم
تفتح القبور

ويبعث الموتى السائرون؟

4 Abdulgani, The Bandung Connection, 11.

5 تعتمد هذه الدراسة بشكل كبير على كتابات كلًا من:

Vijay Prashad, The Darker Nations: A People’s History of the Third World (New York: The New Press, 2007) and The Poorer Nations: A Possible History of the Global South (New Delhi: LeftWord, 2013). It will form part of the basis for The Brighter Nations (2026).

6 Richard Nixon, RN: The Memoirs of Richard Nixon (New York: Grosset and Dunlap, 1978), 136. Also see Richard Nixon, ‘Asia After Viet Nam’, Foreign Affairs, 1 October 1967, https://www.foreignaffairs.com/articles/united-states/1967-10-01/asia-after-viet-nam.

7 للمزيد عن معاهدة سان فرانسيسكو انظر:

Tricontinental: Institute for Social Research, The New Cold War Is Sending Tremors through Northeast Asia, dossier no. 76, 21 May 2024, https://thetricontinental.org/dossier-76-new-cold-war-northeast-asia/.

8 للاطلاع على جدال فوستر كاملًا انظر:

John Foster Dulles, Policy for the Far East (Washington: US Government Publishing Office, 1958)

9 ‘Memorandum of a Conversation Between the Counsellor of the Department of State (MacArthur) and the British Ambassador (Makins), Department of State, Washington, February 29, 1956’, US Department of State, Conference Files: Lot 62 D 181, CF 656, Secret; John P. Glennon, Edward C. Keefer, and David W. Mabon, eds., Foreign Relations of the United States, 1955–1957, East Asian Security; Cambodia; Laos, Volume XXI, (Washington: United States Government Printing Office, 1990), 180–181.

10 Su-kyoung Hwang, Korea’s Grievous War (Philadelphia: University of Pennsylvania Press, 2016).

11 I. F. Stone, The Hidden History of the Korean War, 1950–1951 (New York: Little Brown, 1969), 312.

12 في مؤتمر صحفي في 15 مارس 1955، شرح جون فوستر دوليس عقيدة “الانتقام الأقل من الضخم”. قال دالاس إنه إذا عبرت الصين إلى فورموسا، فإن الولايات المتحدة ستستخدم الأسلحة النووية التكتيكية ضد القوات الصينية. أنظر إيلي أبيل، “دالاس يقول إن الولايات المتحدة تعلق الانتقام على قنبلة ذرية صغيرة:

New York Times, 16 March 1955, https://www.nytimes.com/1955/03/16/archives/dulles-says-us-pins-retaliation-on-small-abomb-lessthanmassive.html.

13 Asia-Africa Speak from Bandung, 161–169.

14 Abdulgani, Bandung Spirit, 72.

15 على سبيل المثال، كان النيجيري إل سي إن أوبي شخصية رئيسية، ولكنه أصبح منسيًا الآن، في المناقشة حول معاهدة منع الانتشار النووي لعام 1968، في حين كان إسماعيل مورينو بينو من المكسيك المفاوض المركزي بشأن معاهدة حظر الأسلحة النووية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي لعام 1967، المعروفة باسم معاهدة تلاتيلولكو، وهي المعاهدة الأولى التي أنشأت منطقة خالية من الأسلحة النووية.

16 Gilbert Rist, The History of Development: From Western Origins to Global Faith (London: Zed Books, 2008).

17 Pedro Manuel Moreno, 60 years of UNCTAD: Charting a New Development Course in a Changing World, UN Trade and Development, 14 May 2024, https://unctad.org/osgstatement/60-years-unctad-charting-new-development-course-changing-world-session-1.

18 John P., Harriet D. Schwar, and Louis J. Smith, eds., ‘Memorandum of a Conversation, Department of State, Washington, April 7, 1955’, in Foreign Relations of the United States, 1955–1957, China, Volume II (Washington: United States Government Printing Office, 1986), 454.

19 عُيّن آلان بيرنز، حاكم ساحل الذهب ونيجيريا من عام 1941 إلى عام 1947، ممثلًا دائمًا للمملكة المتحدة في مجلس وصاية الأمم المتحدة من عام 1947 إلى عام 1956. وبعد فترة وجيزة من مغادرته الأمم المتحدة، نشر بيرنز كتابًا هاجم فيه باندونج وقال إنها تمثل “استياء الشعوب الأكثر ظلامًا من هيمنة الأمم الأوروبية على العالم في الماضي”. انظر: 

Alan Burns, In Defence of Colonies (London: George Allen and Unwin, 1957), 5. For more on the coup in Indonesia, see Tricontinental: Institute for Social Research, The Legacy of Lekra: Organising Revolutionary Culture in Indonesia, dossier no. 35, December 2020, https://thetricontinental.org/wp-content/uploads/2020/12/20210127_Dossier-35_EN_Web.pdf.

20 Bela Balassa, Trends in Developing Country Exports, 1963–88, Policy, Research, and External Affairs working papers no. WPS 634, World Bank World Development Report, 31 March 1991, http://documents.worldbank.org/curated/en/561401468766799448/Trends-in-developing-country-exports-1963-88.

21 Aijaz Ahmad, In Theory: Classes, Nations, Literatures (London: Verso, 1992), 16.

22 S. B. D. de Silva, The Political Economy of Underdevelopment (London: Routledge, 1982), 506.

23 للمزيد عن الكساد العظيم الثالث، أنظر:

Tricontinental: Institute for Social Research, The World in Economic Depression: A Marxist Analysis of Crisis, notebook no. 4, 10 October 2023, https://thetricontinental.org/dossier-notebook-4-economic-crisis/.

24 The State Council Information Office, ‘China’s Trade with BRI Countries Booms in 2023, press release, 12 January 2024, http://english.scio.gov.cn/m/pressroom/2024-01/12/content_116937407.htm#:~:text=China’s%20trade%20with%20countries%20participating,2022%2C%20customs%20data%20showed%20Friday.

25 Alessandro Nicita and Carlos Razo, ‘China: The Rise of a Trade Titan’, UN Conference on Trade and Development, 27 April 2021, https://unctad.org/news/china-rise-trade-titan. For more on delinking, see Tricontinental: Institute for Social Research, Globalisation and Its Alternative: An Interview with Samir Amin, notebook no. 1, 29 October 2018, https://thetricontinental.org/globalisation-and-its-alternative/.

26 للمزيد عن الإقليمية، أنظر:

Tricontinental: Institute for Social Research, Sovereignty, Dignity, and Regionalism in the New International Order, dossier no. 62, 14 March 2023, https://thetricontinental.org/dossier-regionalism-new-international-order/.

27 للمزيد عن المد الوردي الثاني، أنظر:

Tricontinental: Institute for Social Research, To Confront Rising Neofascism, the Latin American Left Must Rediscover Itself, dossier no. 79, 13 August 2024, https://thetricontinental.org/dossier-neofascism-latin-america/.

28 Tricontinental: Institute for Social Research, Hyper-Imperialism: A Dangerous Decadent New Stage, Contemporary Dilemmas no. 4, 23 January 2024, https://thetricontinental.org/studies-on-contemporary-dilemmas-4-hyper-imperialism/; Tricontinental: Institute for Social Research, The Churning of the Global Order, dossier no. 72, 23 January 2024, https://thetricontinental.org/dossier-72-the-churning-of-the-global-order/.

29 للمزيد عن التدابير القسرية الأحادية الجانب، أنظر: 

Tricontinental: Institute for Social Research, Imperialist War and Feminist Resistance in the Global South, dossier no. 86, 5 March 2025 https://thetricontinental.org/dossier-imperialism-feminist-resistance.

30 للمزيد عن دور المثقفين في كلا جانبي الصراع الطبقي، أنظر:

Tricontinental: Institute for Social Research, The New Intellectual, dossier no. 12, 11 February 2019, https://thetricontinental.org/the-new-intellectual/.

31 Tricontinental: Institute for Social Research, Towards a New Development Theory for the Global South, dossier no. 84, 14 January 2025, https://thetricontinental.org/towards-a-new-development-theory-for-the-global-south/.

مشاركة المقال

Share on facebook
Share on twitter
Share on email

مقالات ذات صلة

ملفات

[ملف]. روح مؤتمر باندونج

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 03 آب/ أغسطس 2025* ترجمة: محمد السادات في عام 1955، اجتمع قادة المستعمرات السابقة في الجنوب العالمي في باندونج