مزاج جديد يجتاح العالم يمكن أن يضع حدا لعقيدة مونرو -المراسلة 47 (2023)

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 28 تشرين الثاني/ نونبر 2023*

فيجاي براشاد

كان كل يوم منذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول بمثابة يوم عالمي للتضامن مع الشعب الفلسطيني، حيث تجمع مئات الآلاف في إسطنبول ومليون في جاكرتا، ثم مليون آخر في جميع أنحاء القارة الأفريقية وأمريكا اللاتينية، للمطالبة بوضع حد للهجوم الوحشي الذي تقوده إسرائيل بتواطؤ مع الولايات المتحدة. هذا الوضع في غزة لاقى مواكبة من الشعوب من خلال حجم ووتيرة الاحتجاجات التي بدورها كان لها دور مهم في دفع الأحزاب السياسية والحكومات إلى توضيح مواقفها من الهجوم الإسرائيلي على فلسطين. وقد أسفرت هذه الاحتجاجات والمظاهرات الحاشدة عن ثلاثة أنواع من النتائج:

1. اجتذبت جيلا جديدا ليس فقط إلى النشاط المؤيد لفلسطين، بل وأيضا إلى الوعي المناهض للحرب، إن لم يكن مناهضاً للإمبريالية.

2. كانت سببا في انضمام قطاع جديد من النشطاء، وخاصة النقابيين، الذين ألهمتهم حملة لوقف شحن البضائع من وإلى إسرائيل (بما في ذلك في أماكن مثل أوروبا والهند، حيث دعمت الحكومات الهجمات الإسرائيلية).

3. أعطت الانطلاقة لعملية سياسية قائمة على تحدي نفاق “النظام الدولي القائم على القواعد” الذي يقوده الغرب، لمطالبة المحكمة الجنائية الدولية بتوجيه الاتهام إلى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وغيره من كبار المسؤولين في الحكومة الإسرائيلية.

لم تشهد أي حرب من حروب السنوات الأخيرة ــ ولا حتى حملة “الصدمة والرعب” التي استخدمتها الولايات المتحدة ذريعة لاجتياح العراق عام 2003 ــ القدر نفسه من القسوة في استخدام القوة. كما أن الأكثر رعباً هو حقيقة أن المدنيين، الذين يحاصرهم الاحتلال الإسرائيلي، ليس لديهم مفر من القصف العنيف. ما يقرب من نصف القتلى (5800 على الأقل) المدنيين الذي يزيد عن 14000 هم من الأطفال، وهو الأمر الذي جعل من الدعاية الإسرائيلية القائمة على إقناع مليارات الأشخاص حول العالم بأن هذا العنف هو رد عادل على هجوم 7 أكتوبر غير قابل للتصديق. تظهر الصور من غزة الطبيعة غير المتناسبة وغير المتكافئة للعنف الإسرائيلي على مدى السنوات الخمس والسبعين الماضية.

فنسنت دي بيو (الفلبين)، العودة إلى المستقبل، 2012.

لقد ترسخ اقتناع جديد بين ملايير الأشخاص في الجنوب العالمي، وانعكس على الملايين في الشمال العالمي، الذين لم يعودوا يأخذون مواقف قادة الولايات المتحدة وحلفائهم الغربيين على محمل الجد. تظهر دراسة جديدة أجراها المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية أن “قسماً كبيرا من بقية بلدان العالم يريد أن تتوقف الحرب في أوكرانيا في أقرب وقت ممكن، حتى لو كان ذلك يعني خسارة كييف للأراضي”، وقلة قليلة من الناس ــ حتى في أوروبا ــ قد يقفون إلى جانب واشنطن إذا اندلعت حرب بين الولايات المتحدة والصين بشأن تايوان. كما يشير المجلس إلى أن هذا يرجع إلى “فقدان الثقة في الغرب في ما يتعلق بتنظيم العالم”. بتعبير أكثر دقة، لم تعد أغلب دول العالم راغبة في الخضوع للترهيب من قِبَل الغرب (على حد تعبير وزيرة خارجية جنوب أفريقيا ناليديباندور).

على مدار المائتي عام الماضية كان مبدأ مونرو الذي أقرته حكومة الولايات المتحدة فعالا في تبرير هذا النوع من التنمر. لفهم أهمية هذه السياسة الرئيسية في دعم هيمنة الولايات المتحدة على النظام العالمي بشكل أفضل تتضمن بقية هذه النشرة رقم 11 من “لا للحرب الباردة، حان الوقت لدفن عقيدة مونرو”.

أخبر رئيس الولايات المتحدة الأسبق جيمس مونرو، في العام 1823، الكونغرس الأمريكي بأن حكومته ستقف ضد التدخل الأوروبي في الأمريكتين. هذا الأمر كان له تجل واضح على أن واشنطن، منذ ذلك الحين، ستتعامل مع أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي باعتبارهما “حديقتها الخلفية”، استنادا إلى سياسة تعرف باسم “عقيدة مونرو”.

عملت الولايات المتحدة على مدار المائتي عام الماضية على هذا المنوال، وهو ما تجسد في أكثر من مائة تدخل عسكري ضد دول في المنطقة. وحاولت الولايات المتحدة وحلفاؤها في شمال الكرة الأرضية منذ سقوط الاتحاد السوفييتي عام 1991 توسيع هذه السياسة إلى عقيدة مونرو العالمية، وكان ذلك أكثر تدميراً في غرب آسيا.

عنف عقيدة مونرو

قبل عقدين من إعلان مونرو، اندلعت أول ثورة في العالم ضد الاستعمار في هايتي، حيث شكلت ثورة هايتي عام 1804 تهديدا خطيرا لاقتصاديات المزارع في الأمريكتين، التي اعتمدت على العمالة المستعبدة من أفريقيا، ولذلك قادت الولايات المتحدة عملية لخنقها ومنعها من الانتشار. ومن خلال التدخلات العسكرية الأمريكية في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي، منعت عقيدة مونرو صعود حق تقرير المصير الوطني ودافعت عن عبودية المزارع وسلطة الأوليغارشية.

ومع ذلك، لم يكن من الممكن إخماد روح الثورة الهايتية، ففي عام 1959 اشتعلت الثورة الكوبية من جديد، التي ألهمت بدورها النضالات الثورية في جميع أنحاء العالم، والأهم من ذلك في ما يسمى بالحديقة الخلفية للولايات المتحدة. ومرة أخرى بدأت الولايات المتحدة دورة من العنف لتدمير النموذج الثوري لكوبا، ومنعها من إلهام الآخرين، والإطاحة بأي حكومة في المنطقة تحاول ممارسة سيادتها.

ومعا، أطلقت الأوليغارشيات في الولايات المتحدة وأميركا اللاتينية عدة حملات، مثل عملية كوندور، لقمع اليسار بعنف من خلال الاغتيالات والسجن والتعذيب وتغيير النظام. وبلغت هذه الجهود ذروتها في سلسلة من الانقلابات ضد القوى اليسارية في جمهورية الدومينيكان (1965)، تشيلي (1973)، أوروغواي (1973)، الأرجنتين (1976) والسلفادور (1980).

 لقد قامت الحكومات العسكرية التي تم تنصيبها في ما بعد بإلغاء أجندة السيادة وفرضت مشروعا نيوليبراليا مكانها، وأصبحت أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي أرضا خصبة للسياسات الاقتصادية التي استفادت منها الاحتكارات العابرة للحدود التي تقودها الولايات المتحدة. وقد اختارت واشنطن قطاعات كبيرة من الطبقة البرجوازية في المنطقة، وباعت لهم وهم أن التنمية الوطنية ستأتي جنبا إلى جنب مع نمو قوة الولايات المتحدة.

أوزوالدو فيغاس (فنزويلا)، دويندي روخو (“العفريت الأحمر”)، 1979.

الموجات التقدمية

رغم هذا القمع، استمرت موجات الحركات الشعبية في تشكيل الثقافة السياسية في المنطقة. خلال ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، أطاحت هذه الحركات بالديكتاتوريات العسكرية التي فرضتها عملية كوندور، ثم افتتحت دورة من الحكومات التقدمية المستوحاة من الثورتين في كوبا ونيكاراغوا، التي دفعها إلى الأمام الفوز الانتخابي الذي حققه هوغو شافيز في فنزويلا عام 1998. كانت الاستجابة لهذه الطفرة التقدمية مدفوعة مرة أخرى بعقيدة مونرو، حيث سعت إلى تأمين مصالح الملكية الخاصة فوق احتياجات الجماهير. واستخدمت هذه الثورة المضادة ثلاث أدوات رئيسية:

1. الانقلابات. حاولت الولايات المتحدة منذ عام 2000 إجراء انقلابات عسكرية “تقليدية” في سبع وعشرين مناسبة على الأقل، ونجحت بعض هذه المحاولات، مثلما حدث في هندوراس (2009)، بينما هُزمت العديد من المحاولات الأخرى، كما حدث في فنزويلا (2002).

2. الحروب الهجينة. بالإضافة إلى الانقلاب العسكري، طورت الولايات المتحدة أيضا سلسلة من التكتيكات للتغلب على الدول التي تحاول بناء السيادة، مثل حرب المعلومات والحرب القانونية والحرب الدبلوماسية والتدخل في الانتخابات. وتشمل إستراتيجية الحرب الهجينة هذه فضائح عزل مصطنعة (على سبيل المثال، ضد فرناندو لوغو في باراغواي عام 2012)، وتدابير “مكافحة الفساد” (مثل ما حدث ضد كريستينا كيرشنر في الأرجنتين عام 2021). هذا وعملت الولايات المتحدة في البرازيل مع التيار اليميني في البلاد للتلاعب ببرنامج مكافحة الفساد لعزل الرئيسة ديلما روسيف عام 2016 وسجن الرئيس السابق لويس إيناسيو لولا دا سيلفا عام 2018، ما أدى إلى انتخاب اليميني المتطرف جايير بولسونارو عام 2018.

3. العقوبات الاقتصادية. إن استخدام التدابير القسرية غير القانونية والأحادية ــ بما في ذلك العقوبات الاقتصادية والحصار ــ يشكل أداة رئيسية لعقيدة مونرو. وقد استخدمت الولايات المتحدة مثل هذه الأدوات لعقود من الزمن (منذ عام 1960 في حالة كوبا)، ووسعت نطاق استخدامها في القرن الحادي والعشرين ضد دول مثل فنزويلا. وأظهر مركز أمريكا اللاتينية الجيوسياسي الإستراتيجي (CELAG) أن العقوبات الأمريكية ضد فنزويلا أدت إلى فقدان أكثر من ثلاثة ملايين وظيفة من عام 2013 إلى عام 2017، في حين وجد مركز البحوث الاقتصادية والسياسية أن العقوبات أدت إلى خفض السعرات الحرارية التي يتناولها الشعب وزيادة الأمراض والسرطان، ما أدى إلى مقتل 40 ألف شخص في عام واحد وتعريض حياة 300 ألف آخرين للخطر.

مايا وايشوف (البرازيل)، بين الحديث والأساطير، 2022.

وضع حد لعقيدة مونرو

لم تكن المحاولات الأميركية لتقويض السياسات التقدمية في أميركا اللاتينية، التي ترتكز على عقيدة مونرو، ناجحة تماما. وتوضح عودة الحكومات اليسارية إلى السلطة في بوليفيا والبرازيل وهندوراس على حساب الأنظمة اليمينية المدعومة من الولايات المتحدة هذا الفشل. والعلامة الأخرى على هذا الفشل هي صمود الثورتين الكوبية والفنزويلية. حتى الآن، ورغم أن الجهود الرامية إلى توسيع عقيدة مونرو في مختلف أنحاء العالم تسببت في دمار هائل، فإنها فشلت في تثبيت أنظمة عميلة مستقرة، كما رأينا مع هزيمة المشاريع الأميركية في أفغانستان والعراق. ومع ذلك، تظل واشنطن دون رادع، وقد حولت تركيزها إلى منطقة آسيا والمحيط الهادئ لمواجهة الصين.

شينا روز (بربادوس)، العذاب، 2022.

وقبل مائتي عام، ألحقت قوات سيمون بوليفار الهزيمة الساحقة بالإمبراطورية الإسبانية في معركة كارابوبو عام 1821، وفتحت فترة من الاستقلال لأمريكا اللاتينية، وبعد ذلك بعامين، عام 1823، أعلنت حكومة الولايات المتحدة عن عقيدة مونرو. يستمر الجدل بين كارابوبو ومونرو في تشكيل عالمنا، حيث تم غرس ذكرى بوليفار في الأمل والنضال من أجل مجتمع أكثر عدلا.

إن بشاعة الحرب على غزة اليوم تخنق وعينا. كتبت إم بيري، وهي شاعرة من أوتياروا، نيوزيلندا، قصيدة جميلة عن اسم غزة والفظائع التي ارتكبها نظام الفصل العنصري الإسرائيلي ضد شعبها:

هذا الصباح تعلمت

الكلمة الإنجليزية شاش (gauze)

(قماش طبي منسوج بدقة)

يأتي من الكلمة العربية غزة

لأن سكان غزة كانوا نساجين ماهرين لعدة قرون

تساءلت بعد ذلك

عن كم الجراح

التي استخدمنا فيها ضماداتهم

بسببهم

وكم جراحهم

التي تركت مفتوحة

بسببنا

*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة الإنجليزية بتاريخ: 23 تشرين الثاني/ نونبر 2023

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة