لوموند/ مدار: 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2025
يكشف كتاب «قضية بن بركة.. نهاية الأسرار»، المقرتقب صدوره في 29 تشرين الأول/ أكتوبر، عن دار غراسيه، للصحافيان ستيفن سميث ورونين بيرغمان، عن معطيات غير مسبوقة حول اختفاء الزعيم اليساري والمعارض المغربي الذي اختُطف في باريس قبل ستين عاماً.
وقد نشرت صحيفة “لوموند” الفرنسية في عدد الأمس 23 أكتوبر 2025، مقتطفا من محتويات هذا المؤلف الجديد. كل المعطيات الواردة في هذا النص منقولة عن الصحيفة الباريسية.
«لقد أغرقوا بن بركة في حوض الاستحمام»
في 29 أكتوبر 1965، اختُطف المهدي بن بركة، الزعيم اليساري الذي كان في المنفى وقائد حزب معارض للملك المغربي الراحل الحسن الثاني، ورمز من رموز العالم الثالث، من أمام مقهى “ليب” الباريسي. لم يُعثر على جثته قط. هذه القضية، التي تورطت فيها أجهزة الأمن المغربية ورجال عصابات وأفراد من الشرطة الفرنسية، كانت حافلة بالألغاز لدرجة أنها غذّت على مدى عقود أدبيات غزيرة. ويُعد كتاب «قضية بن بركة.. نهاية الأسرار»، الصادر عن دار غراسيه الأكثر شمولاً على الإطلاق (..).
يقدم المؤلفان تفاصيل دقيقة عن الدور الذي لعبه الموساد “من البداية إلى النهاية” في هذه الجريمة. ورغم أن تورط جهاز المخابرات الإسرائيلي قد أُشير إليه في الماضي – بما في ذلك من قبل رونين بيرغمان نفسه – إلا أنه لم يحدث قط بهذا القدر من التفصيل الدقيق. فقد تمكّن المؤلفان من الوصول إلى العديد من الوثائق السرية التي تشهد على حجم العلاقات التي أُقيمت في ذلك الوقت بين الموساد والجهاز الأمني المغربي، بل وحتى مع الحسن الثاني شخصياً.
وقد اتخذ هذا التقارب، الذي كان يهدف ضمن أمور أخرى إلى تسهيل رحيل اليهود المغاربة إلى الأراضي الفلسطينية المحتلة، بُعداً خاصاً عندما تطلّب الأمر التحضير لعملية تصفية بن بركة وإخفاء جثته. وتُظهر المقتطفات المنشورة هنا كيف وجد الإسرائيليون أنفسهم في نهاية المطاف، رغم أن دورهم المساعد كان من المفترض أن يكون محدوداً جداً، في الخطوط الأمامية إلى جانب المغاربة في جريمة قُدِّر لها أن تصبح “قضية دولة”. وقد تمكن المؤلفان من إعادة بناء هذا التسلسل الزمني بفضل تقارير ورسائل مشفرة متبادلة بين عملاء الموساد، ليقدما لنا سردية تقشعر لها الأبدان، من منظور قريب جداً من أبطالها.
في يوم الثلاثاء 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1965، بعد أربعة أيام من اختطاف المهدي بن بركة، كان أحد عملاء الموساد (واسمه الحركي “عطار”) يتجول بين أقسام أدوات البستنة في متاجر مختلفة بباريس. كان يحمل قائمة مشتريات طويلة، لكنه لم يكن يشتري سوى غرضين أو ثلاثة في كل مرة، حريصاً على ألا يلفت الانتباه إليه – إذ كان ممنوعاً عليه طرح الأسئلة أو الدخول في محادثات. وبعد أن خاطر بالتعرض للكشف في متاجر العُدد والأدوات في الحي، توجه إلى متجر “إينو-بي.جي.”، وهو اختصار لـ”ابتكار” و”البستانية الجميلة”. هذا المتجر الكبير فائق الحداثة – وهو الأول في باريس الذي يجمع بين المواد الغذائية والملابس والأدوات، والأول أيضاً الذي يحتوي على منطقة دفع تضم مجموعة من صناديق المحاسبة عند المخرج – يقع بجوار متجر “لا ساماريتان” على رصيف “لا ميجيسري”. وهكذا، من محطة إلى أخرى، كان “عطار” يملأ صندوق سيارته.
كان هناك مجرفتان سيقوم بقطع مقبضيهما ليقصرهما إلى 80 سم، ليدخلهما مع المعول في الحقيبة القماشية الكبيرة التي اشتراها أيضاً. كما وضع في الحقيبة مصباحين يدويين ومفكاً و”كماشة عادية”. أما المساحة المتبقية فقد حُشيت بخمس عشرة عبوة من الصودا الكاوية على شكل حبيبات. هذا المنتج بالذات – هيدروكسيد الصوديوم – هو ما كان يخشى أن يثير الانتباه. فمع أنه يُستخدم عادةً لتسليك المصارف، إلا أن أحداً لن يشتري مثل هذه الكميات لتخزينها في منزله بسبب قوتها التآكلية القادرة على حرق اللحم. إنه أمر شديد الخطورة.
قرابة الساعة التاسعة مساءً، وضع “عطار” وعميل آخر (“رحيم”) الحقيبة القماشية في وسط صالون مقسوم بقاطع متحرك في شقة من أربع غرف في “سان-كلو”، غرب باريس. كانت هذه هي “الشقة الآمنة” التي استأجرها الموساد منذ 5 تشرين الأول/ أكتوبر لرجال “كاب 1” [وحدة خاصة تابعة للأمن الوطني المغربي]. لم تكن قد استُخدمت بعد، ولم يُعطَ عنوانها ومفاتيحها للدليمي [أحمد الدليمي، نائب مدير الأمن المغربي] إلا في ذلك اليوم.
بعد أن أغلقا باب الشقة خلفهما بهدوء، نزل العميلان عبر درج المبنى وخرجا من العقار الجديد رقم 26 في حديقة “بيرينجير”. ثم وقفا على مقربة، متواريين تحت أحد المداخل. بعد ربع ساعة، وبأسرع مما كان متوقعاً، توقفت سيارة أجرة على بعد حوالي 200 متر. نزل منها مغربيان واتجها نحو المبنى رقم 26. توقفت سيارة الأجرة بانتظارهما بينما محركها شغال ومصابيحها مضاءة. بعد دقائق قليلة، عاد المغربيان ومعهما الحقيبة التي وضعاها في صندوق السيارة التي انطلقت. لقد تم تسليم “الأدوات”.
في باريس، حوالي الساعة 9:45 مساءً، أوقفت الشرطة عميلين من الموساد. كان تفتيشاً روتينياً، فالمصابيح الخلفية لسيارتهما كانت معطلة. أظهر نفتالي كينان جواز سفره الدبلوماسي، وقدّم اعتذاراته. سمح لهما الشرطي بالانصراف. وعلى بعد مسافة قصيرة، غيّر العميلان الإسرائيليان سيارتهما على أي حال، فقد كادت خطتهما لتلك الليلة أن تفشل. ركبا في سيارة “ميفوراش” [عميل آخر من الموساد]، الذي كان يتبعهما.
بعد الساعة العاشرة مساءً بقليل، دخل “ميفوراش” “مقهى بالقرب من الشانزليزيه” حيث كان الدليمي ورجلان من رجاله ينتظرون عملاء الموساد. بعد دقائق، وبعد وضع ترتيبات أمنية حول المقهى، انضم إليهم كينان و”عطار”. تعرف “عطار” على الأمنيين المغربيين اللذين كانا قد استلما الحقيبة التي تحتوي على “الأدوات” في سان-كلو قبل ثلاثة أرباع الساعة. أبلغ الدليمي الإسرائيليين أن اثنين من رجاله لم يصلا بعد، وأنهما قادمان من المغرب عبر جنيف لتجنب ترك أي أثر لدخولهما فرنسا.
بعد حديث عابر، بدأت المحادثة حول “عملية” تلك الليلة. أخرج “ألبير” [الاسم الحركي للدليمي] خريطة أشارت إلى دائرة سوداء تحدد موقع “بريجيت” [الاسم الحركي لابن بركة]، على بعد 30 كيلومتراً جنوب باريس، خلف مطار أورلي. سأل الدليمي “ميفوراش” عن أفضل طريقة للوصول إلى هناك. بعد ظهر ذلك اليوم، في فندق “أدلفي”، كانوا قد درسوا ثلاثة خيارات: بعد تحديد مكان احتجاز بن بركة مسبقاً، يمكن لعميل من الموساد أن يكون بمثابة مركبة استطلاع، إما في سيارته الخاصة أو في سيارة مستأجرة؛ أو، لتجنب الحاجة إلى الاستطلاع المسبق، يمكنه استقلال سيارة أجرة ليتبعها المغاربة. “بعد مداولات عسيرة”، تم اختيار الخيار الأخير، باعتباره الأقل سوءاً في نظر “ميفوراش”.
قاطعهم وصول رافي إيتان. “هناك حواجز للشرطة عند مخارج باريس!” لقد سمعوا الخبر للتو على موجة الراديو الخاصة بالدرك. يبدو أن الأمر مرتبط باختطاف بن بركة. “سنقوم بجولة استطلاعية ونبلغكم!” غادر إيتان. كانت الساعة 11:15 مساءً. أوضح “ميفوراش” للدليمي أنه في ظل هذه الظروف، سيكون عملاء الموساد أكثر فائدة لهم إذا قاموا بدوريات على الطريق المؤدي إلى أورلي. ويمكن لأحد عملاء “كاب 1” أيضاً أن يستقل سيارة أجرة ليرشدهم إلى مكان الاحتجاز. “وافق الدليمي على الفور”.
شرح الدليمي خطته. بن بركة “محتجز” لدى “فرنسيين” يريد أن يخفي عنهم “المعاملة” التي سيحظى بها سجينهم. علاوة على ذلك، فإن بن بركة نفسه “لا يتوقع شيئاً سيئاً”، بعد عدة أيام من الاحتجاز دون أن تكون حياته مهددة. يريد الدليمي أن يوهم الفرنسيين بأنه قادم مع رجاله لإعادة بن بركة إلى المغرب. سيصرفهم شاكراً لهم على إطلاق سراحه. وإذا انتهت “العملية” ليلاً، سيعود رجاله فوراً إلى المغرب. أما هو وأحد مساعديه غير المشاركين في العملية (مدير مكتبه، عبد الحق العشعاشي، الموجود في باريس منذ يوم السبت)، “فسيبقيان بضعة أيام أخرى” بصفة رسمية، للتحضير لزيارة الحسن الثاني في 11 تشرين الثاني/ نوفمبر. “في الوقت الحالي، لم أتصل بعد بالسلطات الفرنسية، خشية أن أكون مراقباً”. تبادل العملاء الإسرائيليون نظرات ذات مغزى. كان هذا أفضل.
دخل الدليمي في تفاصيل “العملية”. عندما سيذهبون لدفن بن بركة في الغابة – وشكراً لكم، بالمناسبة، على “الأدوات” – هل هناك تقنية أفضل من غيرها للقيام بذلك؟ “ميفوراش” (“يا لسوء حظي أن أبدو خبيراً في هذا الأمر في عينيه”، سيكتب لاحقاً في تقريره) يرتجل جلسة من الأعمال العملية. يجب دائماً الاحتفاظ بالطبقة النباتية جانباً، وإذا أمكن سليمة، لإعادتها كما كانت في النهاية. رجلان، يقفان بشكل قطري لتجنب إعاقة بعضهما البعض، يحفران في نفس الوقت. وتتناوب الفرق للحفاظ على وتيرة عمل متواصلة. مستطيل بعرض 60 سنتيمتراً وطول 1.20 متر، وعمق 1.50 متر، سيفي بالغرض. وبالطبع، يجب معرفة كيفية “إدخال الزبون”.
حوالي الساعة 11:30 مساءً، انضم إليهم الأمنيان المغربيان اللذان وصلا عبر جنيف. استمرت المحادثة. أين يجب إيقاف السيارة أثناء الحفر؟ يعتقد الدليمي “على بعد حوالي عشرة كيلومترات”، لضمان عدم لفت الانتباه. أشار “ميفوراش” إلى أن هذه مسافة طويلة جداً لقطعها سيراً على الأقدام للفريق المتروك في وسط اللا مكان، وسيقلل ذلك من عدد الرجال المتاحين للحفر برجل واحد وهو السائق. وافق الدليمي. وماذا عن السيارة المستأجرة؟ يقترح “ميفوراش” تنظيفها بالكامل، دون ترك أي بصمات. ثم يمكنه إيقافها بالقرب من وكالة التأجير وإرسال المفاتيح إليهم بالبريد، مع شرح من قبيل “أنا آسف جداً، ظرف عائلي طارئ، اضطررت للمغادرة في منتصف الليل، لكني سأسدد لكم الحساب في زيارتي القادمة لباريس”. سيكونون سعداء جداً باستعادة سيارتهم لدرجة أنهم لن يثيروا أي مشكلة. “لقد اقتنع ألبير [الدليمي] بوجهة نظري”.
على إثر ذلك، وعند عودته من “بورت ديتالي”، أعلن لهم رافي إيتان أن الطريق سالك، وأنه لم تعد هناك حواجز. نهض الجميع، وتمطوا. بدا الدليمي “متوتراً بعض الشيء”، عندما قال: “آمل أن يسير كل شيء على ما يرام، ولكن في حال حدث أي طارئ واحتجت إلى مساعدتكم، هل يمكنكم المجيء إلى الموقع لتقديم يد العون؟” وباستخدام الخريطة على زاوية طاولة، تم الاتفاق بسرعة على “مكان للقاء، عند مفترق طرق، على بعد حوالي 7 كيلومترات من مسرح العمليات”. سيكون كافياً الاتصال بمقسم الهاتف المؤقت، وسيكون هناك شخص ما متاحاً طوال الليل. بعد أن شكر “ميفوراش” وزملاءه، غادر الدليمي، وتبعه رجاله. كانت الساعة الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل قد مضت.
“وفقاً لجميع المؤشرات، ستنتهي القضية اليوم”. هذه الرسالة، التي أرسلتها محطة الموساد في باريس في الساعة الواحدة صباحاً، لم يتبعها أي شيء طوال صباح يوم الأربعاء 3 تشرين الثاني/ نوفمبر. في الساعة 1:15 ظهراً فقط، أعلنت باريس للمقر في تل أبيب أنها “تلقت رسالة هاتفية، لا تتوافق تماماً مع ما تم الاتفاق عليه ولكنها تشير إلى أن كل شيء سار على ما يرام. سنرسل لكم المزيد من الأخبار حال توفرها”. (…)
حوالي الساعة 5:30 مساءً، “بمحض الصدفة”، التقى الدليمي و”ميفوراش” في المقهى القريب من الشانزليزيه حيث التقيا في الليلة السابقة. (…) روى الدليمي أحداث ليلته، بشكل عفوي، في المقهى. ذكر أنهم وصلوا “في الساعة 1:30 صباحاً إلى المنزل الذي كانت فيه بريجيت [بن بركة] مخبأة” وأنه “حرّر” الحراس الثلاثة بإخبارهم أنهم “سينقلون” بن بركة إلى المغرب. بل وأخبرهم أنه قد يتصل بهم مرة أخرى “في حال احتاج إلى مساعدتهم مرة أخرى”. لقد فعل ذلك “لينزع من رؤوسهم فكرة أنه يريد القضاء على بريجيت”. بعد مغادرة الفرنسيين، أعلن لابن بركة أن لديه أسئلة يود طرحها عليه، وأنه هذه المرة، سيتكلم…
بدأ [الدليمي] الاستجواب، وعندما لم تمنحه إجاباته “الرضا” المنشود، اقتادوه إلى الحمام وكأنهم ينوون تعذيبه، “لكن ذلك لم يكن حقيقياً”. ثبت الدليمي نظره في عيني محاوره، ليتأكد من أنه فهم. في الواقع، بمجرد ملء حوض الاستحمام بالماء، وبدلاً من مجرد غمر رأس بن بركة، أمسكوا به “لمدة ثلاث دقائق هكذا” تحت الماء – مدّ الدليمي ذراعه إلى الأسفل، وراحة يده إلى الأمام. لقد أغرقوا بن بركة في حوض الاستحمام. “بعد ذلك، التقط ألبير [الدليمي] صورة له، ‘حتى يصدقوني في البلاد أن الأمر قد انتهى حقاً’، أضاف مازحاً”.
وصول رافي إيتان، الذي كان “ميفوراش” قد أطلعه على لقائه غير المتوقع مع الدليمي، لم يربك نائب مدير الأمن المغربي. على العكس من ذلك، بينما جاء إيتان لتنظيم جلسة استخلاص رسمي للمعلومات مع نفتالي كينان، بادره الدليمي بالحديث عن المزايا المقارنة بين “طريقة حوض الاستحمام” و”الطريقة الطبية” [إشارة إلى استخدام السم]. ويعتبر أن الطريقة الأخيرة جيدة فقط عندما يكون لدى المرء سم فوري المفعول، عديم اللون والرائحة، وسهل الإعطاء. وبما أنهم أبلغوه بأن هذا ليس هو الحال، فقد اختار الحل الأبسط. أبلغه إيتان أن السم فوري المفعول كان بالفعل في طريقه، وأنه في الواقع وصل صباح ذلك اليوم (على متن رحلة ‘إلعال’ رقم 44120). أبدى الدليمي رغبته في اختبار كلا النوعين من السم، “للمقارنة في مناسبة قادمة”. وعده إيتان بإرسالهما إليه في المغرب…
“ميفوراش”، الذي كان عليه أن يترجم، لأن رافي لا يتحدث الفرنسية، حاول اختصار الحديث. وبناءً على طلبه، أعاد لهم الدليمي السم غير المستخدم، ومفاتيح “الشقة الآمنة” التي استُخدمت كمخزن “للأدوات”، وجوازات السفر المزورة التي تبدو حقيقية والتي لم يعودوا بحاجة إليها. أعرب الدليمي عن رغبته في الاحتفاظ بالجواز الذي صنعوه له، “كتذكار”.

