معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 26 كانون الأول/ ديسمبر 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: تفاصيل: يي وولين (الصين)، 红星颂 (قصيدة إلى النجمة الحمراء)، 2015.
قبل خمسة وسبعين عامًا، في 1 تشرين الأول/أكتوبر 1949، أعلن ماو تسي تونغ (1893-1976) عن تأسيس جمهورية الصين الشعبية. من المهم أن نلاحظ أن الحزب الشيوعي الصيني لم يطلق على الدولة الجديدة اسم الجمهورية الاشتراكية، بل الجمهورية الشعبية. والسبب في ذلك أن ماو والحزب الشيوعي الصيني لم يتوقعا أن تدخل الصين على الفور في الاشتراكية؛ بل كانت البلاد تسير على طريق الاشتراكية، وهي عملية من المرجح أن تستغرق عقودًا، إن لم يكن قرنًا من الزمان. كان ذلك واضحًا جدًا للشعب الذي بدأ في تشكيل الدولة والمجتمع الجديد. كان يجب بناء الجمهورية الشعبية من رحم حرب طويلة جدًا، حرب بدأت عندما غزا اليابانيون شمال الصين في عام 1931 واستمرت لمدة 14 عامًا وأودت بحياة أكثر من 35 مليون شخص. قال ماو في الجلسة العامة الأولى للمؤتمر الاستشاري السياسي للشعب الصيني في 21 أيلول/سبتمبر 1949: ”من الآن فصاعداً ستنتمي أمتنا إلى مجتمع الأمم المحبة للسلام والحرية في العالم“. وتابع إن الصين الجديدة ”ستعمل بشجاعة واجتهاد لتعزيز حضارتها ورفاهيتها وفي الوقت نفسه لتعزيز السلام والحرية في العالم. لن تكون أمتنا بعد الآن خاضعة للإهانة والإذلال. إن الشعب الصيني قد نهض“.
لقد كانت كلمات ماو انعكاسا لمشاعر الحركات المناهضة للاستعمار في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك كلمات قادة الحركات التي لم تكن اشتراكية، مثل جواهر لال نهرو من الهند وجمال عبد الناصر من مصر. فبالنسبة لهم، كانت عملية إنهاء الاستعمار تتطلب السلام العالمي والمساواة حتى تتمكن شعوب العالم المستعمرة سابقًا من النهوض وبناء حياتها بكرامة. تسمح لنا قراءة هذه الكلمات والتأمل فيها في عام 2024 بتقدير التقدم الذي أحرزته شعوب العالم منذ عام 1949، وعناد القوى الاستعمارية القديمة التي سعت طويلًا لمنع بناء هذا العالم الجديد. إن الإبادة الجماعية الأمريكية الإسرائيلية المستمرة ضد الفلسطينيين وقصف لبنان تعكس الوحشية التي ترغب القوى الاستعمارية في اللجوء إليها في محاولتها إبقاءنا في هذا الماضي الذي نريد تجاوزه. إن المواقف والحروب التي تفرضها القوى الاستعمارية القديمة تحرفنا عن بناء ”حضارتنا ورفاهيتنا“ وعن تعزيز ”السلام والحرية في العالم“. إن كلمات ماو، التي هي في الحقيقة كلمات جميع الشعوب الخارجة من الاستعمار، تعرض على العالم خياراً: إما أن نعيش كخصوم مع مواردنا التي تصب في حروب قبيحة لا معنى لها أو أن نبني ”مجتمعاً من أمم العالم المحبة للسلام والحرية“.
يتجاوز متوسط العمر المتوقع في جمهورية الصين الشعبية – 77 عامًا – المتوسط العالمي بأربع سنوات، بعد أن قطع شوطًا طويلًا مقارنة بعام 1949، عندما كان الرقم 36 عامًا فقط. وهذا أحد المؤشرات العديدة على مجتمع يعطي الأولوية لرفاهية الناس والكوكب. وقد شرح لي مسؤول صيني قبل بضع سنوات كيف أن بلاده تخطط لإنشاء اقتصاد ما بعد الوقود الأحفوري قريبًا. أثارت كلمة ”قريبًا“ اهتمامي، وسألته كيف يمكن القيام بشيء من هذا القبيل بهذه السرعة. بدأ يخبرني عن أهمية التخطيط وتعبئة الموارد، ولكن عندما أدرك أنني لم أكن أسأله عن استراتيجية هذا الاقتصاد الجديد بل عن الإطار الزمني، قال لي إنه يمكن القيام بذلك ”في غضون نصف القرن القادم، وربما، إذا عملنا بجد، بحلول [عام 2049،] الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين الشعبية“. إن الثقة في جمهورية الصين الشعبية تسمح بهذا النوع من التخطيط طويل الأمد، بدلاً من الإكراهات قصيرة الأمد التي يفرضها منطق الرأسمالية على الدول. هذا الموقف طويل الأجل يسود المجتمع الصيني، ويتيح للحزب الشيوعي الصيني رفاهية تسخير الموارد والتخطيط لعقود من الزمن في المستقبل، بدلاً من مجرد أشهر أو سنوات.
كان هذا النوع من التفكير هو الذي استحوذ على مديري مدينة بكين منذ أكثر من عشرين عامًا، عندما أدى الارتفاع السريع للسيارات في العاصمة وحرق الفحم لتوليد الحرارة إلى غمر السكان بالضباب الدخاني السام. أوضحت الخطتان الخمسيتان الوطنيتان للفترتين 2001-2005 و2011-2015، بالإضافة إلى خطة العمل الخمسية الخاصة ببكين للهواء النظيف (2013-2017)، أن النمو الاقتصادي لا يمكن أن يتجاهل البيئة. فبدأ مديرو المدينة في تركيز تخطيطهم على وسائل النقل العام وممرات النقل المتجذرة في التصميم الحضري الصيني القديم الذي بنى المتاجر والمباني السكنية بطريقة تشجع على المشي بدلاً من القيادة. وفي أيلول: سبتمبر 2017، أنشأت المدينة مناطق منخفضة الانبعاثات لمنع المركبات الملوثة من دخول بكين، ووضعت حوافز لاستخدام مركبات الطاقة الجديدة، التي تعمل بالطاقة الكهربائية. تمتلك الصين 99 في المئة من 385,000 حافلة كهربائية في العالم، منها 6,584 حافلة في شوارع بكين. وعلى الرغم من أن الطريق لا يزال طويلاً أمام بكين لكي يتوافق هواؤها مع المعايير الخاصة بها، إلا أن تلوث الهواء قد انخفض بشكل ملحوظ.
في خطاب ماو التأسيسي لعام 1949، أعلن أن أحد أهداف جمهورية الصين الشعبية هو تعزيز رفاهية الشعب. كيف يمكن القيام بذلك في ظل نظام عالمي استعماري جديد يفرض تبعية الأمم الفقيرة للقوى الاستعمارية السابقة؟ في سلسلة الإنتاج العالمية، تنتج الدول الأكثر فقرًا السلع بتكلفة أقل، مع كبح الأجور والاستهلاك، مما يسمح للشركات متعددة الجنسيات (MNCs) ببيع السلع بأسعار أعلى في جميع أنحاء العالم وتحقيق أرباح أكبر. ثم تُستثمر هذه الأرباح الكبيرة من قبل هذه الشركات لتطوير تكنولوجيات وقوى إنتاج جديدة تعزز التبعية الدائمة للدول الفقيرة. إذا قامت دولة فقيرة بتصدير المزيد من السلع في محاولة لكسب عوائد أعلى، فإنها ببساطة تقبر نفسها في دوامة أعمق وأعمق من انخفاض مستويات المعيشة لعمالها المستغلين وفي فخ الديون التي لا يمكن الخروج منها. إن القدرة على التخطيط أمر مهم، ولكن كيف يمكن للمرء الحصول على الموارد اللازمة لتنفيذ الخطة؟
في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي، كنا ننظر عن كثب في تجربة الصين وغيرها من دول الجنوب العالمي التي حاولت أن تهز قفص التبعية هذا. وكما بينت أنا وتينغ تشاك في مقال بمناسبة الذكرى الخامسة والسبعين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية، فقد حشدت الصين في عقودها الأولى ما كان متاحًا لها من موارد ضئيلة، بما في ذلك المساعدة من الاتحاد السوفيتي، لبناء نظام زراعي جديد ضد نظام الملاكين العقاريين، وإحداث نظام تعليمي وصحي يحسن من نوعية حياة الشعب، ومحاربة التسلسلات التراتبية البائسة التي كانت سائدة في الماضي. وقد منحت تلك المرحلة الأولى، من عام 1949 إلى أواخر السبعينيات، الصين ثقافة أكثر مساواة بكثير وسكانًا أكثر تعليمًا وأفضل صحة من سكان دول أخرى في مرحلة ما بعد الاستعمار. إن التزام الحزب الشيوعي الصيني بتحويل حياة الناس هو الذي خلق هذه الإمكانية. في المرحلة الثانية، منذ عام 1978 وحتى الآن، استخدمت الصين قوتها العاملة الكبيرة لجذب الاستثمارات الأجنبية والتكنولوجيا، ولكنها فعلت ذلك بطريقة تضمن نقل العلم والتكنولوجيا إلى الصين وسيطرة الدولة على أسعار الصرف، مما سمح للحزب الشيوعي الصيني برفع الأجور (التي تم تحسينها من خلال قانون عقود العمل لعام 2008)، وتجنب فخ الدخل المتوسط، وتعزيز القدرات التكنولوجية، ودفع الشركات المملوكة للدولة لتطوير أنظمة إنتاجية عالية التقنية. وهذا ما يفسر إلى حد كبير النمو السريع الذي شهدته الصين على مدى العقود الماضية وقدرتها على رفع مستوى رفاهية سكانها وبيئتها ضمن البنية العامة للنظام العالمي الاستعماري الجديد.
في أبريل/نيسان 2017، تم إنشاء منطقة شيونغان الجديدة (على بعد 100 كيلومتر تقريبًا جنوب بكين) رسميًا لاستيعاب خمسة ملايين نسمة من أجل تخفيف الازدحام الناشئ في بكين، التي يواجه سكانها المتزايد عددهم، البالغ 22 مليون نسمة، مشاكل واسعة النطاق. ويتم ذلك، على سبيل المثال، من خلال دمج العديد من المؤسسات غير الحكومية الموجودة حاليًا في العاصمة (من بينها المؤسسات البحثية والتعليم العالي والمؤسسات الطبية والمالية). كان أحد الدوافع الرئيسية لبناء منطقة شيونغان الجديدة هو معالجة المشاكل التي تواجه العاصمة المكتظة بالسكان دون الشروع في إعادة البناء الحضري الذي يمكن أن يدمر طابع هذه المدينة التي ظهرت لأول مرة سنة 1045 قبل الميلاد.
وللاستفادة من الصفحة البيضاء التي يتيحها بناء هذه المدينة الجديدة، وضع مسؤولو جمهورية الصين الشعبية هدفًا يتمثل في انعدام الانبعاثات الكربونية في منطقة شيونغان الجديدة، حيث تتسم مناظرها الطبيعية بألوان المياه الزرقاء والنباتات الخضراء بدلاً من الضباب الدخاني الرمادي للغابة الخرسانية. كانت الأولوية عند تخطيط المدينة هي إعادة تأهيل منطقة بايانغديان، وهي أكبر الأراضي الرطبة في شمال الصين. وقد تم توسيع مساحتها المائية، المعروفة باسم ”كلية شمال الصين“، من 170 كيلومترًا مربعًا إلى 290 كيلومترًا مربعًا؛ وتم تحسين جودة مياهها من الفئة الخامسة (غير صالحة للاستخدام) إلى الفئة الثالثة (صالحة للشرب)؛ وتم توطين بطة الغوص المهددة بالانقراض في المنطقة وهي الآن تزدهر في البحيرة. توجد بايانغديان في قلب المدينة.
ويجري بناء منطقة شيونغان الجديدة على شكل ”ثلاث مدن“: مدينة فوق الأرض؛ ومدينة تحت الأرض تضم مراكز تجارية ووسائل نقل وخطوط أنابيب (لكابلات الألياف الضوئية والكهرباء والغاز والمياه والصرف الصحي)؛ ومدينة سحابية ستوفر بيانات للنقل الذكي والحوكمة الرقمية وفحص المعدات الذكية ومراقبة المسنين والاستجابة للطوارئ. وكما جاء في تقرير اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في مقاطعة خبي الصادر في يناير/كانون الثاني، فإن منطقة شيونغان الجديدة هي:
"إنشاء مساحة بيئية حضرية تتعايش فيها المدينة والبحيرة، وتتكامل فيها المدينة مع المساحات الخضراء، وتترابط فيها الغابات والمياه.. [و] دمج الممرات الخضراء والمتنزهات والمساحات المفتوحة لخلق مدينة بها حدائق داخل المدن ومدن داخل الحدائق، حيث يمكن للناس العيش والاستمتاع بالطبيعة".
لقد حققت الصين بالفعل تقدما سريعا بعد مرور خمسة وسبعين عاما على مسيرتها الثورية، على الرغم من أنه سيتعين عليها تسوية العديد من المشاكل الجديدة التي ظهرت (والتي يمكنكم القراءة عنها في الطبعة الدولية من مجلة وينهوا زونغهنغ). إن منجز الصين في هزّ سلاسل التبعية جدير بالنقاش المفصّل، ربما أثناء السير على طول بحيرة بايانغديان في منطقة شيونغان الجديدة.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 03 تشرين الأول/ أكتوبر 2024.