معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 21 كانون الأول/ ديسمبر 2025
فيجاي براشاد
قال بشير عبد الله، مستشار وزارة الصناعة والتجارة السودانية، في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر 2025، خلال مؤتمر لمنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية (اليونيدو) في المملكة العربية السعودية: “علينا إنهاء الحرب أولاً. ثم، يتعين علينا إعادة تشغيل المصانع”. كان تعليقه يدور حول الحرب الأهلية المروعة في السودان، لكنه كان يمكن أن ينطبق على العديد من بلدان الجنوب العالمي التي تعيش في خضم حرب عسكرية أو حرب تجارية. تم تنحية التنمية جانبًا بالنسبة لهذه الدول الفقيرة لصالح تهديدات أكثر إلحاحًا. ومع ذلك، خلف مشهد تحكمه البنادق والابتزاز تكمن الحاجة إلى تصور مستقبل ممكن.

أقرّ مؤتمر اليونيدو بأن التصنيع “أمر جوهري لتحقيق أهداف التنمية المستدامة [التابعة للأمم المتحدة]” وبأن هناك حاجة إلى “اتفاق صناعي جديد” للقيام بذلك. تحدد وثيقة سياسات لليونيدو صادرة في نيسان/ أبريل 2025 عقبات كثيرة أمام التصنيع في الجنوب العالمي، بما في ذلك العجز في البنية التحتية، ومحدودية القدرات التكنولوجية والعلمية، ونقص العمالة عالية التدريب، وضعف الشبكات اللوجستية، بما في ذلك البنية التحتية الرقمية. تشير الوثيقة أيضًا إلى “اتجاهات كبرى” يحتاج الجنوب العالمي إلى متابعتها والتكيف معها، مثل الرقمنة وصعود الذكاء الاصطناعي، وإعادة تشكيل سلاسل القيمة العالمية، والتحول في مجال الطاقة، والتغيرات الديموغرافية. تمثل هذه الاتجاهات، بحسب الوثيقة، مخاطر وفرصًا في آن واحد. ولكن من أين ستحصل الدول الفقيرة على الاستثمار للبنية التحتية، والمهارات الجديدة، والصناعات الأنظف؟ وكيف ستتمكن من تجاوز النماذج الصناعية القديمة والأكثر تلويثًا والاندماج في سلاسل الإنتاج الحديثة؟

نادرا ما تتناول المؤتمرات، مثل ذلك الذي عُقد في السعودية، القيود التي تواجهها الدول الفقيرة وتراجع التصنيع الهيكلي الذي شهدته. لا يعد تراجع التصنيع في الجنوب العالمي عرضياً ولا نتاجاً لـ “عدم كفاءة داخلية”، كما يزعم اقتصاديو صندوق النقد الدولي. بل هو نتيجة مباشرة لأزمة ديون العالم الثالث التي اندلعت في أوائل الثمانينيات وبرامج التكيف الهيكلي التي فرضها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي خلال الثمانينيات والتسعينيات. فرضت سياسات صندوق النقد الدولي، على سبيل المثال، في الثمانينيات تخفيضات في التعريفات الجمركية عرّضت مصانع المنسوجات والملابس في غانا للواردات الرخيصة، مما تسبب في انهيار الحزام الصناعي الذي كان مزدهراً في أكرا ذات يوم. أدت برامج التكيف الهيكلي في زامبيا في التسعينيات إلى خصخصة الصناعات الموردة لمناجم النحاس، مما أدى إلى تفكيك مسابك التصنيع المحلية، ورش الآلات، والمصانع الكيميائية التي شكلت القاعدة الصناعية في “حزام النحاس”. دفعت تدابير التقشف في حقبة الديون، وتخفيض قيمة العملة، والتحرير التجاري السريع في الثمانينيات والتسعينيات، في الحزام الصناعي (ABC) بالبرازيل جنوب ساو باولو وفي ممرات التصنيع في بوينس آيرس الكبرى، مصانع السيارات وصناعة المعادن والنسيج إلى تسريح العمال، أو الإغلاق، أو الانتقال مع فتح الأسواق أمام واردات أرخص. دُفعت الاقتصادات الهامشية التي بدأت في التصنيع، عبر الجنوب العالمي، للعودة إلى نمط مألوف يتمثل في تصدير المواد الخام واستيراد السلع المصنعة – يجسد البنية عينها للاقتصاد الكولونيالي الجديد.
يُلفت الانتباه أيضاً بشكل ضئيل إلى عنف – الحروب والعقوبات – الذي يزعزع استقرار الدول ذات السيادة ويحبط التطلعات الصناعية للدول الفقيرة. يدمر الصراع البنية التحتية الصناعية ويفتت ويحبط الطبقة العاملة، وكلاهما ضروري للتنمية. تمكنت دول قليلة فقط في الجنوب العالمي من الدفاع ضد هذه الاعتداءات على سيادتها ورعاية قدراتها الصناعية. تُعد كوبا المثال الأبرز، حيث استطاعت تطوير قدرتها الصناعية في التكنولوجيا الحيوية، والمعدات الطبية، والأدوية رغم الحصار الوحشي المستمر منذ ستة عقود – وهي حالة تصنيع اشتراكي تحت الحصار. تعتبر فيتنام مثالاً آخر: فرغم دمارها بفعل الحروب الإمبريالية، تمكنت مع ذلك من التعافي بفضل السياسة الصناعية الموجهة من الدولة التي بنت قدرة تصنيعية في المنسوجات، والإلكترونيات، وبناء السفن. تظل الصين، بالطبع، المثال الأكثر نجاحاً، حيث استخدمت تخطيط الدولة، والحوكمة اللامركزية، والملكية العامة لمفاصل الاقتصاد الرئيسية – بما في ذلك التمويل والتكنولوجيا – لبناء قوة صناعية وانتشال 800 مليون شخص من الفقر المدقع على مدى العقود الأربعة الماضية. تتناقض هذه التجارب مجتمعة مع كل وصفة تنموية نيوليبرالية قُدمت للدول الفقيرة في الجنوب العالمي.

لا تعد السياسة الصناعية مجرد ممارسة تقنية بل سياسية. إنها تتعلق ببناء الظروف للتنمية الصناعية من خلال تأكيد السيادة والحق في التنمية وعبر بناء قوة الطبقة العاملة من خلال الصراع الطبقي.
يستحيل تنفيذ “اتفاق صناعي جديد” إذا تم إخراج بلد ما عن مساره، بشكل ممنهج، بفعل التقشف الذي يفرضه صندوق النقد الدولي، والشركات متعددة الجنسيات التي تهيمن على استخراج المواد الخام وتصديرها، وعنف الحروب والعقوبات. تدمر هذه القوى مجتمعة البنية التحتية الإنتاجية، وتقلص قدرة الدولة، وتنتج طبقة فلاحين وطبقة عاملة هشّة وضعيفة سياسياً، مما يقوض العمليات الديمقراطية ويجعل التخطيط مستحيلاً. لن يكون هناك اتفاق صناعي جديد ما لم تكن هناك سيادة.
عكف معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي، على مدى السنوات القليلة الماضية، على صياغة “نظرية تنمية جديدة” للجنوب العالمي. حددنا، ضمن هذا الإطار، الشروط المسبقة التالية للتصنيع:
- اعتبار العمال مخططين مركزيين. يجب دمقرطة التخطيط، كما حدث في ولاية كيرالا الهندية، التي أطلقت عام 1996 “حملة خطة الشعب للتخطيط اللامركزي”. لا يمكن إنجاز التصنيع ما لم يتضمن التخطيط مدخلات من منظمات العمال والفلاحين وغيرها من الهيئات الشعبية المتجذرة في المجتمعات المحلية.
- استعادة السيادة. يجب أن تنتهي الحروب، وتُرفع العقوبات، وتُمنح الحكومات المساحة لبناء قدرة الدولة للتخطيط طويل الأمد، بما في ذلك الاستثمار في البنية التحتية، والنقل، والخدمات اللوجستية التي يمكن أن تربط بين المنتجين والمستهلكين عبر المناطق وتخفض تكاليف التنمية.
- تجاوز التبعية. يجب أن تكون سياسة الدولة، لتجاوز التبعية، قادرة على حماية الصناعات المحلية باستخدام التعريفات الجمركية والإعانات، وتنظيم التمويل من خلال ضوابط رأس المال، وضمان نقل التكنولوجيا والمعرفة. سيسمح هذا للبلدان بالانتقال من اقتصادات مصدرة للمواد الخام إلى اقتصادات مرتكزة على تصنيع محلي متنوع.
- توسيع الملكية العامة. يجب أن تكون القطاعات الاستراتيجية للاقتصاد – مثل الأراضي، والتمويل، والطاقة، والمعادن، والنقل، والسلع الرأسمالية – خاضعة للسيطرة العامة لضمان عملها من أجل التنمية الوطنية بدلاً من الربح الخاص. تستطيع شركات ومؤسسات القطاع العام، كما أظهر “منغ جي” و”تشانغ زيبين” مع قطاع التكنولوجيا الفائقة في الصين، المنافسة وخلق سوق عامة تزيد من الكفاءات.
- بناء التعاون بين بلدان الجنوب. يتعين على بلدان أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية زيادة التعاون – عبر إحياء “روح باندونغ” – لكسر دور الشركات والبنيات الاحتكارية الغربية في مجالي التمويل والتكنولوجيا.

ناقشت الحكومة الصينية وخمسون حكومة أفريقية، قبل عقد من الزمن، في “منتدى التعاون الصيني الأفريقي” (فوكاك) لعام 2015 في جوهانسبرغ بجنوب أفريقيا، مشكلة التنمية الاقتصادية والتصنيع. ظلت مسألة التصنيع الأفريقي مطروحة على الطاولة منذ عام 1945 ولكنها لم تتقدم بسبب البنية الكولونيالية الجديدة التي حالت دون أي تحول بنيوي جاد. تعد جنوب أفريقيا، والمغرب، ومصر الدول الأكثر تصنيعاً في القارة الأفريقية، لكن القارة بأكملها تمثل أقل من 2٪ من القيمة المضافة للصناعة التحويلية في العالم وحوالي 1٪ فقط من التجارة العالمية في المصنوعات. كان وضع “فوكاك” للسياسة الصناعية في صميم جدول أعماله أمراً بالغ الأهمية لهذا السبب؛ إذ أكد إعلان جوهانسبرغ لعام 2015 أن “التصنيع أمر حتمي لضمان التنمية المستقلة والمستدامة لأفريقيا”. ستوضع القدرة الصناعية الصينية في خدمة حاجة أفريقيا للتصنيع من خلال إنشاء مشاريع مشتركة، ومجمعات صناعية، وصندوق تعاون، وآليات لنقل التكنولوجيا والعلوم. ارتفع حجم التجارة بين أفريقيا والصين من 10 مليارات دولار في عام 2000 إلى 282 مليار دولار في عام 2023. رقّت الحكومة الصينية علاقتها مع الدول الأفريقية في عام 2024 إلى “شراكات استراتيجية”، مما يتيح تعاوناً أكبر. نملك الآن نموذجا اختباريا لمعرفة ما إذا كان التعاون بين بلدان الجنوب قادراً على توليد تصنيع سيادي يقطع مع الأنماط القديمة للنهب والتبعية. سيتعين في نهاية المطاف على الحكومات والعمال والحركات الأفريقية استخدام هذه الروابط كأدوات للتنمية بدلاً من السماح لها بأن تصبح نظاماً آخر للتبادل غير المتكافئ.

يكمن في قلب كل هذه النقاشات حول التصنيع سؤال بسيط: هل ستُستخدم موارد الجنوب العالمي لإثراء قلة قليلة أم للحفاظ على حياة الكثيرين؟ ذكّرتني القراءة عن منتدى التعاون الصيني الأفريقي بالشاعر النيجيري نيي أوسونداري (المولود عام 1947)، الذي يضم كتابه “عين الأرض” (1986) قصائد قوية حول علاقة الإنسانية بالطبيعة. أصبحت إحدى قصائد تلك المجموعة – “لنا لنحرثها لا لننهبها” – أيقونة لدرجة أنها دُرّست لأجيال من أطفال المدارس النيجيريين، على الرغم من القمع في ظل الحكومة العسكرية التي تولت السلطة عام 1983. إليكم آخر مقطعين:
أرضُنا مخزنُ حبوبٍ لم يُفتَح بعد،
وحظيرةٌ صاخبةٌ في أدغالٍ بعيدةٍ غيرِ مكتشفة،
وجوهرةٌ نائيةٌ في غبارٍ خشنٍ تعيس.
هذه الأرض
لنا لنعمل فيها لا لنهدرها،
لنا لنعمُرها لا لنشوّهها.
هذه الأرض لنا لنحرثها، لا لنهبَها.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 18 كانون الأول/ ديسمبر 2025.

