معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: آربيتا سينغ (الهند)، مدينة لوليبوب الخاصة بي: صعود الجوزاء، 2005.
في 8 أغسطس/آب 2024، أنهت طبيبة تبلغ من العمر 31 عامًا في كلية الطب “R.G Kar” في كولكاتا (غرب البنغال، الهند) مناوبتها التي استمرت 36 ساعة في المستشفى، وبعد أن تناولت العشاء مع زملائها، ذهبت إلى قاعة الندوات بالكلية لترتاح قبل مناوبتها التالية. في اليوم التالي، وبعد فترة وجيزة من الإبلاغ عن اختفائها، عُثر عليها في قاعة الندوات وقد بدت على جسدها الهامد كل علامات العنف الرهيب. نظرًا لأن القانون الهندي يحظر الكشف عن أسماء ضحايا الجرائم الجنسية، فلن يظهر اسمها في هذه المراسلة.
قصة هذه الطبيبة الشابة ليست بأي حال من الأحوال حادثة معزولة: ففي كل خمس عشرة دقيقة، تبلّغ امرأة في الهند عن حالة اغتصاب. في عام 2022، تم الإبلاغ عن أزيد من 31,000 حالة اغتصاب، بزيادة 12% عن سنة 2020. هذه الإحصائيات لا تمثل إلى حد كبير حجم الجرائم الجنسية التي لا يتم الإبلاغ عن الكثير منها خوفًا من العقاب الاجتماعي وعدم التصديق الأبوي. في عام 2018، نشرت منظمة الصحة العالمية (WHO) دراسة مستفيضة عن العنف ضد المرأة باستخدام بيانات من 161 دولة بين عامي 2000 و2018، والتي أظهرت أن واحدة من كل ثلاث نساء تقريبًا، أو 30 في المائة، ”تعرضت للعنف الجسدي و/أو الجنسي من قبل شريك حميم أو غير شريك أو كليهما“. إن ما واجهته هذه الطبيبة الشابة كان نسخة متطرفة من أمر شائع بشكل فظيع.
بعد فترة وجيزة من اكتشاف جثتها، كشف مدير كلية “R.G Kar” الدكتور سانديب غوش عن اسم الضحية وألقى باللوم عليها فيما حدث. وأبلغت سلطات المستشفى والدي الطبيبة الشابة أنها انتحرت. وانتظروا ساعات حتى سمحت السلطات بتشريح الجثة الذي تم على عجل. قالت والدتها: ”كانت ابنتي الوحيدة“، وزادت: ”لقد عملت بجد من أجل أن تصبح طبيبة. والآن رحلت”. حاصرت الشرطة منزل العائلة ولم تسمح لأحد بمقابلتها، وضغطت الحكومة على العائلة لحرق جثمانها بسرعة ونظمت عملية الحرق بالكامل. لقد أرادوا طمس الحقيقة. ولم تتمكن العائلة من رؤية الجثة إلا لأن نشطاء من اتحاد الشباب الديمقراطي الهندي (DYFI) أوقفوا سيارة الإسعاف.
في 10 أغسطس/آب، أي في اليوم التالي لاكتشاف جثة الطبيبة الشابة، نظم كل من اتحاد الشباب الديمقراطي الهندي واتحاد طلاب الهند والحزب الشيوعي الهندي (ماركسي) ومنظمات أخرى احتجاجات في جميع أنحاء ولاية البنغال الغربية لضمان تحقيق العدالة. وقد كبرت هذه الاحتجاجات بسرعة، حيث وقف العاملون في المجال الطبي في جميع أنحاء الولاية، ثم في جميع أنحاء الهند، خارج أماكن عملهم حاملين لافتات تعبر عن غضبهم السياسي. وخرجت الحركة النسائية، التي شهدت احتجاجات ضخمة في عام 2012 بعد تعرض شابة في دلهي للاغتصاب الجماعي والقتل، إلى الشوارع مرة أخرى. ويعكس عدد الشابات اللائي شاركن في هذه الاحتجاجات حجم العنف الجنسي في المجتمع الهندي، وكانت خطاباتهن وملصقاتهن مليئة بالحزن والغضب. ”استردوا الليل“، هتفت عشرات الآلاف من النساء في احتجاجات في جميع أنحاء ولاية البنغال الغربية في 14 أغسطس/آب، يوم استقلال الهند.
كان الجانب الأبرز في هذه الحركة الاحتجاجية هو تعبئة النقابات الطبية والأطباء. ففي 12 أغسطس/آب، دعا اتحاد الأطباء المقيمين (FORDA)، الذي كانت تنتمي إليه الطبيبة المقتولة، جميع الأطباء إلى تعليق الخدمات الطبية غير الطارئة. وفي اليوم التالي، ارتدى الأطباء في المستشفيات الحكومية في جميع أنحاء الهند معاطفهم البيضاء وامتثلوا لذلك. والتقى رئيس الجمعية الطبية الهندية، الدكتور آر في أسوكان، بوزير الصحة في الاتحاد جيه بي ندا لتقديم خمسة مطالب:
1- يجب أن تكون المستشفيات مناطق آمنة؛
2- يجب على الحكومة المركزية إصدار قانون يحمي العاملين في المجال الصحي؛
3. يجب أن تحصل الأسرة على تعويض مناسب؛
4. يجب على الحكومة إجراء تحقيق محدد زمنيًا؛
5. ويجب أن يتمتع الأطباء المقيمون بظروف عمل لائقة (وألا يضطروا للعمل في مناوبة لمدة 36 ساعة).
تشير تقارير منظمة الصحة العالمية إلى أن ما يصل إلى 38% من العاملين في مجال الصحة يعانون من العنف الجسدي خلال حياتهم المهنية، ولكن في الهند الأرقام أعلى من ذلك بكثير. على سبيل المثال، أفاد ما يقرب من 75% من الأطباء الهنود أنهم يتعرضون لشكل من أشكال العنف، بينما يقول أكثر من 80% منهم أنهم يعانون من الإجهاد المفرط و56% منهم لا يحصلون على قسط كافٍ من النوم. ويتعرض معظم هؤلاء الأطباء للاعتداء من قبل عائلات المرضى الذين يعتقدون أن أقاربهم لم يتلقوا الرعاية الصحية الكافية. وتشير شهادات الطبيبات خلال الاحتجاجات إلى أن العاملات في مجال الصحة يتعرضن بشكل روتيني للتحرش الجنسي والعنف ليس فقط من المرضى، بل من موظفين آخرين في المستشفيات. وتقول الكثيرات منهن أن الثقافة الخطيرة في هذه المؤسسات لا تطاق، كما يتضح من معدلات الانتحار المرتفعة بين الممرضات التي ترتكب كرد فعل على التحرش الجنسي وغيره من أشكال التحرش – وهي مشكلة خطيرة لم تحظ باهتمام كبير. إن البحث على الإنترنت باستخدام الكلمات المفتاحية ”ممرضات“ و”الهند“ و”تحرش جنسي“ و”انتحار“ يجلب عددًا مذهلًا من التقارير من العام الماضي فقط. وهذا ما يفسر سبب رد فعل الأطباء والممرضات بمثل هذه الحدة على وفاة الطبيبة الشابة في مستشفى “R.G Kar”.
وفي 13 أغسطس/آب، أمرت محكمة كلكتا العليا الشرطة بتسليم القضية إلى مكتب التحقيقات المركزي. وفي ليلة 14 أغسطس/آب، قام المخربون بتدمير جزء كبير من ممتلكات الحرم الجامعي، وهاجموا الأطباء الذين كانوا ينظمون وقفة احتجاجية في منتصف الليل، ورشقوا الشرطة القريبة بالحجارة، ودمروا الأدلة التي بقيت في مكان الحادث، بما في ذلك قاعة الندوات التي عُثر فيها على الطبيب، مما يشير إلى محاولة تعطيل أي تحقيق. وردًا على هذا الهجوم، استأنف اتحاد الأطباء المقيمين إضرابهم.
وبدلاً من إلقاء القبض على أي شخص في مكان الحادث، وجهت السلطات أصابع الاتهام إلى قادة الاحتجاجات السلمية، بما في ذلك قادة اتحاد الشباب الديمقراطي الهندي واتحاد طلاب الهند الذين بدأوا الاحتجاجات الأولى. وكانت سكرتيرة اتحاد الشباب الديمقراطي الهندي في غرب البنغال ميناكشي موخيرجي واحدة من الذين استدعتهم الشرطة. وقالت: ”لا يمكن أن يكون الأشخاص الذين لهم علاقة بتخريب المستشفى من المجتمع المدني. فمن إذن يحمي هؤلاء الأشخاص؟”.
كما استدعت الشرطة طبيبين هما الدكتور سوبارنا غوسوامي والدكتور كونال ساركار إلى مركز الشرطة بتهمة نشر معلومات مضللة حول تقرير ما بعد الوفاة. والواقع أن الاثنين من أشد المنتقدين لحكومة الولاية، وقد اعتبر مجتمع الأطباء الاستدعاء عملاً من أعمال الترهيب وتوجهوا معهما إلى مركز الشرطة.
هناك استياء واسع من حكومة ولاية البنغال الغربية بقيادة رئيسة الوزراء ماماتا بانيرجي المنتمية لحزب مؤتمر ترينامول لعموم الهند، وهو حزب يمين الوسط الذي تشكل في عام 1998 ويتولى السلطة منذ 2011. ومن الأمثلة البارزة بشكل خاص على مصدر انعدام الثقة في حكومة الولاية هو قرارها بإعادة تعيين الدكتور غوش على عجل بعد استقالته من منصب مدير كلية الطب الوطنية في كولكاتا. وقد وبخت المحكمة العليا في كلكتا الحكومة على هذا القرار وطالبت بوضع الدكتور غوش في إجازة مطولة بينما يستمر التحقيق.
لم يكتف الدكتور غوش بإساءة التعامل مع قضية مقتل هذه الطبيبة الشابة بشكل صارخ فحسب، بل إنه متهم أيضًا بالاحتيال. وتنتشر الآن في جميع أنحاء البلاد اتهامات بأن الطبيبة المقتولة كانت ستنشر المزيد من الأدلة على فساد الدكتور غوش في الكلية، إلى جانب مزاعم بأن العنف الجنسي والقتل استخدم لإسكات شخص لديه أدلة على جريمة أخرى. ومن المستبعد أن تحقق الحكومة في هذه الاتهامات نظراً للحرية الواسعة الممنوحة لأصحاب النفوذ.
تُعرف حكومة ولاية البنغال الغربية بخوفها من الشعب. ففي 18 أغسطس/آب، كان من المقرر أن يلعب فريقا كرة القدم الشهيران في الولاية، إيست بنغال وموهون باغان، على كأس دوراند. وعندما اتضح أن المشجعين يعتزمون الاحتجاج من المدرجات، ألغت الحكومة المباراة. ولم يمنع ذلك مشجعي الفريقين من الانضمام إلى مشجعي ثالث أهم فريق كرة قدم في غرب البنغال وهو فريق محمدان سبورتينغ للاحتشاد خارج ملعب يوفا بهاراتي للاحتجاج على إلغاء المباراة ومقتل الطبيبة الشابة. وقالوا: ”نريد العدالة من أجل آر جي كار“. ورداً على ذلك، هاجمتهم الشرطة.
منذ سنوات عديدة، كتب الشاعر سوبهو داسغوبتا قصيدة محبوبة وقوية بعنوان ”أنا تلك الفتاة“، والتي يمكن أن تكون معبرة بقوة عن هذه الصراعات:
أنا تلك الفتاة.
تلك التي تراها كل يوم في الحافلة والقطار والشارع
التي ترتدي الساري وطرف جبهتها وأقراطها وكاحليها
تراها كل يوم
و
تحلم برؤية المزيد.
تراني في أحلامك كما تمنيت.
أنا تلك الفتاة.
…
أنا تلك الفتاة - (...)
التي تريد أن تخطفها إلى الجناح الصغير في منتصف الليل،
تريد أن ترى جسدها العاري بعينيك المسكرتين بضوء الموقد المشتعل.
أنا تلك الفتاة
…
مثل النار في الهشيم المدمرة
سأستمر في المضي قدمًا وعلى جانبَيْ طريقي إلى الأمام
العديد من الجثث مقطوعة الرأس
ستستمر في المعاناة من
الألم الرهيب
جسد الحضارة
جسد التقدم
جسد التقدم
جسد المجتمع
ربما أنا تلك الفتاة! ربما! ربما…
جميع اللوحات الواردة في هذه المراسلة رسمتها نساء ولدن في البنغال.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 29 أغسطس/ آب 2024.