مدار: 27 آب/ أغسطس 2025
لماذا قد تثير المقررة الأممية فرانشيسكا ألبانيز حفيظة القوى الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة؟ الجواب قد يكمن (إضافة إلى مواقفها الحاسمة من حرب الإبادة في غزة) في تقريرها الأممي الأخير الذي يُعد بمثابة لائحة اتهام تفصيلية ضد شبكة واسعة من الشركات العالمية التي لا تدعم الاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل تحولت لتكون جزءاً لا يتجزأ من “اقتصاد الإبادة”. إليكم التفاصيل..
ألبانيز، المقررة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بحالة حقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية المحتلة منذ عام 1967، هي خبيرة مستقلة لا تتقاضى أجراً من الأمم المتحدة، وتقدم تقاريرها مباشرة إلى مجلس حقوق الإنسان.
مقررة أمميّة: "ما يحدث في غـزة ليس حـربـا بل إبـادة جماعيـة"#فلسطين #رأي #تضامن #قالوا #مدار pic.twitter.com/6MxTmZ9q8y
— مدار (@madarorg) November 8, 2024
بالإضافة إلى تصريحاتها القوية حول الإبادة الجماعية الجارية في غزة، يبدو أن تقريرها الأخير المعنون “من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة” والذي يحمل رقم التعريف “A/HRC/59/23″، قد أزعج بشدة ليس فقط الدوائر السياسية الغربية التي فرضت على المقررة الأممية عقوبات انتقامية، بل بشكل أعمق عمالقة التكنولوجيا والصناعات العسكرية والمالية التي تسيطر على مفاصل الاقتصاد العالمي الداعم للمشروع الصهيوني.
وقد سعى التقرير إلى توثيق الأدلة ووضعها في سياق قانوني يسعى إلى دفع المحكمة الجنائية الدولية وغيرها من الهيئات القضائية الوطنية إلى مساءلة المسؤولين التنفيذيين في الشركات المتورطة في الإبادة الجماعية الجارية في فلسطين.
يتقفى التقرير بدقة تحول المنظومة الاقتصادية للاحتلال الإسرائيلي منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2023، لتصبح “اقتصاد إبادة” متكاملاً، ويعرض “مدار” أبرز ما ورد فيه.
المجمع العسكري الصناعي: أداة الإبادة والتهجير
يبرز عملاق المجمع العسكري الأمريكي “Lockheed Martin” كأحد أبرز المتورطين في الإبادة والتهجير. يتم ذلك من خلال تزويد الكيان المحتل بمقاتلات “F-35″ و”F-16″، التي تُستخدم بشكل منهجي في قصف قطاع غزة. تُحمّل هذه الطائرات بـ”ذخائر الهجوم المباشر المشترك” (JDAM) وقنابل “MK-84” الأمريكية غير الموجهة، والتي تزن 2000 رطل (أكثر من 900 كيلوغرام)، والمعروفة بقدرتها التدميرية الهائلة.
في هذا السياق، يشير التقرير إلى أن الجيش الإسرائيلي ألقى ما يقدر بنحو 85,000 طن من القنابل، معظمها غير موجه، مما أدى إلى “قتل وإصابة أكثر من 179,411 فلسطينياً وتدمير غزة”. ويتصل برنامج مقاتلات “F-35” وحده بما لا يقل عن 1650 شركة أخرى، من بينها المصنّع الإيطالي “Leonardo S.p.A”.
وفي مستوى آخر من سلسلة التوريد، تقوم شركة “FANUC Corporation” اليابانية بتوفير الروبوتات الصناعية لخطوط إنتاج الأسلحة لدى “صناعات الفضاء الإسرائيلية” (IAI) و”Elbit Systems” الإسرائيلية، و”Lockheed Martin”الأمريكية. بينما تتولى شركة الشحن الدنماركية “A.P. Moller – Maersk A/S” نقل المعدات العسكرية ومكوناتها، بما في ذلك شحنات الأسلحة الأمريكية بعد تشرين الأول/ أكتوبر 2023، وقد كانت الشركة هدفاً لمقاطعة عالمية واحتجاجات واسعة بسبب تورطها.
عمالقة التكنولوجيا: الدماغ الرقمي للإبادة
يكشف التقرير الدور الخطير الذي تلعبه شركات التكنولوجيا الكبرى. فشركات “Alphabet” (الشركة الأم لغوغل)، “Amazon”، و”Microsoft”، وكلها أمريكية، توفر البنية التحتية السحابية وأنظمة الذكاء الاصطناعي للجيش الإسرائيلي وحكومته ضمن ما يعرف بمشروع “نيمبوس” (Project Nimbus). وقد تم توظيف هذه التكنولوجيا في صنع القرار العسكري وتحديد الأهداف والتجسس.
وقد طور الجيش الإسرائيلي أنظمة ذكاء اصطناعي، مثل “لافندر” (Lavender) و”الإنجيل” (Gospel) و”أين بابا؟” (Where’s Daddy؟) لمعالجة البيانات وإنشاء قوائم بالأهداف، “مما أعاد تشكيل الحرب الحديثة ووضح الطبيعة المزدوجة الاستخدام للذكاء الاصطناعي”، حسبما ورد في الوثيقة. ووسّعت شركة “Palantir Technologies” الأمريكية، التي يعود تعاونها التكنولوجي مع إسرائيل إلى ما قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023، دعمها للجيش الإسرائيلي بعد هذا التاريخ.
ويضيف التقرير: “هناك أسباب معقولة للاعتقاد بأن “Palantir” وفرت تقنية الشرطة التنبؤية، والبنية التحتية الدفاعية الأساسية، ومنصة الذكاء الاصطناعي الخاصة بها، والتي تسمح بدمج بيانات ساحة المعركة في الوقت الفعلي لاتخاذ القرارات الآلية”.
وفي اعتراف يعكس مستوى التورط، علّق الرئيس التنفيذي للشركة في نيسان/ أبريل 2025 على الاتهامات بأن شركته تقتل فلسطينيين في غزة قائلاً: “معظمهم ‘إرهابيون’، هذا صحيح”.
ويمتد هذا الدعم ليشمل شركات أخرى؛ فشركة “IBM” الأمريكية تشغّل قاعدة البيانات السكانية لإسرائيل وتدير نظام التصاريح التمييزي ضد الفلسطينيين. كما زودت شركة “Hewlett Packard” (بفرعيها HP Inc وHPE) إسرائيل بتقنيات ساهمت في تعزيز نظام الفصل العنصري (الأبارتايد). ويبرز دور مجموعة “NSO” الإسرائيلية عبر برنامجها للتجسس “Pegasus” في استهداف الفلسطينيين حول العالم.
آليات مدنية مزعومة أم أسلحة دمار؟
تحت غطاء مدني، توفر شركة “Caterpillar” الأمريكية جرافات “D9” التي تستخدم في التدمير الممنهج لمنازل الفلسطينيين وبناهم التحتية. ويتولى تحويلها إلى آليات عسكرية ذاتية التحكم وقادرة على العمل عن بعد كل من “Leonardo DRS” و “IAI” و “Elbit Systems”. وعلى المنوال نفسه، توفر كل من “HD Hyundai” الكورية الجنوبية ومجموعة “Volvo” السويدية الآليات الثقيلة المستخدمة في هدم المنازل وتدمير الأراضي الزراعية في غزة والضفة الغربية.
تمويل الاحتلال والإبادة
تلعب شبكات مالية ضخمة أدواراً محورية في تمكين إسرائيل. شركتا إدارة الأصول الأمريكيتان “Blackrock” و”Vanguard” هما من أكبر المستثمرين المؤسسيين في الشركات المتورطة بشكل مباشر في الحرب، مثل “Lockheed Martin” و”Microsoft” و”Palantir” و”Elbit Systems” و”Chevron” و”Caterpillar”، وهو ما يورط بشكل غير مباشر الجامعات وصناديق التقاعد والمواطنين العاديين الذين يستثمرون أموالهم في صناديق هذه الشركات.
كما يستثمر صندوق التقاعد الحكومي النرويجي (الأكبر في العالم) والصندوق الكندي “Caisse de dépôt et placement du Québec”، وشركتا التأمين “AXA” الفرنسية و “Allianz” الألمانية، مليارات الدولارات في الشركات المتورطة في الاحتلال والإبادة، وتلعب دوراً أساسياً في “إزالة المخاطر” (de-risking) عن هذه الاستثمارات.
وللإشارة، وجد صندوق الثروة السيادي النرويجي – الأكبر في العالم – نفسه مرغما على إنهاء استثماراته في الأمريكية “كاتربيلر”، وخمسة بنوك إسرائيلية هي: “فيرست إنترناشونال” و”فيبي هولدنغز” و”لِئومي” و”مزراحي تفحوت” و”هبوعليم”، بسبب “مساهمتها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حالات الحرب والصراعات”، وفق ما جاء في بيان صدر أمس الثلاثاء، وهو ما يثبت أن حركات المقاطعة التي كانت تحتج على الصندوق والخطوات المشابهة لتقرير ألبانيز، لها تأثير على الكيانات المرتبطة بالإبادة الجماعية.
وأوضح الصندوق المملوك للبنك المركزي النرويجي في بيان، الثلاثاء، أن سبب إنهائه للاستثمارات في الشركة الأمريكية والبنوك الإسرائيلية بسبب “مساهمتها في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان في حالات الحرب والصراعات”.
والشركة الأمريكية هي “كاتربيلر”، أما البنوك الإسرائيلية الخمسة هي: “فيرست إنترناشونال” و”فيبي هولدنغز” و”لِئومي” و”مزراحي تفحوت” و”هبوعليم”، وفق البيان.
وقال مجلس أخلاقيات الصندوق النرويجي إن الجرافات التابعة لشركة “كاتربيلر” تستخدمها إسرائيل بشكل غير قانوني لهدم منازل الفلسطينيين.
ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن بنوكاً عالمية مثل “BNP Paribas” الفرنسي و”Barclays” البريطاني تمول الحرب عبر ضمان إصدارات سندات الخزينة الإسرائيلية. وبين عامي 2021 و2023، قدم البنك الفرنسي 410 ملايين دولار كقروض لشركة “Leonardo” الإيطالية، إلى جانب 5.2 مليار دولار كقروض وضمانات لشركات أخرى مدرجة في قاعدة بيانات الأمم المتحدة للمستوطنات.
وقدم بنك “Barclays”، في عام 2024، قروضاً وتأميناً بقيمة 2 مليار دولار لشركات مدرجة في القائمة المذكورة، و862 مليون دولار لـ”Lockheed Martin”، و228 مليون دولار لـ”Leonardo”.
المعرفة كسلاح: الجامعات ومراكز الأبحاث
يوضح التقرير كيف أن “المعرفة سلاح قاتل أيضاً”. فمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا “MIT” الأمريكي ينجز أبحاثاً لصالح وزارة “الدفاع” الإسرائيلية، تشمل تقنيات التحكم في أسراب الطائرات المسيرة، بالإضافة إلى تعاونه مع “Lockheed Martin” و “Elbit Systems”. كما تلقت جامعة ميونيخ التقنية في ألمانيا 218 مليون دولار ضمن برامج التمويل الأوروبية، بما في ذلك 12.6 مليون دولار لـ 22 مشروع تعاون مع شركاء إسرائيليين. وقد كانت الجامعات الغربية مسرحاً لاحتجاجات طلابية واسعة للمطالبة بوقف هذا التعاون، قوبلت غالباً بالقمع.
نهب الموارد الطبيعية وتجارة الاحتلال
تستغل إسرائيل الموارد الطبيعية كسلاح. شركة المياه الإسرائيلية “Mekorot” تحكم قبضتها على المصادر المائية وتحرم الفلسطينيين منها. وتساهم شركة “Netafim” الإسرائيلية الرائدة في تقنيات الري، في استنزاف الموارد المائية في غور الأردن على حساب المزارعين الفلسطينيين. بينما تستخرج شركتا الطاقة “Chevron” الأمريكية و”BP” البريطانية الغاز الطبيعي من حقول تقع ضمن المناطق البحرية الفلسطينية، لتوفير أكثر من 70% من طاقة إسرائيل. أما الفحم فتوفره بشكل أساسي “Glencore PLC” السويسرية و “Drummond Company” الأمريكية.
وعلى جبهة أخرى، تواصل شركات مثل “Booking.com” و”Airbnb” للترويج للسياحة في المستوطنات غير القانونية، مما يطبع مع الاحتلال ويحقق أرباحاً من أنشطة غير مشروعة، وهو ما يطلق عليه التقرير “سياحة الاحتلال”. كما تقوم شركة “Keller Williams Realty” الأمريكية ببيع العقارات في المستوطنات. وتوفر “Heidelberg Materials” الألمانية عبر فرعها الإسرائيلي مواد البناء للمستوطنات، بينما تشارك “Construcciones Auxiliar de Ferrocarriles” الإسبانية في توسعة خط السكك الحديدية الذي يربط القدس بالمستوطنات، مما يرسخ البنية التحتية للفصل العنصري.
تناول “مدار” في تقرير سابق كيف استفاد عمالقة صناعة الأسلحة من حرب الإبادة الجماعية التي يشنها الكيان الصهيوني على الشعب الفلسطيني في غزة، من أجل تطوير إيراداتها من “تجارة الموت”، فحسب بيانات معهد ستوكهولم الدولي لأبحاث السلام (SIPRI)، فإن أكبر الزيادات من عائدات الأسلحة تحقق في منطقتي الشرق الأوسط وروسيا، وسط ارتفاع الطلب على الأسلحة جراء العدوان على الشعب الفلسطيني.
للإشارة، ولحدود كتابة هاته الأسطر، ارتفعت حصيلة الضحايا من جراء استمرار الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني منذ نحو 23 شهرا إلى 62 ألفا و895 شهيدا، و158 ألفا و927 مصابا. بالإضافة إلى آلاف لمفقودين ودمار مذهل في القطاع، كما ارتفعت حصيلة الشهداء جراء سوء التغذية والمجاعة إلى 313 بينهم 119 طفلا.
للتذكير، كانت دولة جنوب أفريقيا تقدم بدعوى أمام محكمة العدل الدولية تتهم فيها إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية في قطاع غزة، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948)، وقد أصدر قضاة محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/ يناير 2024 حكمهم المكون من 29 صفحة، الذي وجد أن هنالك أدلة “معقولة” (الفقرة 54) على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة.