معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 06 أيار/ مايو 2024
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: أسخات أحمدياروف (كازاخستان)، تطهير الخريف، 2012
كان من المحتم أن يؤدي الدعم الكامل لحكومات الشمال العالمي للإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل ضد الفلسطينيين إلى عقاب غاضب من مواطنيها. ولم يكن هذا العقاب الذي بدأ في الولايات المتحدة بالمفاجأة أمام سلسلة الاحتجاجات المستمرة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023، المعترضة على الشيك على بياض الذي قدمته الولايات المتحدة للحكومة الإسرائيلية.
ويشمل التمويل الأمريكي لحملة الإبادة الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، أكثر من مائة شحنة أسلحة موجهة إلى إسرائيل منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، إضافة إلى ملايير الدولارات من المساعدات.
منذ زمن طويل، شعر الشباب في الولايات المتحدة – كما في باقي بلدان الشمال العالمي – بزوال الوعد من مجتمعهم. على الدوام ينتظرهم شغل غير مستقر، حتى بالنسبة لأولئك الذين حصلوا على درجات عليا، وقد تطور لديهم تمسك أغلى بالأخلاق بسبب تجاربهم الخاصة ليصبحوا أناسا أفضل في العالم. لقد أجبرتهم قسوة التقشف والأعراف الأبوية على الانقلاب ضد طبقاتهم الحاكمة. يريدون شيئا أفضل. لقد أدى الهجوم على الفلسطينيين إلى حدوث شرخ. ولم يتضح بعد إلى أي مدى سيذهب هؤلاء الشباب.
قام الطلاب في مختلف أنحاء الولايات المتحدة بإقامة مخيمات في العشرات من الجامعات، بما في ذلك مؤسسات فاخرة مثل كولومبيا، ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ستانفورد، إيموري، جامعة واشنطن في سانت لويس، فاندربيلت، و ييل.
هؤلاء الطلاب جزء من المجموعات الطلابية الجامعية المحلية بالإضافة إلى المنظمات الوطنية، من ضمنها “طلاب من أجل العدالة في فلسطين”، “حركة الشباب الفلسطيني”، “الصوت اليهودي من أجل السلام”، “كود بينك”، الاشتراكيون الديمقراطيون في أمريكا”، و”حزب الاشتراكية والتحرير”. ينشد الطلاب ويصلون ويناقشون في هذه المخيمات.
استثمرت هذه الجامعات أصولها (أوقاف) الهائلة في صناديق متداخلة مع قطاع صناعة الأسلحة والشركات الإسرائيلية؛ ويبلغ إجمالي أوقاف مؤسسات التعليم العالي الأمريكية ما يناهز 840 مليار دولار.
إن رؤية الطلاب لرسوم الدراسة المزايدة التي يدفعونها تذهب إلى مؤسسات متواطئة أو مستفيدة من هذه الإبادة الجماعية هو أمر لا يطاق بالنسبة لهم؛ ومن هنا جاء إصرارهم على المقاومة بأجسادهم.
تتآكل الديمقراطية عندما تقابل التحركات المدنية البسيطة بالقوة الكاملة للجهاز القمعي للدولة. إذ أرسل مدراء الكليات والسلطات الحضرية المحلية قوات الشرطة مدججة بالأسلحة، لاستخدام أي وسيلة ضرورية لإزالة المخيمات، مدعومة أكثر بقناصة تم نشرهم على أسطح العديد من الجامعات.
انتشرت على منصات التواصل الاجتماعي صور لطلاب وأعضاء في هيئة التدريس سحلوا من جامعاتهم، و صعقوا وعوملوا بوحشية، وتعرضوا للاعتقال على يد شرطة مكافحة الشغب.
لكن، وعوض أن تؤدي هذه التدابير العنيفة إلى إضعاف معنويات الشباب إلا أنها ببساطة أطلقت شرارة اعتصامات جديدة في كليات أخرى، ليس في الولايات المتحدة فحسب، بل في بلدان بعيدة مثل أستراليا، كندا، فرنسا، إيطاليا والمملكة المتحدة.
التحجج بأن حريقا بالصدفة يمكن أن يندلع في الخيام، قد يكون مقنعا للإداريين، لكنه ليس ذي معنى بالنسبة للطلاب و أعضاء هيئة التدريس الذين خرجوا للدفاع عنهم، أو للناس المهتمين حول العالم.
يعيد هذا العنف إلى الأذهان صور المجازر المرتكبة في حق الطلاب الأمريكيين الذين كانوا يحتجون ضد حرب الفيتنام، وصور الكلاب البوليسية التي أطلقت على الأطفال السود الصغار خلال حركة الحقوق المدنية الأمريكية.
ليست هذه هي المرة الأولى التي يحاول فيها الشباب، وخاصة طلاب الجامعات، فرض الوضوح على عالم معتم بالتنازلات.
كافحت الأجيال السابقة في الولايات المتحدة من أجل دفع كلياتها إلى قطع علاقاتها مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، ومع الحروب القبيحة التي قادتها الولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا وأمريكا الوسطى.
صبّ الشباب، من فرنسا إلى الهند ومن الولايات المتحدة إلى اليابان، جام غضبهم، سنة 1968، على الحروب الامبريالية في الجزائر وفلسطين وفيتنام، وركزوا بشدة على باريس وتل أبيب وواشنطن بسبب ثقافتهم الإجرامية.
تم التقاط موقف هؤلاء بالشباب من طرف الشاعر الباكستاني حبيب جالب، الذي غنى ببوابة موتشي في لاهور: “لماذا ترهبني ببوابة السجن؟”. وزاد: “بخطاب القهر، بليلة الجهل، أرفض الاعتراف، أرفض القبول”.
بما أننا عند مطلع أيار/ مايو، قد يكون من المفيد تذكّر شباب الصين الشجعان، الذين خرجوا للشوارع في الرابع من أيار/ مايو 1919 لإدانة الاهانات التي تعرض لها الشعب الصيني، خلال مؤتمر باريس للسلام (الذي تمخضت عنه معاهدة فيرساي).
قررت القوى الإمبريالية، أثناء المؤتمر، أن تمنح لليابان قسما كبيرا من مقاطعة شاندونغ، كانت استولت عليها ألمانيا في الصين عام 1898؛ خلال هذا النقل للسلطة، وقف الشباب الصيني عند ضعف الجمهورية الصينية التي تأسست في 1911؛ وخرج أربعة آلاف طالب من أزيد من ثلاثة عشر جامعة في بكين إلى الشوارع خلف لافتة كتب عليها: “طالب بالسيادة خارجيا، اقضي على الخونة المحليين داخليا”. كانوا غاضبين من القوى الإمبريالية ومن الوفد الصيني إلى مؤتمر باريس المشكل من ستين مندوبا بقيادة وزير الخارجية ﻟو ﺗﺳﻧﻎ ﻛﺳﻳﺎﻧﻎ.
كان ليانغ كيشاو، وهو أحد أعضاء الوفد الصيني، محبطا للغاية من الاتفاقية، لدرجة أنه بعث نشرة إلى الصين في الثاني من أيار/ مايو، وكان لنشرها دور في إثارة الطلاب الصينيين.
ضغطت الاحتجاجات الطلابية على الحكومة الصينية لإقالة المسؤولين الموالين لليابان من قبيل تساو رولين، تشانغ سونغ كسيانغ ولو سونغيو. في الثامن والعشرين من حزيران/ يونيو رفض الوفد الصيني في باريس التوقيع على المعاهدة.
كانت تحركات الطلاب الصينيين قوية وبعيدة المدى، ولم تقتصر نضالات حركتهم المسماة “الرابع من مايو” على مناهضة معاهدة فيرساي فحسب، بل وجهت نقدا أوسع لثقافة الفساد المستشرية وسط النخب الجمهورية الصينية.
لقد أراد الطلبة المزيد، ووجدت وطنيتهم حاضنتها في التيارات الفكرية اليسارية كالأناركية ولكن بعمق أكبر في الماركسية. وبعد عامين فقط، قام العديد من المثقفين الشبان الذكور الذين تمرسوا في الانتفاضة من قبيل لي تا تشاو وتشين دوشيو وماو تسي تونغ، بتأسيس الحزب الشيوعي الصيني سنة 1921.
وأسست القيادات النسائية منظمات استقطبت الملايين من النساء إلى الحياة السياسية والثقافية، وأصبحن لاحقا عنصرا أساسيا في الحزب الشيوعي.
على سبيل المثال، أسست تشنغ جونيينغ الاتحاد الأكاديمي النسائي في بكين، وأسست شو زونغان اتحاد شنغهاي النسائي، وأحدثت كل من غيو لونغتشن و ليو تشين يانغ ودونغ ينغ تشاو وتشانغ ريومنغ جمعية تيانجين للنساء الرفيقات الوطنيات؛ وأصبحت دينغ لينغ إحدى الرّاويات الرائدات لقصص الريف الصيني. وبعد ثلاثين عاما من “حركة الرابع من مايو”، قام العديد من هؤلاء النسوة والرجال بإسقاط نظامهم السياسي الفاسد وأسّسوا جمهورية الصين الشعبية.
لا أحد يدري إلى أن سيؤول الرفض الطلابي الحالي في الشمال العالمي. الرفض الطلابي للاعتراف بمبررات طبقاتهم الحاكمة وبسياساتها مغروس في ترابهم أكثر من خيامهم؛ وبوسع الشرطة أن تعتقلهم وتعاملهم بوحشية و تفكك مخيماتهم، ولكن هذا لن يزيد من جذريتهم إلاّ ترسّخا.
في خضم فورة حركة الرابع من مايو (أيار)، كتب الشاعر تشو زيكينج (1898-1948) قصيدة “البريق”. مازال صدى كلماته يتردد من 1919 إلى زماننا هذا. من جيل طلابي إلى آخر:
في ليل عميق وعاصف
تجد أمامك برّية جرداء
بمجرد تجاوز البرية الجرداء
هناك يكمن طريق الشعب
آه! في الظلام، مسارات لا تحصى،
كيف يجب أن أخطو بشكل صحيح؟
ربّاه! أعطني بعض النور بسرعة،
دعني أركض إلى الأمام!
يجيب الإله بسرعة، نور؟
ليس عندي منه ما أوجده من أجلك.
تريد النور؟
عليك أن تخلقه بنفسك!
هذا ما يفعله الشباب: إنهم يخلقون هذا النور، ورغم أن العديد من المسنّين يحاولون إخفائه، فإن بريق أرواحهم يستمر في تسليط الضوء على بؤس نظامنا – وفي قلبه قبح الحرب الإسرائيلية – ووعد الإنسانية.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 02 أيار/ مايو 2024.