معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 21 كانون الأول/ ديسمبر 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: همام السيد (سوريا)، النملة، 2012.
كان أحد أكثر الأحداث المذهلة في الأشهر القليلة الماضية هو سقوط دمشق. كان هذا السقوط متوقعاً في البداية منذ أكثر من عقد من الزمن، عندما احتشدت جيوش الثوار الممولة من قطر وتركيا والسعودية والولايات المتحدة حول أطراف سوريا وهددت حكومة الرئيس بشار الأسد آنذاك. كانت هذه الجيوش، المدعومة من دول غنية وقوية، تتألف من مجموعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك:
- قطاعات واسعة من الناس الذين أغضبتهم الضائقة الاقتصادية الناجمة عن الانفتاح الاقتصادي وما ترتب عليه من تدمير الأعمال الصناعية الصغيرة، التي كانت تعاني في مواجهة القوة الناشئة للصناعة التركية؛
- الفلاحون في الشمال، المحبطون من عدم استجابة الحكومة بشكل مناسب للجفاف الطويل الذي أجبرهم على النزوح إلى المدن الشمالية في حلب وإدلب؛
- قطاعات من البورجوازية الصغيرة العلمانية المستاءة من فشل ربيع دمشق 2000-2001، والتي وعدت في البداية بإصلاحات سياسية نابعة من المنتديات التي عقدت في جميع أنحاء البلاد؛
- جماعة الإخوان المسلمين السورية المغبونة بشدة، والتي تشكلت من البرجوازية الصغيرة المتدينة، والتي تم سحقها عام 1982 وعادت للظهور من جديد بعد أن استلهمت الدور الذي لعبه الإخوان في احتجاجات 2010-2011 في تونس ومصر؛
- القوى الإسلامية المتحمسة التي تدربت على يد تنظيم القاعدة في العراق وأرادت أن ترفع راية الجهاد السوداء من أعلى شرفات دمشق.
وعلى الرغم من فشل هذه الفصائل من المعارضة السورية في عام 2011، إلا أن العديد من هذه القوى نفسها هي التي نجحت في الإطاحة بحكومة الأسد في 7 كانون الأول/ديسمبر 2024.
قبل أكثر من عقد من الزمن، بقيت حكومة الأسد في السلطة إلى حد كبير بسبب دعم إيران وروسيا، ولكن أيضاً بسبب مشاركة – بدرجة أقل – العراق المجاور وحزب الله (لبنان). لم يكن الأسد قادراً على المنافسة. فقد أصبح رئيساً عام 2000 بعد وفاة والده، حافظ الأسد، الذي تولى منصبه من خلال انقلاب عسكري عام 1971. نشأ بشار الأسد نشأة متميزة ودرس ليكون طبيب عيون في المملكة المتحدة. عندما اقتربت جيوش المتمردين من دمشق في كانون الأول/ديسمبر من هذا العام، هرب الأسد إلى موسكو مع عائلته، مدعياً أنه يريد اعتزال السياسة واستئناف عمله كطبيب عيون. لم يدلي ببيان لشعبه يخبرهم فيه أن يتحلوا بالشجاعة أو أن قواته ستقاتل في يوم آخر. لم تكن هناك كلمات مطمئنة. لقد غادر بهدوء بنفس الطريقة التي ظهر بها، وقد تخلى عن بلده. بعد بضعة أيام، وعلى تطبيق تيليغرام، أصدر الأسد نصاً لكنه كان خجولاً.
بعد هزيمتهم على يد القوات السورية والإيرانية والروسية في عام 2014، أعاد المتمردون السوريون تجميع صفوفهم في مدينة إدلب، غير البعيدة عن الحدود التركية مع سوريا. هناك حيث انفصلت قوة المعارضة الرئيسية عن تنظيم القاعدة في عام 2016، وسيطرت على المجالس المحلية، وشكلت نفسها كقائد وحيد للحملة المناهضة للأسد. هذه المجموعة، هيئة تحرير الشام، هي المسؤولة الآن في دمشق.
لم تتمكن هيئة تحرير الشام، التي نشأت مباشرة من تنظيم القاعدة في العراق، من التخلص من تلك الجذور، ولا تزال جماعة طائفية بشدة وتطمح إلى تحويل سوريا في نهاية المطاف إلى خلافة. منذ الفترة التي قضاها في العراق وشمال سوريا، اكتسب زعيم هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني سمعة وحشية كبيرة تجاه عدد كبير من الأقليات في سوريا (خاصة العلويين والأرمن والأكراد والشيعة)، الذين اعتبرهم مرتدين. يدرك الجولاني جيدًا سمعته، لكنه غيّر بشكل ملحوظ الطريقة التي يقدم بها نفسه. فقد تخلّص من مظاهر أيام تنظيم القاعدة، وشذّب لحيته، وارتدى زيًا كاكيًا عاديا، وتعلّم التحدث إلى وسائل الإعلام بنبرة متزنة. وفي مقابلة حصرية مع شبكة ”سي إن إن“ نُشرت في الوقت الذي استولت فيه قواته على دمشق، أشار الجولاني إلى أعمال القتل السابقة التي ارتكبت باسمه على أنها مجرد حماقات شبابية. كان الأمر كما لو كان قد تم تدريبه من قبل شركة علاقات عامة. لم يعد الجولاني رجل القاعدة المجنون، بل يتم تقديمه الآن على أنه ديمقراطي سوري.
في 12 ديسمبر/كانون الأول، تحدثت إلى صديقين من الأقليات في مناطق مختلفة من سوريا. قال كلاهما أنهما يخشيان على حياتهما. فهم يدركون أنه على الرغم من أنه ستكون هناك فترة من الابتهاج والهدوء، إلا أنهم سيواجهون في نهاية المطاف هجمات شديدة، وقد بدأوا بالفعل في سماع تقارير عن هجمات صغيرة النطاق ضد العلويين والعائلات الشيعية في مناطقهم. وذكّرني صديق آخر بأنه كان هناك هدوء في العراق بعد سقوط حكومة صدام حسين في عام 2003، وبعد عدة أسابيع بدأ التمرد. هل يمكن أن يحدث مثل هذا التمرد من القوات الحكومية السابقة في سوريا بعد أن استعادوا عافيتهم من السقوط السريع لدولتهم؟ من المستحيل معرفة كيف سيكون النسيج الاجتماعي لسوريا الجديدة بالنظر إلى طبيعة الأشخاص الذين استولوا على السلطة. وسيكون هذا صحيحًا بشكل خاص إذا عاد ولو جزء بسيط من هؤلاء السبعة ملايين سوري الذين نزحوا خلال الحرب إلى ديارهم وسعوا للانتقام مما سيرونه بالتأكيد سوء معاملة أجبرتهم على النزوح إلى الخارج. لا توجد حرب من هذا النوع تنتهي بسلام. فهناك العديد من الحسابات التي لم تتم تسويتها بعد.
دون أن نصرف الانتباه عن الشعب السوري ورفاهيته، يجب أن نفهم أيضًا ما يعنيه هذا التغيير في الحكومة بالنسبة للمنطقة والعالم. دعونا نأخذ التداعيات تباعًا، بدءًا بإسرائيل وانتهاءً بمنطقة الساحل في أفريقيا.
- إسرائيل. مستغلةً الحرب الأهلية المستمرة منذ عقد من الزمن في سوريا، قامت إسرائيل بقصف القواعد العسكرية السورية بشكل منتظم لإضعاف الجيش العربي السوري وحلفائه (لا سيما إيران وحزب الله). وعلى مدار العام الماضي، وخلال تصعيدها للإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين، زادت إسرائيل أيضًا من قصفها لأي منشأة عسكرية تعتقد أنها تُستخدم لإعادة إمداد إيران وحزب الله. ثم قامت إسرائيل بعد ذلك بغزو لبنان لإضعاف حزب الله، وهو ما حققته باغتيال زعيم حزب الله منذ فترة طويلة، السيد حسن نصر الله، واجتياح جنوب لبنان حيث يتجذر حزب الله. وكما لو كان الأمر منسقًا، قدمت إسرائيل دعمًا جويًا لهيئة تحرير الشام أثناء خروجها من إدلب، وقصفت المنشآت العسكرية السورية ومواقع الجيش السوري لإضعاف معنويات الجيش العربي السوري. عندما استولت هيئة تحرير الشام على دمشق، عززت إسرائيل الفرقة 210 في مرتفعات الجولان المحتلة (التي استولت عليها في عام 1973) ثم اجتاحت المنطقة العازلة التابعة للأمم المتحدة (التي أقيمت في عام 1974). وتقدمت الدبابات الإسرائيلية خارج المنطقة العازلة واقتربت كثيراً من دمشق. ولم تعترض الهيئة على هذا الاحتلال لسوريا في أي مرحلة من المراحل.
- تركيا. قدمت الحكومة التركية الدعم العسكري والسياسي لانتفاضة 2011 منذ بدايتها واستضافت حكومة الإخوان المسلمين السورية في المنفى بإسطنبول. وفي عام 2020، عندما تحرك الجيش العربي السوري ضد المتمردين في إدلب، غزت تركيا سوريا لفرض اتفاق يقضي بعدم المساس بالمدينة. كما مكّنت تركيا أيضًا من التدريب العسكري لمعظم المقاتلين الذين توجهوا عبر الطريق السريع “M5” إلى دمشق، ووفرت المعدات العسكرية للجيوش لمحاربة الأكراد في الشمال والجيش العربي السوري في الجنوب. ومن خلال تركيا انضم العديد من إسلاميي آسيا الوسطى إلى قتال هيئة تحرير الشام، بما في ذلك الأويغور من الصين. عندما اجتاح تركيا لسوريا مرتين خلال العقد الماضي، احتلت الأراضي السورية التي ادعت أنها أرضها التاريخية. ولن تعود هذه الأراضي إلى سوريا في ظل حكومة هيئة تحرير الشام.
- لبنان والعراق. بعد سقوط حكومة صدام حسين في عام 2003، أقامت إيران جسراً برياً لإمداد حلفائها في كل من لبنان (حزب الله) وسوريا. ومع تغيير الحكومة في سوريا، سيصبح من الصعب إعادة إمداد حزب الله. وسيتاخم كل من لبنان والعراق الآن بلداً يحكمه أحد فروع تنظيم القاعدة سابقاً. وفي حين أنه ليس من الواضح على الفور ما يعنيه ذلك بالنسبة للمنطقة، فمن المرجح أن يكون هناك وجود أكثر جرأة لتنظيم القاعدة الذي يريد تقويض دور الشيعة في هذه البلدان.
- فلسطين. إن الآثار المترتبة على الإبادة الجماعية في فلسطين وعلى النضال من أجل تحرير فلسطين غير عادية. فبالنظر إلى دور إسرائيل في تقويض جيش الأسد نيابةً عن الهيئة، من المستبعد أن يطعن الجولاني في احتلال إسرائيل لفلسطين أو يسمح لإيران بإعادة إمداد حزب الله أو حماس. وعلى الرغم من اسمه الذي ينحدر من الجولان، فمن غير المتصور أن يقاتل الجولاني لاستعادة مرتفعات الجولان لسوريا. وتضيف “المناطق العازلة” التي أقامتها إسرائيل في لبنان وسوريا إلى الرضا الإقليمي عن تصرفاتها التي حققتها أحداث مثل معاهدتي السلام مع مصر (1979) والأردن (1994). لن يشكل أي جار لإسرائيل تهديدًا لها في هذا الوقت. ويعاني النضال الفلسطيني بالفعل من عزلة كبيرة بسبب هذه التطورات. ستستمر المقاومة، ولكن لن يكون هناك جار يوفر لها وسائل المقاومة.
- الساحل. بما أن الولايات المتحدة وإسرائيل هما في الأساس دولة واحدة عندما يتعلق الأمر بالجغرافيا السياسية، فإن انتصار إسرائيل هو انتصار للولايات المتحدة. لم يؤد تغيير الحكومة في سوريا إلى إضعاف إيران على المدى القصير فحسب، بل أضعف روسيا أيضًا (وهو هدف استراتيجي طويل الأمد للولايات المتحدة)، التي كانت تستخدم المطارات السورية في السابق لتزويد طائرات الإمداد التابعة لها بالوقود في طريقها إلى مختلف البلدان الأفريقية. لم يعد من الممكن لروسيا استخدام هذه القواعد، ولا يزال من غير الواضح أين ستتمكن الطائرات العسكرية الروسية من التزود بالوقود في رحلاتها إلى المنطقة، ولا سيما إلى دول الساحل. وهذا سيوفر للولايات المتحدة فرصة لدفع الدول المتاخمة للساحل، مثل نيجيريا وبنين، إلى شن عمليات ضد حكومات بوركينا فاسو ومالي والنيجر. وهذا سيتطلب مراقبة عن كثب.
في تموز/يوليو 1958، نظم عدد من الشعراء مهرجاناً في عكا (فلسطين المحتلة 48). كتب أحد الشعراء المشاركين، دافيد سماح، قصيدة ”أخي توفيق“، المهداة إلى الشاعر الشيوعي الفلسطيني توفيق زيّاد الذي كان في سجن إسرائيلي وقت انعقاد المهرجان. تؤصل قصيدة سماح إلى الإحساس الذي نحن في أمس الحاجة إليه في عصرنا هذا:
إذا زرعوا الجماجم في ترابها
سيكون حصادنا الأمل والنور.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 19 كانون الأول/ ديسمبر 2024.