معهد القارات الثلاث للبحث الإجتماعي + مدار: 20 حزيران/ يونيو 2024
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: جيانغ تيفنغ (الصين)، الغابة الحجرية، 1979.
بدأت إشاعة تنتشر في أوائل حزيران/يونيو – تناقلتها الصحافة الهندية على نطاق واسع على أنها صحيحة – بأن حكومة المملكة العربية السعودية وافقت على إنهاء اتفاقية البترودولار مع الولايات المتحدة. هذه الاتفاقية المبرمة في 1974، واضحة تماماً وتلبي احتياجات مختلفة للحكومة الأمريكية: تشتري الولايات المتحدة النفط من العربية السعودية، وتستخدم السعودية تلك الأموال لشراء معدات عسكرية من شركات تصنيع الأسلحة الأمريكية بينما تحتفظ بعائدات مبيعات النفط في سندات الخزانة الأمريكية وفي النظام المالي الغربي. يُعرف هذا الترتيب لإعادة تدوير أرباح النفط في الاقتصاد الأمريكي والعالم المصرفي الغربي باسم نظام البترودولار.
لم يشترط هذا الترتيب غير الحصري بين البلدين على السعوديين أن تقتصر مبيعاتهم النفطية على الدولار أو أن يعيدوا تدوير أرباحهم النفطية حصرياً في سندات الخزانة الأمريكية (التي تملك منها 135.9 مليار دولار أمريكي) والبنوك الغربية. في الواقع، يتمتع السعوديون بحرّية بيع النفط بعملات متعددة، مثل اليورو، والمشاركة في منصات العملات الرقمية مثل “إم. بريدج” (mBridge)، وهي مبادرة تجريبية لبنك التسويات الدولية والبنوك المركزية للصين وتايلاند والإمارات العربية المتحدة.
ومع ذلك، عكست إشاعة انتهاء اتفاقية البترودولار التي استمرت لعقود من الزمن، التوقع السائد بأن تحولاً مزلزلا في النظام المالي سيقلب هيمنة نظام الدولار-وول ستريت. لقد كانت إشاعة كاذبة، لكنها حملت في طياتها حقيقة حول احتمالات عالم ما بعد الدولار أو عالم منزوع الدولار.
وكانت الدعوة الموجهة إلى ست دول للانضمام إلى تكتل بريكس في أغسطس/آب الماضي مؤشرًا آخر على أن هذا التحول جارٍ. ومن بين هذه الدول إيران والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، على الرغم من أن السعودية لم تستكمل عضويتها بعد. ومع توسيع عضويتها، ستضم مجموعة بريكس الدولتين اللتين تمتلكان أكبر وثاني أكبر احتياطي للغاز في العالم (روسيا وإيران على التوالي) والدولتين اللتين تمثلان ما يقرب من ربع الإنتاج العالمي من النفط (روسيا والسعودية، وفق أرقام 2022). إن الانفتاح السياسي بين إيران والسعودية، الذي توسطت فيه بكين في آذار/ مارس 2023، بالإضافة إلى الإشارات التي تحيل على أن الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية حليفتا الولايات المتحدة الأمريكية تسعيان إلى تنويع ارتباطاتهما السياسية، يدل على النهاية المحتملة لنظام البترودولار. وقد كان ذلك في قلب الإشاعات التي انتشرت في أوائل حزيران/يونيو.
ومع ذلك، لا ينبغي المبالغة في هذا الاحتمال، إذ لا يزال نظام الدولار-وول ستريت سالما وقويًا إلى حد بعيد. وتُظهر البيانات الصادرة عن صندوق النقد الدولي أنه اعتبارًا من الربع الأخير من 2023، استحوذ الدولار الأمريكي على 58.41% من احتياطيات العملات المخصصة، وهي نسبة تفوق بكثير الاحتياطيات المحتفظ بها باليورو (19.98%) والين الياباني (5.7%) والجنيه الإسترليني (4.8%) والرنمينبي الصيني (أقل من 3%). وفي الآن نفسه، لا يزال الدولار الأمريكي هو العملة الرئيسية للفواتير في التجارة العالمية، إذ إن 40% من المعاملات التجارية الدولية في السلع تتم فوترتها بالدولار على الرغم من أن حصة الولايات المتحدة من التجارة العالمية لا تتجاوز الـ 10%. وبينما يظل الدولار هو العملة الرئيسية، إلا أنه مع ذلك يواجه تحديات في جميع أنحاء العالم، حيث انخفضت حصة الدولار الأمريكي في احتياطيات العملات المخصصة تدريجيًا ولكن بشكل مطرد على مدار العشرين عامًا الماضية.
هناك ثلاثة عوامل تقود عملية نزع الدولرة: ضعف قوة وإمكانات الاقتصاد الأمريكي التي بدأت مع الكساد الكبير الثالث في 2008؛ والاستخدام العدواني للعقوبات غير القانونية – وخاصة العقوبات المالية – من قبل الولايات المتحدة وحلفائها في الشمال العالمي ضد ربع دول العالم؛ وتطور العلاقات بين دول الجنوب العالمي وتعزّزها، خاصة من خلال منصات مثل مجموعة البريكس. وفي 2015، أنشأت دول البريكس بنك التنمية الجديد، المعروف أيضًا باسم بنك البريكس، من أجل التعامل مع نظام ما بعد الدولار-وول ستريت وإيجاد تسهيلات لتعزيز التنمية بدلًا من التقشف. وقد أدى إنشاء هذه المؤسسات التابعة لمجموعة البريكس وزيادة استخدام العملات المحلية لدفع تكاليف التجارة العابرة للحدود إلى توقع التعجيل بنزع الدولرة. وفي قمة البريكس لعام 2023 في جوهانسبرغ، كرر الرئيس البرازيلي لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الدعوة إلى زيادة استخدام العملات المحلية وربما إنشاء نظام عملات مقومة بعملات البريكس.
كان هناك نقاش مفعم بالحيوية بين أولئك الذين عملوا في مؤسسات مجموعة البريكس وفي الدول الكبيرة المهتمة، مثل الصين، بشأن نزع الدولرة، وضرورتها وآفاقها والصعوبات التي تواجهها في إيجاد طرق جديدة للاحتفاظ باحتياطيات العملة وفوترة التجارة العالمية. وقد تم تخصيص العدد الأخير من المجلة الدولية “وينهوا زونغشنغ” (文 化纵)، التي تصدر بالتعاون بين معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي و”دونغشينغ” (الرياح الشرقية)، لهذا الموضوع. ويلخص باولو نوغيرا باتيستا جونيور، النائب الأول لرئيس بنك التنمية الجديد (2015-2017)، في المقدمة إلى “البريكس ونزع الدولرة: الفرص والتحديات” (المجلد 2، العدد رقم 1، أيار/ مايو 2024)، أفكاره العميقة حول أهمية الابتعاد عن نظام الدولار – وول ستريت والصعوبات السياسية والتقنية لمثل هذا الانتقال. ويؤكد، وهو محق في ذلك، أن تكتل البريكس مجموعة متنوعة من الدول التي تتولى فيها قوى سياسية متنوعة للغاية مسؤولية الدول المختلفة، تنقسم الأجندات السياسية لأعضائها – حتى مع المزاج الجديد في الجنوب العالمي – بشكل خاص عندما يتعلق الأمر بالنظرية الاقتصادية، إذ لا تزال العديد من دول البريكس ملتزمة بالوصفات النيوليبرالية بينما تسعى دول أخرى إلى نماذج تنموية جديدة. ومن أهم النقاط التي أثارها نوغيرا هي أن الولايات المتحدة “ستستخدم على الأرجح جميع الأدوات العديدة المتاحة لها لمواجهة أي محاولة لإزاحة الدولار عن مكانته كركيزة أساسية للنظام النقدي الدولي”، وستشمل هذه الأدوات العقوبات والتهديدات الدبلوماسية، وستضعف كلها ثقة الحكومات التي لديها التزامات سياسية أوهن وغير المدعومة بحركات شعبية ملتزمة بنظام عالمي جديد.
كانت عملية نزع الدولرة تسير بوتيرة بطيئة للغاية حتى سنة 2022، عندما بدأت دول الشمال العالمي في مصادرة الأصول الروسية المودعة في النظام المالي الدولار-وول ستريت، فانتشر القلق في العديد من البلدان بشأن سلامة أصولها في بنوك أمريكا الشمالية وأوروبا. وعلى الرغم من أن هذه المصادرة لم تكن جديدة (فقد فعلت الولايات المتحدة ذلك من قبل مع كوبا وأفغانستان، على سبيل المثال)، إلا أن حجم وشدة هذه المصادرة كان بمثابة إجراء “مزعزع للثقة”، على حد تعبير نوغيرا.
ويلي مقدمة نوغيرا ثلاثة مقالات كتبها محللون صينيون بارزون حول التحولات الحالية في النظام العالمي. وفي مقال بعنوان “ما الذي يحرك النقاش الدائر في دول البريكس حول نزع الدولرة؟”، يحدد البروفيسور دينغ ييفان (زميل كبير في معهد تايهي في بكين) الأسباب التي تجعل العديد من دول الجنوب تسعى الآن إلى التجارة بالعملات المحلية والتخلي عن اعتمادها على نظام الدولار الأمريكي. ويشدد على عاملين يضعان الدولار موضع تساؤل إذا ما كان قادرًا على الاستمرار كعملة أساسية أم لا: أولاً، ضعف الاقتصاد الأمريكي بسبب اعتماده على الإنفاق العسكري على حساب الاستثمار الإنتاجي (إذ يمثل الأول 53.6% من إجمالي الإنفاق العسكري العالمي)، وثانيًا، تاريخ الولايات المتحدة في الإخلال بالعقود. وفي ختام مقاله، يتحدث دينغ عن إمكانية قبول دول الجنوب العالمي للرنمينبي الصيني كعملة مرجعية لها، حيث إن قدرات الصين التصنيعية تجعل هذه العملة قيّمة كوسيلة لشراء السلع الصينية.
ومع ذلك، يتوخى البروفيسور يو يونغدينغ (عضو الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية) في مقاله “احتياطيات الصين من النقد الأجنبي: التحديات الأمنية في الماضي والحاضر”، الحذر بشأن إمكانية أن يحل الرنمينبي محل الدولار. ويقول يو إنه لكي يصبح الرنمينبي عملة احتياطية دولية، “يجب على الصين أن تفي بسلسلة من الشروط المسبقة، بما في ذلك إنشاء سوق رأسمالية موثوقة (خاصة سوق سندات خزانة عميقة وعالية السيولة)، ونظام سعر صرف مرن، وتدفقات رأسمالية حرة عبر الحدود، وائتمان طويل الأجل في السوق”. وهذا يعني أنه سيتعين على الصين التخلي عن ضوابطها الرأسمالية والبدء في طرح سندات الخزانة بالرنمينبي للمشترين الدوليين. ويحاجج يو بأن تدويل الرنمينبي “هدف يستحق السعي لتحقيقه”، ولكنه ليس شيئًا يمكن أن يحدث على المدى القصير. وكتب بشاعرية “الماء البعيد، لن يروي العطش الآني”.
إذن، ما هي الخطوة التالية بعد الآن؟ في مقاله “من إلغاء المخاطرة إلى نزع الدولرة: عملة البريكس ومستقبل النظام المالي الدولي”، يتفق البروفيسور جاو باي، وهو مدرّس في جامعة ديوك في الولايات المتحدة الأمريكية، على أن هناك حاجة ملحة للتغلب على نظام الدولار-وول ستريت، وأنه لا يوجد طريق سهل للمضي قدمًا في ذلك في الوقت الراهن. وقد توسع استخدام العملة المحلية – كما هو الحال بين روسيا والصين وكذلك بين روسيا والهند – ولكن هذه الترتيبات الثنائية غير كافية. وعلى نحو متزايد، كما يُظهر تقرير صدر مؤخرًا عن مجلس الذهب العالمي، تقوم البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم بشراء الذهب من أجل احتياطياتها وبالتالي ارتفع سعره (السعر الفوري للذهب يزيد عن 2300 دولار للأونصة، وهو أعلى بكثير من سعر 1200 دولار للأونصة الذي كان يحوم حوله في عام 2015). ويجادل غاو بأنه إذا لم تتوفر عملة فورية لتحل مكان الدولار الأمريكي، فينبغي على دول الجنوب العالمي أن تنشئ “قيمة مرجعية للتسويات بعملاتها المحلية ومنصة صرف لدعم هذه التسويات. ويوفر الطلب الكبير على مثل هذا التقييم فرصة لإنشاء عملة لمجموعة البريكس”.
يقدم العدد الجديد من مجلة “وينهوا زونغهنغ” تقييماً واضحاً ومدروساً للمشاكل التي يعاني منها نظام الدولار – وول ستريت والحاجة إلى بديل. وتعكس المجموعة الواسعة من الأفكار المطروحة تنوع المناقشات التي تجري داخل الدوائر السياسية حول العالم. نحن حريصون على تلخيص هذه الأفكار واختبار جدواها التقنية والسياسية.
تجدر الإشارة إلى أن اثنتين من دول البريكس قد انتخبتا حكومتين جديدتين هذا العام. ففي الهند، عادت الحكومة اليمينية المتطرفة بقيادة رئيس الوزراء ناريندرا مودي إلى السلطة، ولكن بتفويض أقل بكثير. وبالنظر إلى أن حكومة مودي قد طرحت سياسة “المصلحة الوطنية”، فمن المرجح أن تستمر في لعب دور في عملية البريكس واستخدام العملات المحلية لشراء سلع من قبيل النفط الروسي. وفي الوقت نفسه، شكّل التحالف الحاكم في جنوب أفريقيا، بقيادة المؤتمر الوطني الأفريقي، حكومة مع “التحالف الديمقراطي” اليميني، الملتزم بالإمبريالية الأمريكية وغير المتحمس لأجندة البريكس. ومع الانضمام المحتمل لنيجيريا إلى هذا التكتل، قد يتحول مركز ثقل البريكس في القارة الإفريقية نحو الشمال.
خلال سنوات النضال الشاقة ضد حكومة الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، بدأت لينديوي مابوزا (المعروفة باسم سونو موليفي) العضو في المؤتمر الوطني الأفريقي (ANC) بجمع القصائد التي كتبتها النساء في معسكرات هذا الأخير. أرسلت مقاتلات حرب العصابات والمعلمات والممرضات وغيرهن قصائد نشرتها في مجلد بعنوان “ماليبونغوي” (أي “كوني ممدوحة”)، في إشارة إلى مسيرة النساء في بريتوريا عام 1956. في مقالها التمهيدي، كتبت مابوزا (1938-2021) أنه في النضال “لا توجد رومانسية”؛ هناك “واقع ساحق فقط”. هذه العبارة، “الواقع الساحق”، تستحق التأمل اليوم. لا شيء يأتي من العدم. يجب عليك أن تسحق الواقع لتصنع شيئًا ما، سواء كان انفتاحًا سياسيًا جديدًا في أماكن مثل الهند وجنوب أفريقيا أو بنية مالية جديدة تتجاوز نظام الدولار-وول ستريت.