مضمون إدانة محكمة العدل الدولية لإسرائيل بسبب حرب الإبادة الجماعية التي تشنها

مشاركة المقال

بيبلز ديسباتش/ مدار: 10 شباط/ فبراير 2024*

فيجاي براشاد

كان حكم محكمة العدل الدولية في ما يخص القضية التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل بمثابة انتصار حاسم لحركة التضامن مع فلسطين، وبمثابة قرار يتم من خلاله الكشف عن جرائم الحرب التي ارتكبتها إسرائيل ليراها العالم أجمع.

أصدر قضاة محكمة العدل الدولية في 26 كانون الثاني/ يناير 2024 حكمهم المكون من 29 صفحة، الذي وجد أن هنالك أدلة “معقولة” (الفقرة 54) على أن إسرائيل ارتكبت إبادة جماعية ضد الفلسطينيين في غزة. وجاء تدخل المحكمة بعد الدعوى التي تقدمت بها جنوب أفريقيا حول انتهاك إسرائيل التزاماتها بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها (1948).

وقد لجأت جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية بعد شهرين وثلاثة أسابيع من القصف العسكري الإسرائيلي الوحشي ضد الفلسطينيين؛ وتضمنت لائحة الاتهام، التي قدمتها إلى المحكمة في 29 ديسمبر/كانون الأول 2023 84 صفحة، بما يشمل تصريحات أدلى بها كبار المسؤولين الإسرائيليين تدعو إلى الإبادة الكاملة لـ “المتوحشين البشريين” في غزة، وتضمنت تفاصيل حول كيفية تصرف إسرائيل بناءً على مثل هذه التصريحات.

وافقت محكمة العدل الدولية على دعوى جنوب أفريقيا، ودعت إسرائيل إلى “اتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأفعال” التي تعتبر إبادة جماعية (الفقرة 78). ولا يعتبر هذا القرار نهاية للدعوى المرفوعة، باعتبار أنه لم تكن هنالك محاكمة، بل مجرد “تدابير مؤقتة”.

ومن المرتقب أن تستغرق محكمة العدل الدولية عدة سنوات للبت في ما إذا كانت إسرائيل ترتكب بالفعل إبادة جماعية ضد الفلسطينيين. ولم تدع محكمة العدل الدولية بشكل مباشر إلى وقف إطلاق النار أو “وقف الأعمال العدائية” (كما فعلت في مارس/آذار 2022، عندما أمرت روسيا بـ “تعليق العمليات العسكرية”)، ولكن من الصعب قراءة الفقرة 78 بطريقة أخرى غير أنها تدعو إسرائيل إلى إسكات بنادقها.

هذه القضية تجعلنا نعود بالذاكرة إلى الوراء، إلى حوالي عشرين سنة، حيث درست محكمة العدل الدولية بناء جدار حول الضفة الغربية في الأرض الفلسطينية المحتلة، وهو الأمر الذي نتج عنه في يوليو/تموز 2004 إيجاد المحكمة أن “تشييد إسرائيل الجدار… يتعارض مع القانون الدولي”.

وكانت هناك معركة لا هوادة فيها حول اختصاص محكمة العدل الدولية للحكم على سلوك إسرائيل في الأراضي الفلسطينية المحتلة، بما في ذلك عام 2022 عندما التمست عدة دول رأيا قانونيا بشأن النتيجة التي توصلت إليها لجنة التحقيق التابعة لمجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة برئاسة القاضي الجنوب إفريقي نافي بيلاي. ووجد تقرير بيلاي “أسبابا معقولة لاستنتاج أن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية يعد غير قانوني بموجب القانون الدولي بسبب استمراره وسياسات الضم الفعلية التي تنتهجها الحكومة الإسرائيلية”، وهو الأمر الذي اعترضت عليه إسرائيل، متذرعة بأن هذا القضية خارج اختصاص محكمة العدل الدولية. والآن، مع تهمة الإبادة الجماعية هذه، أنشأت المحكمة اختصاصها وقبلت إسرائيل ذلك من خلال المشاركة في الإجراءات.

تدابير مؤقتة

قامت الأمم المتحدة بإنشاء محكمة العدل الدولية كآلية لتسوية النزاعات بين الدول، وهو الأمر الذي جعل جنوب أفريقيا تتجه نحوها لرفع دعوى في إطار نزاعها مع إسرائيل، متهمة إياها بانتهاك معاهدة دولية. وبعد النظر في النزاع، حكمت محكمة العدل الدولية لصالح جنوب أفريقيا، وأقرت “تدابير مؤقتة” للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مع العلم أن الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية هو نهائي ولا يمكن استئنافه. وأمهلت محكمة العدل الدولية إسرائيل شهرا لإظهار أنها اتخذت إجراءات لحماية الفلسطينيين، وإذا ما فشلت في الرد أو لم تستجب بشكل مُرضِِ فسوف ترسل المحكمة أمرها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتنفيذه. وسيكون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ملزما بموجب ميثاق الأمم المتحدة بإنفاذ الأمر.

وقد رفضت إسرائيل هذا الحكم بالفعل، ما يعني أنه سيتم إرسال الأمر، بعد أقل شهر من الآن، إلى مجلس الأمن الدولي. وعند هذه النقطة، سيكون من المثير للاهتمام أن نرى كيف سيكون رد فعل دول الشمال العالمي الثلاث التي تتمتع بحق النقض (فرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) من الأمر. في 25 يناير/كانون الثاني، قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأمريكية، فيدانت باتيل، إن الحكومة الأمريكية تعتقد أن “الادعاءات بأن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية لا أساس لها من الصحة”. وأضاف باتيل أن على إسرائيل “اتخاذ خطوات عملية، خطوات إضافية لمنع إلحاق الأذى بالمدنيين”، لكن لا توجد إبادة جماعية ترتكبها إسرائيل. سيؤدي هذا إلى مواجهة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة. وقد طلبت الجزائر، وهي عضو في مجلس الأمن الدولي في ذلك الوقت، عقد اجتماع لمناقشة الحكم ودعوة مجلس الأمن الدولي إلى وقف فوري لإطلاق النار.

سمعة المحكمة

إلى جانب أمر محكمة العدل الدولية، كتبت القاضية شيو هانكين رأيا منفصلا، أشارت فيه إلى أنه قبل ستين عاما قامت حكومتا إثيوبيا وليبيريا بتقديم جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية لدورها في جنوب غرب أفريقيا (ناميبيا الآن)، وكتبت أن المحكمة رفضت القضية، وأن “هذا الحرمان من العدالة أدى إلى سخط شديد” ضدها و”شوه سمعتها بشدة”.

وجاءت القاضية شيو إلى محكمة العدل الدولية عام 2010، وتم انتخابها – نظرًا لجدية هدفها – لتكون نائبة رئيس المحكمة عام 2018، وفي مارس 2022 صوتت ضد الأمر المؤقت الذي دعا روسيا إلى تعليق عمليتها العسكرية في أوكرانيا (بحلول وقت صدور ذلك الأمر كان ما يزيد قليلاً عن ألف مدني قُتلوا في الحرب، بينما بحلول الوقت الذي تولت فيه محكمة العدل الدولية -قضية جنوب إفريقيا ضد إسرائيل- خلّف القصف الإسرائيلي مقتل أكثر من 25 ألف مدني).

وفي حالة الحرب الوحشية التي شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين، أثارت القاضية شيو مسألة “أمام الجميع”، ما يعني أن هذه قضية تضر فيها تصرفات إسرائيل بالمجتمع الدولي ويجب إجبارها على وقف حربها على الفلسطينيين، نيابة عن البشرية جمعاء. وكتبت القاضية شيو: “بالنسبة لمجموعة محمية مثل الشعب الفلسطيني فإن الأمر الأقل إثارة للجدل هو أن المجتمع الدولي لديه مصلحة مشتركة في حمايته”.

وتضم المحكمة ثلاثة قضاة آسيويين، وهم بالإضافة إلى القاضية شيو إيواساوا يوجي من اليابان والقاضي دالفير بهانداري من الهند. ويتمتع القاضي بهانداري بمسيرة مهنية متميزة في الهند في محكمة دلهي العليا (1991-2004) وفي محكمة بومباي العليا (2004-2005) وفي المحكمة العليا (2005-2012) قبل ترقيته إلى محكمة العدل الدولية. وألحق خمسة قضاة فقط آراءهم بالأمر، وكان أحدهم القاضي بهانداري. وفي رأيه، تناول القاضي بهانداري الأسس القانونية لقضية جنوب أفريقيا، لكنه حرص على تسجيل وجهة نظره بأن القوانين الدولية الأخرى غير اتفاقية الإبادة الجماعية تنطبق على هذه الحرب، وأنه يجب على جميع الأطراف الالتزام بهذه القوانين. وفي حين أن الأمر نفسه لم يدع بشكل مباشر إلى وقف الأعمال العدائية، فإن القاضي بهانداري فعل ذلك، وكتب: “يجب على جميع المشاركين في النزاع التأكد من وقف جميع أعمال الاقتتال والأعمال العدائية على الفور وإطلاق سراح الرهائن المتبقين الذين تم أسرهم في 7 أكتوبر 2023 بشكل فوري دون شرط أو قيد”. ومن المرجح أن القاضي بهانداري ألحق رأيه للمحكمة من أجل تسجيل ضرورة المطالبة مباشرة بوقف إطلاق النار المباشر.

رد فعل إسرائيل وحلفائها

كان رد فعل إسرائيل على أمر محكمة العدل الدولية ملفتا للأنظار، إذ قال وزير الأمن القومي الإسرائيلي إيتامار بن غفير إن محكمة العدل الدولية “معادية للسامية”، وإنها “لا تسعى إلى العدالة، بل إلى اضطهاد الشعب اليهودي”. والغريب أن بن غفير قال إن محكمة العدل الدولية كانت “صامتة أثناء الهولوكوست (المحرقة)”.

جدير بالذكر أن المحرقة التي ارتكبها كل من النظام الألماني النازي وحلفائه ضد اليهود الأوروبيين والغجر والمثليين جنسياً والشيوعيين حدثت في الفترة ما بين أواخر عام 1941 ومايو 1945 (عندما حرر الجيش الأحمر السوفييتي الأسرى من رافينسبروك وزاكسين هاوزن وستوتهوف)، في حين تأسست محكمة العدل الدولية في يونيو/حزيران 1945، بعد شهر من انتهاء الهولوكوست، وبدأت العمل في أبريل/نيسان 1946. وجاء ذلك في محاولة لنزع الشرعية عن المحكمة بالقول إنها ظلت “صامتة” عندما لم تكن موجودة، كما أن استخدام الزعم الكاذب في البيان الذي يدعو إلى وصف محكمة العدل الدولية بأنها “معادية للسامية” يُظهر أن إسرائيل ليست لديها إجابة عن موضوع قرار محكمة العدل الدولية.

والأمر المثير للاهتمام هو أن القاضي الإسرائيلي في محكمة العدل الدولية، أهارون باراك، انضم إلى أغلبية القضاة في التصويت بأغلبية 16 مقابل 1 ليقول إن إسرائيل لا تسمح بدخول المساعدات الإنسانية للفلسطينيين في غزة، وإنها يجب أن تمنع وتعاقب التحريض على الإبادة الجماعية”.

من الصعب على كبار المسؤولين الإسرائيليين أن يعتبروا باراك “معادياً للسامية” أو أن يستخفوا بمؤهلاته. شغل باراك مناصب رفيعة في إسرائيل، مثل النائب العام (1975-1978) وقاض في المحكمة العليا في إسرائيل (1978-1995) ورئيس المحكمة العليا (1995-2006). هذا وصوّت باراك ضد الادعاء القائل بوجود أدلة “معقولة” على وقوع إبادة جماعية من قبل الحكومة الإسرائيلية، وكتب في رأيه أن “الإبادة الجماعية هي أكثر من مجرد كلمة بالنسبة لي؛ إنه يمثل الدمار المحسوب والسلوك البشري في أسوأ حالاته، إنه أخطر اتهام محتمل وهو متداخل بعمق مع تجربتي الحياتية الشخصية”. ورغم أن باراك مرشح إسرائيل لعضوية محكمة العدل الدولية لهذه القضية، لم يصوت على الاتهام بأن الإبادة الجماعية تجري في غزة، إلا أن أنه وافق رغم ذلك على وجود “تحريض على الإبادة الجماعية”. ويفرّق بين الاثنين خيط رفيع، يطارده شبح ثلاثين ألف قتيل فلسطيني (نصفهم تقريبا من الأطفال).

وقد رحب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي يواجه متاعب سياسية داخل إسرائيل، بمعطى أن محكمة العدل الدولية لم تأمر بوقف إطلاق النار، ثم قال إن مجلس وزراء الحرب التابع له سوف يستمر في مواصلة حربه. وهذا الالتفاف حول الحكم غير معقول، ولن يقنع أحدا، وخاصة قضاة محكمة العدل الدولية الذين وجدوا أن الاتهام بالإبادة الجماعية “معقول” وطالبوا إسرائيل بوقف حرب الإبادة الجماعية التي تشنها.

*نشر هذا المقال لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ 30 كانون الثاني/ يناير 2024.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة