هايتي..إجحاف إمبريالي عبر صنيعة يمينية وتعبئة شعبية لا تخفت

مشاركة المقال

مدار: 29 آذار/ مارس 2021

شهدت هايتي على مدار العقود الماضية وضعا اجتماعيا، اقتصاديا وسياسيا متدهورا، وتجلى ذلك بالخصوص في الواقع المزري الذي يعيشه الشعب الهايتي، وزادت معاناته مع السياسات الاقتصادية التي تحاول الحكومة الهايتية تنزيلها استجابة للضغوط، سواء الأمريكية أو التي تفرضها المؤسسات المالية الكبرى المقرضة.

عرفت هايتي طيلة تاريخها الطويل نضالا مستمرا ضد الدول التي تناوبت على استعمارها، وهو الأمر الذي لم ينته إلى يومنا هذا. وفي سبيل إماطة اللثام عن بعض من تاريخ النضال الهايتي والمستجدات الحالية نضع أمامكم بعض النقاط التي تطرق لها كاميلشالميرس، أحد مؤسسي الحزب الاشتراكيRASIN KAN PEP LA، في حوار أجرته معه https://peoplesforum.org/ في وقت سابق:

الثورة والثورة المضادة

أولاً، وقبل التطرق للوضع الراهن من الضروري أن نسلط الضوء على طبيعة الثورة الهايتية، التي انتصرت عام 1804، بالنظر إلى القطيعة الجوهرية التي أدخلتها في علاقة هايتي مع النظام العالمي المهيمن، بالإضافة إلى الدور المحوري الذي لعبته في طرح مجموعة من الأسئلة التي لم تحل بعد بشأن العلاقات الاجتماعية والاقتصادية بين الناس.

لقد قدمت الثورة الهايتية نقدًا أساسيًا لهيمنة الإمبراطوريات الأوروبية على دول مثل بلادنا، من خلالها إطلاقها العنان لمجموعة من الديناميكيات الجديدة التي سمحنا لأنفسنا بتسميتها الثورة المناهضة للاستعمار والعبودية، في وقت كانت العبودية نمطا مهيمنا للتراكم على المستوى العالمي. انطلاقا من رؤيتنا هذه فقد كانت ثورة مناهضة للعنصرية، كما أنها كانت أيضا ثورة ضد النموذج الاقتصادي لنظام المزارع الذي تم فرضه في منطقة البحر الكاريبي في القرنين الماضيين. في الوقت الحالي هناك نوع من سوء الفهم للعلاقة بين هايتي وبقية العالم، لاسيما أن الإمبراطوريات الكبرى تواصل سعيها إلى عزلها في شكل من أشكال الحجر الصحي، لإخفاء مثال ثورتها عن العالم.

إن هناك نوعا من المؤامرة الصامتة، فكثير من الناس غير مدركين للثورة الهايتية، وعندما يتم ذكرها فلغرض إضفاء الشيطنة على هايتي. يتم تقديم بلادنا على أنها أرض السحر والإجرام الدائم في سبيل منع الآخرين من فهم ما حدث هنا، وأيضا من أجل تبرير وإضفاء الشرعية على الاحتلال العسكري لهايتي عام 2004. لقد أصدر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة القرار 1542 (2004)، الذي سمح لبعثة الأمم المتحدة لتحقيق الاستقرار في هايتي (MINUSTAH) سيئة السمعة لتولي زمام الأمور، من خلال بيان عنون بأن هايتي “تشكل تهديدًا للسلم والأمن الدوليين في المنطقة”. تذكرنا هذه العبارة بالخطاب السائد ضد هايتي في القرن التاسع عشر.

قبل أيام من الثورة، أمر الرئيس الهايتي غيوم سام – الذي كانت حكومته توسع العلاقات التجارية مع الولايات المتحدة – بإعدام 167 سجينا سياسيا، وهو ما رد عليه السكان بالتمرد، ونتيجة لذلك تم عزل سام وإعدامه لاحقا، ما حذا بالرئيس الأمريكي آنذاك وودرو ويلسون إلى توجيه أوامره لقوات مشاة البحرية الأمريكية باحتلال هايتي وقمع التمردات الشعبية. بين عامي 1915 و1934، احتل الجيش الأمريكي هايتي وطور علاقة استعمارية جديدة وأعاد تنظيم جيشها، كما أنه أعاد صياغة الدستور من أجل السماح بملكية الأجانب للأرض، وهو ما كان سيضمن للشركات الأمريكية خضوع البلاد لسيطرتها طيلة العقود اللاحقة.

كان العذر الرسمي لاحتلال الولايات المتحدة لهايتي هو أنه كان يهدف إلى معارضة النفوذ الألماني والفرنسي القوي في البلاد في ذلك الوقت. وبعد ذلك بسرعة، حولت الولايات المتحدة استثماراتها بعيدًا عن هايتي، وكبديل لذلك، قامت بالاستثمار في تحديث صناعات السكر الكبيرة ومزارعها في كوبا وجمهورية الدومينيكان. لكن من العوامل الأساسية لتطوير هذه الصناعة الهجرة القسرية التي كانت تفرض على العمال الهايتيين.

منذ ذلك الحين، تم اعتبار هايتي كمورد رئيسي للعمالة الرخيصة للصناعة الرأسمالية في المنطقة، كما أوجدوا وضعا اجتماعيا واقتصاديا جديدا داخل البلاد من خلال تهجير الفلاحين من أراضيهم في سبيل خلق وإعادة إنتاج الفقر والحرمان. أدى ذلك في ما بعد إلى تدفق لا متناه من العمال المهاجرين لتغذية الصناعات الإقليمية (كوبا، جمهورية الدومينيكان، غرب الكاريبي، الولايات المتحدة، كندا وأوروبا).

استولت الولايات المتحدة الأمريكية على زمام الأمور وبسطت سيطرتها السياسية على البلاد، ونصبت رئيسا من اختيارها في الفترة بين عامي 1915 و1934، وقد كان الرئيس الجديد يمثل بصيغة معينة الحاكم الذي يمثل مصالح الإمبريالية الأمريكية والصناعات الأمريكية. كتب سميدلي بتلر، العميد الأمريكي السابق، اعترافا في كتابه الحرب عبارة عن مضرب (1935): “قضيت ثلاثة وثلاثين عاما وأربعة أشهر في الخدمة العسكرية الفعلية، وخلال تلك الفترة قضيت معظم وقتي باعتباري رجل أعمال من الدرجة العالية، كانت جل تحركاتي من أجل تثبيت الأعمال التجارية الكبيرة، وول ستريت والمصرفيين. باختصار، كنت مبتزا، ورجل عصابات للرأسمالية. لقد ساعدت في جعل هايتي وكوبا مكانا لائقا لأبناء بنك المدينة الوطني من أجل جمع الإيرادات”.

انطلاقا من كل هذا، من الواضح أن نظامنا السياسي الحديث بالكامل في هايتي مبني على الأسس التي أنشأتها وزارة الخارجية الأمريكية والقوى الإمبريالية الأخرى، التي تمتلك نفوذا إستراتيجيا لصنع القرار. لقد شهدنا في الفترة 1957-1986 ديكتاتورية فرانسوا دوفالييه وابنه التي كان لها أثر كبير في تعميق الأزمة التي بدأت عام 1915، بالنظر إلى أن المهمة الأساسية التي كان يسعى دوفالييه إلى تحقيقها هي تدمير حركة المقاومة الشعبية، لأن الأمريكيين واجهوا مقاومة شرسة في مختلف الحروب التي قادتها كاكوس–وهي مجموعات المقاومة المسلحة التي انبثقت عن ثورات الشعب المستعبدة السابقة.

لدينا نظام سياسي تهيمن عليه سياسة اقتصادية تستمد توجهاتها من الولايات المتحدة، وتعيد إنتاج مجموعة كاملة من الآليات. وقد تم ترسيخ آليات الهيمنة هذه بعد الاتفاقية الهايتية-الأمريكية التي تم توقيعها في شتنبر/ أيلول 1915، والتي تنص على أنه حتى لو صادق البرلمان الهايتي على قرار فلا يمكن تطبيقه دون موافقة السفارة الأمريكية. أدى هذا الشكل من الاعتماد على الدولة الأمريكية إلى تسريع النهب والتدمير الإمبرياليين لموارد بلدنا. على سبيل المثال، أثناء الاحتلال الأمريكي، خسرت هايتي ما بين 25% و30% من احتياطياتها الغابوية. كل هذا أدى إلى الأزمة الكبرى في الثمانينيات.

سياسة الجناح اليميني في هايتي ومصالح الشركات الأمريكية

تعرضت هاييتي لصدمة رهيبة نتيجة للزلزال الذي ضرب البلاد في 12 يناير/ كانون الثاني 2010، وتسبب في مقتل 300 ألف شخص وخلف ملايين الضحايا. وقد استغلت قوات الاحتلال الكارثة الطبيعية من خلال ابتكار استجابة أكثر جذرية للأزمة، وكانت أبرز معالمها إنشاء حزب هايتي TètKale (PHTK). حزب PHTK هو حزب يميني متطرف جاء تأسيسه في خضم التحول المتزايد إلى سياسة اليمين المتطرف والمحافظ الناشئة في أمريكا اللاتينية كجزء من محاولة استعادة السيطرة على القارة. ومن الأمثلة المماثلة جاير بولسونارو في البرازيل، لينين مورينو في الإكوادور، ماريو عبدو بينيتيز في باراغواي ونجيب بوكيلي في السلفادور، إلخ.

إذا قمت بعمل تصنيف لهؤلاء القادة السياسيين فسترى تشابها ملحوظا بين الرئيس الهايتي السابق ميشيل مارتيلي (2011-2016)، دونالد ترامب وجاير بولسونارو، لقد ابتكروا جميعا صيغة جديدة للإدارة السياسية التي تستلهم طريقة بلورتها من منهجيات “العصابات”، فهم يقومون في البداية بعملية تدمير ممنهجة للمؤسسات الديمقراطية الشعبية قصد تثبيت حكم الأوليغارشية والإمبريالية في سبيل السيطرة المطلقة.

تتمثل المهمة الأساسية لـ PHTK، من خلال قيادة كل من ميشيل مارتيلي وجوفينيل مويس، في وضع حد لنضال الحركات الشعبية والقضاء على أي بقايا ديمقراطية أو اجتماعية أنجزتها انتفاضة 1986 والحركة الشعبية في سبيل إعادة إرساء والتأسيس لسلطة استبدادية.

لماذا يريدون سلطة استبدادية؟ إنهم بحاجة إليها لإخضاع الحركة الشعبية بشكل نهائي وإخراجها من العملية السياسية. تريد الولايات المتحدة إنجاز الأعمال التي لم يتأت لها إنهاؤها منذ احتلالها لهايتي عام 1915 والمتمثلة في تحويل الاقتصاد الهايتي بالكامل إلى ملحق لمصالح الشركات الأمريكية متعددة الجنسيات.

لهذا الغرض، طوروا مجموعة من الإستراتيجيات التي تحدد أربعة مجالات للنمو في لبلد. تم إرسال السيد بول كوليير، وهو اقتصادي بريطاني من المنظرين للأفكار النيوليبرالية ومتخصص في البلدان منخفضة الدخل، إلى هايتي من قبل الأمم المتحدة لتحديد إستراتيجية اقتصادية جديدة.

في تقريره لعام 2009 إلى الأمين العام للأمم المتحدة، كتب كوليير أن تنمية هايتي يجب أن تستند إلى مناطق اقتصادية حرة ترتكز على أربعة مجالات:

1. الاستعانة بمصادر خارجية لتصنيع المنسوجات، وتصدير منتجات المنسوجات إلى الولايات المتحدة.

2. الصادرات الزراعية والصناعية الزراعية.

3. مناطق التعدين الحرة التي تم تطويرها من خلال عملية المضاربة في شمال البلاد.

4. المناطق الحرة للسياحة، مثل Ile-a-Vache.

على الرغم من ذلك، كانت هناك عقبة كبيرة للنجاح في تنفيذ إستراتيجية المجالات الأربعة: كانت هناك أرض لا تزال مملوكة للفلاحين الفقراء الذين كانوا أساس الاقتصاد الوطني القائم على الأسرة. بالإضافة إلى ذلك فإنه على الرغم من أن حركة اللاتيفوندا (حركة الفلاحين من دون أرض والذين يستغلون أراضي للزراعة قصد سد احتياجاتهم) خفية في هايتي، إلا أنهم مازالوا يحتلون أراضي مهمة لمشروع إنشاء المناطق الاقتصادية الحرة. هذا هو ما يدعم التحولات السياسية اليمينية الأخيرة، فهم بحاجة إلى قوة غاشمة لفرض هذه المشاريع وإخضاع أي مقاومة قد يشكلها الفلاحون في سبيل نقل الملكية إلى الشركات متعددة الجنسيات.

الممارسات غير الدستورية والمطالب الشعبية

كان العديد من النقاد الشرسين يضغطون من أجل إصلاح دستور عام 1987 من أجل حل مسألة ملكية الأرض سياسيا. ويدعي هؤلاء النقاد أن المشكلة الوحيدة والرئيسية للبلاد كانت دستور عام 1987، لكن الحقيقة هي أنه هناك رغبة من وراء هذه الادعاءات لمحاولة لتغيير الدستور لتركيز السلطة في يد رئيس الجمهورية. يريدون تقليص سلطة البرلمان واختصاصاته، كما أنهم يرغبون في إلغاء مساحات المشاركة في المجتمعات المحلية وتقليل جميع المؤسسات التنظيمية التي تمثل الضوابط والتوازنات للسلطة التنفيذية.

كان هذا هو المشروع الرئيسي منذ تولي جوفينيل مويس السلطة عام 2017، ما أدى بالأمور إلى الوضع الحالي. من المثير للدهشة أن الإدارتين المتتاليتين لمارتيللي وموس لم تدعوا قط إلى انتخابات واحدة في البلاد، وهذا ليس صدفة محضة، ولكن لأن الانتخابات الوطنية لا تتناسب مع أجندتهما. إذا كانت الانتخابات حقا تعبيرا عن الشعب نفسه فبالنسبة لهذه النخب فإن السياسة والتعبير الشعبي لا يسيران جنبا إلى جنب، فنظرتهم للسلطة قائمة على رؤية إقطاعية، وهذا ما يحاول تكريسه جوفينيل مويس من خلال تثبيت دكتاتورية يتخذ فيها وحده جميع القرارات.

لقد تمكنوا منذ يناير/ كانون الثاني 2020 من إلغاء صلاحيات البرلمان منذ يناير 2020؛ ومقابل ذلك قاموا منذ يناير/ كانون الثاني إلى الآن بإصدار 45 مرسوما تكبل وتقضي جميعها على الحرية، في تناقض صارخ مع روح ونص دستور عام 1987. لقد مكنت هذه المراسيم من التأسيس التعسفي للقمع البوليسي والعسكري، ما أدى إلى تجريم الاحتجاجات الاجتماعية والحركات الشعبية بشكل عام.

هذا هو الوضع الحالي في البلاد، كما أنه في الوقت الراهن قام جوفينيل مويس بتشكيل فريق من خمسة أشخاص يعملون بشكل سري تقريبا في القصر الوطني قصد صياغة نص دستوري دون أي تشاور مع الشعب. في الظروف العادية، يجب أن تكون للاستفتاء مرحلتان: يجب أن تكون هناك مرحلة أولى حيث يتم الاستفتاء حول ما إذا كان الشعب يريد تغيير الدستور، ومرحلة ثانية لاقتراح دستور جديد.

لم يهتموا بهذه المراحل، فهناك نص دستوري جديد سيتم تقديمه خلال الاستفتاء في 25 أبريل 2021؛ ولهذا الغرض، قاموا بتعيين مجلس انتخابي غير قانوني تماما وغير دستوري، تم رفضه من جميع قطاعات البلاد، ما يسقط عنه الشرعية..لكنهم لم يعيروا أي اهتمام للأصوات الرافضة، بل قاموا بتأكيد تكليف هذا المجلس الانتخابي من أجل إقرار دستور جديد وإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية بحلول نهاية عام 2021.

في مواجهة هذا المشروع، يمكننا القول إن سكان هايتي وقفوا بكل قوة وإبداع وكرامة مستميتين لعدة سنوات، فمنذ المظاهرة الشهيرة في 22 يناير/ كانون الثاني 2016، عندما رفض الشعب إجراء انتخابات رئاسية بتواجد مرشح واحد، لم تخفت التعبئة والخروج المتواصل للشوارع.

على سبيل المثال، بين عامي 2017 و2018، شهدنا التعبئة الشهيرة ضد الميزانية، التي عبر من خلالها الشعب عن رفضه الميزانية المقترحة التي وصفت بحق بأنها جنائية. ونتيجة لهذا التحركات وجدت الدولة الهايتية نفسها في حالة أزمة مالية، ومن أجل الاستجابة لهذه الأزمة قامت بزيادة الضرائب بشكل كبير، كما أنه وبناءً على أوامر المؤسسات المالية الدولية قامت بزيادة أسعار التجزئة للمنتجات النفطية بنحو 54%. وفي مقابل كل هذا الإجحاف وصلت التعبئة الشعبية إلى مستويات كبيرة في يوليوز/ تموز 2018، بحيث انخرط السكان في انتفاضة شعبية عطلت البلاد لمدة أسبوع تقريبا.

نتيجة لذلك، خلال عامي 2018 و2019، كانت هناك تعبئة جماهيرية، حيث خرج ملايين المواطنين الهايتيين إلى الشوارع ليقولوا “لا!” لعودة الديكتاتورية، “لا!” لهذا النظام. يريد الهايتيون توسيع المكاسب الديمقراطية لعام 1986.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة