مدار: 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2025
دخل التوتر الجزائري-المغربي منعطفا دبلوماسيا جديدا، بعد الإعلان عن تيسير واشنطن لوساطة بين البلدين الجارين، معلنةً عن مهلة زمنية جريئة لا تتجاوز 60 يوماً للتوصل إلى “اتفاق سلام” يضع حدا لسنوات من القطيعة والتوتر المتصاعد. فهل المنطقة مقبلة فعلا على نهاية أطول حرب باردة في شمال إفريقيا؟
كشف تصريح ستيف ويتكوف، مبعوث الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى الشرق الأوسط عن مساعي إدارة ترامب إلى إطلاق زخم جديد يجر الطرفين إلى الخروج من حالة الجمود التي طبعت العلاقات بين الجزائر والرباط منذ إغلاق الحدود بينهما عام 1994، وتفاقمها مع القطيعة الدبلوماسية الكاملة التي أعلنتها الجزائر في آب/ أغسطس 2021.
وكان ويتكوف قال في برنامج “60 دقيقة” على قناة “سي بي إس” الأمريكية، الأحد الماضي، إن “فريقنا يعمل الآن بخصوص المغرب والجزائر، وأتوقع التوصل إلى اتفاق سلام خلال 60 يوما”.
الإعلان عن هذه المبادرة من مبعوث واشنطن إلى الشرق الأوسط وليس شمال إفريقيا لا يعني سوى أن هذا الملف مرتبط بما يجري في الشرق الأوسط، تحديدا في العلاقة مع إسرائيل، التي تربطها علاقات رسمية مع الرباط في إطار اتفاقات آبراهام.
توتر العلاقات بين المغرب والجزائر ليس جديدا، إذ يجد جذورها في حرب الرمال سنة 1963، تبعها النزاع في الصحراء الغربية منذ سبعينيات القرن الماضي، ثم اتفاقات آبراهام للتطبيع مع الكيان الصهيوني، التي يشكل المغرب جزءا منها.
بشأن ملف الصحراء الغربية، يبدو أن واشنطن -التي التي تعترف بسيادة الرباط على هذا الإقليم- بدأت تتبنى منهجية جديدا، إذ تقترح على مستوى مجلس الأمن، باعتبارها حامل القلم، مسودة قرار جديد لتبينه بحلول نهاية أكتوبر/تشرين الأول، يغير قواعد اللعبة بشكل تام.
ومن المتوقع أن يقلّص القرار ولاية بعثة الأمم المتحدة للإستفتاء في الصحراء الغربية (المينورسو) من عام كامل إلى ستة أشهر فقط، وهو إجراء يهدف إلى الضغط على الأطراف، ودفعهم إلى الانخراط بحيوية في المفاوضات بدل الجمود الذي يعرف هذا المسار حاليا.
وعلى مستوى آخر، تصف الوثيقة مقترح الحكم الذاتي الذي طرحه المغرب عام 2007 بأنه “جدي وواقعي وذو مصداقية”، وتعتبره “الإطار الوحيد” و”الحل الأكثر قابلية للتطبيق” لإنهاء النزاع المستمر منذ نصف قرن، وهو ما يضع جانبا طرح الاستفتاء الذي تتمسك به جبهة البوليساريو وتدعمها الجزائر.
وتأتي هذه التطورات بعد مسار من التغير في مواقف عدد من الدول الأوربية المؤثرة، إذ اعتبرت لندن الخطة المغربية “الأساس الأكثر واقعية ومصداقية”، بينما اقتربت باريس ومدريد وبرلين من مواقف الرباط مدفوعةً باعتبارات أمنية وقضايا الهجرة والطاقة، أما موسكو أبدت استعداداً لدعم الخطة شريطة توافق الأطراف، وقد تزامن ذلك مع تعديل العديد من الدول الإفريقية لمواقفها، وهو ما وضع البوليساريو والجزائر في وضع وصف بـ “العزلة الدبلوماسية”.
الأزمة بين البلدين الشقيقين انفجرت في عام 2021، بعد تراكم عقود من انعدام الثقة والعداء. وقررت الجزائر حينها قطع العلاقات مع المغرب مبررة ذلك بسلسلة من “الأعمال العدائية” من جانب جارتها الغربية، شملت اتهامات بالتجسس عبر برنامج “بيغاسوس” الإسرائيلي، ودعم ما تصفهما بـ”المنظمتين الإرهابيتين” (حركة “ماك” المطالبة باستقلال منطقة القبائل، وحركة “رشاد” الإسلامية المعارضة). كما أثار التقارب المغربي مع الكيان الصهيوني، الذي توّج بتطبيع العلاقات بوساطة أمريكية مقابل الاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء، حفيظة الجزائر التي اعتبرته “جلباً لقوة عسكرية أجنبية إلى المنطقة”.
وقد بلغ التوتر ذروته عندما رد المندوب المغربي في الأمم المتحدة، عمر هلال، على الدعم الجزائري للبوليساريو بالإشارة إلى “حق شعب القبائل في تقرير المصير”، وهو ما اعتبرته الجزائر “انحرافاً خطيراً” ومساً بسيادتها.
لم يقتصر التصعيد على الخطاب السياسي، بل بل أغلقت الجزائر مجالها الجوي أمام الطائرات المغربية، كما قررت في تشرين الأول/ أكتوبر 2021 عدم تجديد عقد أنبوب الغاز المغاربي-الأوروبي الذي كان يمر عبر الأراضي المغربية، في خطوة ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واضحة، وقد ذهبت الجزائر، في 27 أيلول/ سبتمبر 2024، إلى تفرض التأشيرة رسميا على جميع المواطنين المغاربة وبشكل دائم.
تزامن ذلك مع توتر في الجنوب على الحدود مع الجزائر والمنطقة العازلة -التي حولها المغرب إلى منطقة محرّمة- وبالتالي باتت عرضة للضربات الجوية باستمرار.
في ظل هذه الأجواء المشحونة، استمر سباق تسلح محموم بين البلدين، فبينما يعتمد المغرب بشكل أساسي على حلفائه الغربيين، خاصة الولايات المتحدة وفرنسا، في تحديث ترسانته العسكرية (مقاتلات “إف-16″، طائرات مسيّرة تركية وإسرائيلية)، تتجه الجزائر بشكل تقليدي نحو روسيا والصين (مقاتلات “سوخوي 57” الشبح، طائرات مسيّرة صينية)، مما يحول التوتر الإقليمي إلى صدى مصغر للحرب الباردة الجديدة بين القوى العالمية الكبرى.
في المرحلة الراهنة، تجد الرباط نفسها أقرب إلى واشنطن، وفي موقع مريح في العلاقة مع معظم الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، مع مرونة روسية وحتى صينية التي عززت من وجودها الاقتصادي مؤخرا في المغرب. أما الجزائر فقد فقدت نسبيا زمام المبادرة على النطاق العالمي، خاصة بعد توتر علاقاتها مع فرنسا وإسبانيا، ولذلك، تسعى لاستثمار هذه اللحظة لتغيير صورتها لدى واشنطن، ملوّحة بتعاون أمني واقتصادي، كما تعرض نفسها كشريك استراتيجي في مجال “المعادن النادرة”.
على ضوء هذه التوازنات المعقدة، تسعى الجزائر إلى إعادة تنشيط دورها الدبلوماسي في المنطقة، وفي ملف الصحراء الغربية، إذا تحاول الحفاظ على دور مؤثر في أي تسوية قادمة، وتجنب تهميشها بالكامل.
ومع ذلك، فإن المغرب لم يكسب أيضا، فبالنسبة لملف الصحراء الغربية، لم ينتزع بعد موافقة جبهة البوليساريو، التي مازالت تتمسك بالاستفتاء كحل للنزاع، وهو ما ترفضه الرباط قطعا، لكن الجبهة الانفصالية صرّحت هذا الأسبوع أنها مستعدة “لتقاسم فاتورة السلام” مع المغرب، و”الدخول في مفاوضات مباشرة وجادة مع المملكة المغربية، بحسن نية ودون شروط مسبقة، تحت رعاية الأمم المتحدة”.
يبقى التساؤل الآن، هو كيف ستستطيع الولايات المتحدة أن تصل إلى اتفاق سلام في 60 يوما، مع ما يتطلبه ذلك من إيجاد التوازن الرفيع بين المغرب والجزائر، في ظل ملفين أساسيين: الصحراء الغربية، والعلاقات مع الكيان الصهيوني؟