من يناضلون من أجل تغيير العالم يعرفونه جيدا: المراسلة السادسة والأربعون (2022)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 13 يونيو/ حزيران 2023

قام ماركس، عام 1845، بتدوين بعض الملاحظات عن كتاب “الإيديولوجية الألمانية”، وهو كتاب ألفه مع صديقه المقرب فريدريك إنجلز. بعد خمس سنوات من وفاة ماركس، وبالضبط عام 1888، رصد إنجلز هذه الملاحظات ونشرها تحت عنوان أطروحات عن فيورباخ. وتعتبر الأطروحة الحادية عشرة هي الأكثر شهرة: “لقد فسر الفلاسفة العالم بطرق مختلفة؛ فيما تبقى النقطة الأهم هي تغييره”.

درسنا هذه الأطروحة في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي بعناية فائقة طيلة السنوات الخمس الماضية، ويبقى التفسير الأكثر قبولا هو أن ماركس حاول فيها حث الناس على عدم الاكتفاء بتفسير العالم، ولكن تجاوز الأمر إلى محاولة تغييره. ومع ذلك، لا نعتقد أن هذا يجسد معنى الجملة. نعتقد أن مقصد ماركس هو أن أولئك الذين يحاولون تغيير العالم لديهم إحساس أفضل بقيوده وإمكانياته، لأنهم يخلصون في الأخير إلى ما يسميها فرانتز فانون “الكتلة الغرانيتية” للسلطة والملكية والامتياز، ما يمنع الانتقال السلس من الظلم إلى العدالة. هذا هو السبب في أننا في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي نعمل على تطوير فكرنا انطلاقا من الحكمة التي تراكمت لدى الحركات السياسية والاجتماعية على مر السنين. نعتقد أن أولئك الذين يناضلون من أجل تغيير العالم لديهم وضوح معين حول الهياكل التي تحدده.

فرانسيس نيوتن سوزا (الهند)، نائب المدير، 1961.

تنبثق الحركات الشعبية في جميع أنحاء العالم من شدائد وآمال العمال والفلاحين والأشخاص المضطهدين من قبل التسلسلات الهرمية الاجتماعية، والذين يتم استغلالهم قصد تجميع الرأسمال بين أيدي القلة المالكة. إذا رفض عدد كاف من الناس الخضوع لحقائق الجوع أو الأمية المستعصية فقد تتحول أفعالهم إلى تمرد أو حتى ثورة، لكن هذا الرفض يتطلب قدرا من الثقة والوضوح.

إن الثقة هي معطى غامض، ففي بعض الأحيان تكون متأتية من قوة شخصية وفي أحيان أخرى ناتجة عن تراكمات الخبرة، في وقت يعتبر الوضوح نتاج معرفة بمن يمارس الاستغلال والقمع وكيف تعمل الأنظمة التي تقوم على هذا الاستغلال والقمع. وهذه المعرفة هي بدورها منبثقة من تجارب العمل والحياة، على أن يتم شحذها من خلال النضال لتجاوز مختلف الظروف.

يمكن أن تتبدد الثقة والوضوح اللذان يُعززان في النضال بسهولة ما لم تتم مراكمتهما في منظمات مثل اتحاد الفلاحين، المنظمات النسائية، النقابات، المجموعات المجتمعية أو الأحزاب السياسية، لاسيما أن نمو ونضج هذه المنظمات قادر على غرس عادة إجراء البحوث لدى الشعوب، ما من شأنه أن يدفع نحو تبني وعي تاريخي وتحليل للوضع السياسي وتقييم واضح للتسلسل الهرمي للحكم.

هذه السيرورة الهادفة إلى إجراء بحث حول الناشطين هي جوهر المقابلة التي أجريناها مع ر. شاندرا من النساء الديمقراطيات لعموم الهند (AIDWA) التي قمنا بإدراجها ضمن ملفنا رقم 58 (نونبر/ تشرين الثاني 2022). تخبرنا شاندرا بقصة حول كيف أن ناشطات AIDWA أجرين استطلاعات في ولاية تاميل نادو الجنوبية لفهم أفضل لظروف العمل والمعيشة للنساء هناك، وشرحت لنا كيف أن المعلومات المستقاة من هذه الاستطلاعات قدمت رؤية واضحة للاستغلال والقمع الحاصل، الأمر الذي ساهم في وضع الحجر الأساس للحملات التي تقو بها AIDWA. من خلال هذه الحملات، اكتشفت AIDWA المزيد حول سلطة “كتلة الجرانيت” والامتيازات والممتلكات المترتبة عنها. ومكنت هذه السيرورة المنظمات من إيجاد نقطة الوصل بين النضال والاستطلاعات، وهو الأمر الذي من شأنه أن يمكنها من بناء نظريتها وتقوية نضالاتها.

تشرح لنا شاندرا بالتفصيل كيف قامت AIDWA بتصميم الاستطلاعات وطريقة إجرائها من قبل الناشطات المحليات، وكيف أدت نتائج هذه الاستطلاعات إلى تبني نضالات ملموسة والمساهمة في تدريب أعضاء AIDWA على تطوير تقييم واضح للمجتمعات المختلفة والنضالات اللازمة للتغلب على التحديات التي تواجهها الشعوب.

عبرت شاندرا لنا عن أن “عضوات AIDWA لم يعدن بحاجة إلى أستاذ لمساعدتهن”، وأضافت: “أصبحن يقمن بصياغة أسئلتهن الخاصة وإجراء دراسات ميدانية خاصة بهن عندما يتناولن قضية ما”؛ ولم يفتها التنويه بأن هؤلاء النساء، ونظرا لمعرفتهن المسبقة بقيمة هذه الدراسات، أصبحن جزءا أساسيا من العمل المحلي لـAIDWA، إذ قمن بإدخال هذه الأبحاث في حملات المنظمة ومناقشة النتائج في اللجان المختلفة قبل أن يتم عرضها خلال المؤتمرات المنعقدة.

لا تنحصر أهمية هذا البحث النشط فقط على إنتاج معرفة مسبقة بالتسلسلات الهرمية التي يعرفها كل مكان على حدة، بل إنه يدرب النشطاء أيضا ليصبحوا “مثقفين جدد” لنضالاتهم وقادة في مجتمعاتهم.

على مدار السنوات الماضية، وبناء على مقابلات مع قادة الحركات من إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، بدأ فريقنا في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي مسعاه في تطوير منهجيتنا الخاصة بالبحث النشط، وهي منهجية قائمة على بناء المعرفة من خلال التطبيق العملي. تتكون هذه المنهجية من خمسة محاور رئيسية:

1. ينظم باحثونا لقاءات مع قادة الحركات الشعبية ويجرون معهم مقابلات مطولة ترتكز حول النقاط التالية:

أ. تاريخ الحركة

ب. سيرورة بناء الحركة

ج. حدود الحركة ونقاط قوتها

2. بعد ذلك يقوم فريقنا بدراسة المقابلة، من خلال قراءة متأنية، ويقدم تحليلا لما لخصته الحركة ونوع النظرية التي طورتها. يمكن نشر المقابلة الأولية كنص بواسطة معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي، مثلما فعلنا مع مقابلات مع كل من ك. هيمالاتا، رئيس مركز النقابات العمالية الهندية، وسبو زيكودي، من أبهلالي بازمجوندولو، وهي حركة “سكان الأكواخ” في جنوب إفريقيا، بالإضافة إلى المقابلة مع نوري روسيتو من حركة الفلاحين من دون أرض البرازيلية.

3. انطلاقا من التحليل المقدم في المقابلة يختار الباحثون الموضوعات الرئيسية التي يرون أنها ستكون مفيدة، ويدونون ملاحظات من أجل التعمق في دراستها، ثم تتم مشاركة هذه الموضوعات مع قادة الحركات قصد الحصول على مساهماتهم.

4. عندما يتم التوصل إلى اتفاق حول هذه المواضيع يعمل باحثونا – أحيانا جنبا إلى جنب مع باحثين من الحركة، وأحيانا بمفردهم – على بناء سيرورة معينة قصد دراسة المواضيع من خلال مراجعة المؤلفات الأكاديمية ذات الصلة، وإجراء المزيد من الأبحاث بالتنسيق مع الحركات المعنية (مقابلات أخرى على سبيل المثال)، وكذلك القيام باستطلاعات رأي وسط الناس. يشكل هذا البحث قلب المشروع.

5. يتم تحليل البحث وتفصيله عبر نص معمق ومشاركته مع قادة الحركات من أجل إضافة مدخلاتهم وتقييمهم. بعد الانتهاء من ذلك، يتم إنتاج نص نهائي قابل للنشر بالتعاون مع الحركات المعنية.

هذه هي الطريقة التي يتم بها تنفيذ عملنا، وهو شكل البحث النشط الذي تعلمناه من منظمات كـAIDWA.

عندما نشرنا ملفنا حول أبحاث النشطاء، كان رؤساء وممثلو الدول من جميع أنحاء العالم مجتمعين في شرم الشيخ (مصر) ضمن أشغال مؤتمر الأطراف السابع والعشرين ((COP الخاص باتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغيرات المناخية، وهو مؤتمر منفصل تماما عن مزاج الشعوب.

هذه هي النسخة السابعة والعشرون لمؤتمر الأطراف الذي يتم تمويله، بالإضافة إلى شركات أخرى، من قبل كوكا كولا، التي تعتبر أكبر منتهك للمياه والكوكب. وأثناء انعقاد المؤتمر، وغير بعيد عن المنتجع الذي يستضيف الفعاليات، بالضبط في القاهرة، يقبع الناشط الحقوقي علاء عبد الفتاح في السجن حيث قضى فيه العقد الماضي بأكمله. وتزامنا مع المؤتمر قرر علاء الدخول في إضراب ليس فقط عن الطعام، بل تجاوز ذلك إلى الامتناع عن شرب المياه، “المياه التي تمت خصخصتها بشكل متزايد من قبل شركات كوكا كولا وسرقتها”، حسب جاي ستاندينج، من بلو كومونز.

 لن ينتج عن مؤتمر الأطراف في مصر أي جديد مثلما حدث مع النسخ السابقة، ولا توجد اتفاقية لمنع الكوارث المناخية.

حضرت العام الماضي اجتماع COP26 الذي أقيم في غلاسكو، وأثناء وقوفي ضمن قائمة الانتظار من أجل إجراء اختبار PCR التقيت بمجموعة من المديرين التنفيذيين في مجال النفط؛ نظر أحدهم إلى شارة الصحافي التي أحملها وسألني عما أفعله في المؤتمر، فأخبرته بأنني علمت مؤخرا عن الوضع المروع في كابو ديلغادو، شمال موزمبيق، حيث كان الناس في تمرد مفتوح ضد مشروع استخراج الغاز بقيادة شركتي توتال الفرنسية وإكسون موبيل الأمريكية. فرغم الأرباح الناجمة عن الغاز المأخوذ من منطقتهم استمرت معاناة الشعب من الفقر المدقع، وبدلا من معالجة هذا الظلم، زعمت حكومات موزمبيق وفرنسا والولايات المتحدة أن المتظاهرين هم عبارة عن إرهابيين وطالبت الجيش الرواندي بالتدخل.

بينما كنا نقف في الطابور، قال لي أحد المديرين التنفيذيين لأسواق النفط: “كل ما تقوله صحيح، لكن لا أحد يهتم”. بعد ساعة، وفي وقت كنت جالسا في قاعة بغلاسكو، سئلت عن رأيي في الجدل المناخي الذي تمت بلورة شروطه من قبل المديرين التنفيذيين للوقود الأحفوري وخصخصة الطبيعة، هذا ما قلته:

للأسف، وبعد مرور عام، لم يتغير أي شيء وبقي هذا التدخل صالحا وسليما لوقتنا الحالي أيضا.

* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 17 نونبر/ تشرين الثاني 2022.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة