قراءة عامة لتطور الأوضاع في تونس

مشاركة المقال

عزيز بن جمعة/ تونس: 26 أغسطس/ غشت 2020

لقد ألهب الشعب التونسي في 2010/ 2011 ثورةً ضد سيّء الذكر بن علي ومنظومته المافيوزية البوليسية الاستبدادية، ثورة حققت بعض المكاسب في ميدان الحريات العامة وترسيخ الحقوق السياسية والمدنية، وفشلت كلحظة تاريخية نوعية في فرض نموذج وطني سيادي ديمقراطي شعبي بديلا عن نموذج الإذلال والتجويع النوفمبري، والذود عنه ضد كل محاولات النسف والعودة إلى الماضي، وهو ما ترك الباب مفتوحا لقوى الثورة المضادة الدولية والمحلية للملمة صفوفها ومحاولة احتواء الأوضاع لغلق قوس الثورة نهائيا.

وحاليا تتواتر الأحداث وتتطور بنسق متسارع، وتُمسي قراءة الأوضاع العامة في بلادنا بصورة دورية ضرورية حتى نتمكن من استشراف اتجاهات تطوره الممكنة.

نبذة حول الظروف العامة للانتخابات:

جرت المحطة الانتخابية في ظروف تتميز بأزمة اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية مستفحلة، وتميزت بتصدع واضح داخل الطبقة الحاكمة (البرجوازية الكبيرة بمختلف اجنحتها..) نتيجة صراع حول التزعّم السياسي، ما يفسر تعدد الأحزاب والمرشحين الساعين للتعبير عنها. أما المعسكر الثوري (الجبهة الشعبية) فلم يعرف الاستفادة من التشتت السياسي للبرجوازية وصراعاتها الداخلية، بل وعانى هو الآخر من تصدعات وانشقاقات داخلية سببها تطور نزعات يمينية داخله، وسوء إدارة الخلافات قبيل المحطة الانتخابية.

إن وضعية قطبي الصراع الرئيسيين هي بلا شك أحد العوامل الأساسية التي تفسر تعزيز حضور البرجوازية الصغيرة والمتوسطة، سواء الديمقراطية أو ذات النزعة الوطنية (التيار الديمقراطي /حركة الشعب…) في مؤسسات الحكم (البرلمان خاصة).. وسطوع نجم قوى يمينية دينية كائتلاف الكرامة، بالإضافة إلى عودة بقايا النظام وأزلامه بقوة (الحزب الدستوري وزعيمته التجمعية عبير موسي).

أما الجناح المحافظ داخل البرجوازية وكبار الملاكين فقد حافظ على وحدة صفه السياسي والتنظيمي (حركة النهضة)، واستحضر دعايته المخاتلة باسم الثورة والخط الثوري والمشروعية النضالية ضد بن علي والدفاع عن الإسلام لجذب القطاعات المحافظة من البرجوازية الصغيرة.

نتائج الانتخابات والصراع السياسي داخل المنظومة:

وضعت نتائج الانتخابات حركة النهضة في موقع الصدارة، ما يمكّنها من تكليف شخصية لتشكيل الحكومة وعرضها على البرلمان. وقد وقع الاختيار على السيد الحبيب الجملي. هذه الحكومة لم تحظ بثقة البرلمان، أي أغلبية الأصوات (109/ 217)، وبالتالي فشلت النهضة -لأول مرة- في تركيز حكومتها وانتقلت المبادرة إلى رئيس الجمهورية قيس سعيد الذي كلف السيد إلياس الفخفاخ.

عكس الحبيب الجملي، نجح إلياس الفخفاخ في كسب ثقة البرلمان بحكومة مشكلة أساسا من وزراء مستقلين ووزراء عن حركة النهضة، والتيار الديمقراطي، وحركة الشعب، وحزب تحيا تونس، وأحزاب كتلة الإصلاح الوطني. إلا أنه سرعان ما بدأ الصراع بين محور قرطاج-القصبة، أي رئاسة الجمهورية، ورئاسة الحكومة من جهة، والبرلمان ورئيسه من جهة أخرى، سواء في السياسة الدولية (الملف الليبي، العلاقات مع فرنسا، تركيا وغيرها ..) أو في السياسة الداخلية. كما تحولت النهضة إلى حزب حاكم له تمثيليته في الحكومة ومكون داخل الائتلاف الحكومي، وإلى طرف معارض داخل البرلمان مع قلب تونس وائتلاف الكرامة في الوقت نفسه، متمسكة بتوسيع الحزام السياسي والبرلماني للحكومة.

كورونا يعمق الأزمة الشاملة للبلاد:

جاءت جائحة كورونا لتزيد من تعميق الأزمة الاقتصادية الاجتماعية التي تمر بها تونس مثل سائر الدول التابعة وشبه المستعمرة، ولتعري الوجه القبيح للصحة العمومية في تونس والأوضاع التي وصلت إليها وتؤكد بأكثر وضوح:

 -فشل الخيارات الاقتصادية والاجتماعية التي تم اتباعها لأكثر من ربع قرن: لا أفق للخيارات الحالية وللسياسات الحالية وللمنظومة الاقتصادية الاجتماعية الحالية. إننا نعيش فترة ركود اقتصادي لا يتجاوز فيها النمو الاقتصادي تقريبا للسنة الثانية الـ1% قبل كورونا و21% حاليا.

وتقتصر الأنشطة الاقتصادية أساسا على استخراج الفوسفاط وعلى نشاط فلاحي هزيل يرتكز على الزيتون والتمور والقوارص، وعلى خدمات سياحية وأنشطة تجارية استهلاكية (مطاعم ومقاهي ومتاجر تفصيل..الخ). ويمثل التوريد المكثف والعشوائي، بالإضافة إلى التهريب والسوق السوداء، آفة تنخر البنية الاقتصادية الهشة أصلا. أضف إلى هذا التفكك التدريجي لنسيجنا الصناعي منذ توقيع اتفاقية التبادل الحر مع الاتحاد الأوروبي في تسعينيات القرن الماضي (خسرت تونس حسب الإحصائيات الرسمية حوالي 55% من نسيجها الصناعي منذ توقيع الاتفاقية).

وما يزيد صعوبة الوضع الاقتصادي هو الاقتراض المفرط للدولة داخليا وخارجيا، إذ تجاوزت نسبة الدين الـ80% من مجموع ما ينتجه التونسيون جميعا، خاصة بعد قانون 2016 الذي أقر باستقلالية البنك المركزي عن الدولة. كما أن الفشل الاقتصادي رافقه فشل اجتماعي، إذ كشف الفيروس عن حجم تآكل منظومة الصحة العمومية لأكثر من 3 عقود وهشاشة منظومة التأمين الاجتماعي، وعمّق تكلفة المعيشة ونسب الفقر والحاجة، وهو يهدد بانهيار اقتصادي واجتماعي كامل في الأفق قد يليه انفجار شعبي…

 -خطر الخوصصة: لقد سلط الفيروس الضوء على الواقع المتردي لمنظومة الصحة العمومية، وأثبت أن القطاعات الحيوية، مثل الصحة والتعليم، بالإضافة إلى الصناعات الأساسية لا يجب أن تتم خوصصتها باعتبارها قطاعات إستراتيجية يعتمد عليها الشعب في بقاءها لا فقط في الأزمات. بل وحتى في الفترات العادية الخوصصة في قطاع الصحة والتعليم خاصة تعني إعادة إنتاج التفاوت الطبقي والاجتماعي في مجالين حيويين وإستراتيجيين لتونس وشعبها؛ ما يعني أن التعليم والصحة سيكونان لمن يقدر على الدفع أكثر.

 -ضربة جديدة للشعبوية: لقد شكل كورونا طعنة للشعبوية بجميع ألوانها وأشكالها في العالم وفي تونس؛ فقد رأينا السيد قيس سعيد صاحب مقولة “الشعب يريد وهو يعرف ما يريد”، والأفكار اللامركزية والفوضوية، كيف يأمر وينهى ويمارس سلطاته المركزية بقوة ويحرك القوات المسلحة، ويعلن حظر التجول ويتحدث عن الدولة واحترامها وعن وجود رئيس واحد وليس 3 رؤساء، ويصارع من أجل صلاحياته، في صورة تناقض رأسا دعايته الانتخابية. والمسألة هنا لا تخص فقط تونس، بل العالم كله. يكفي أن نرى المساعدات الروسية والصينية للولايات المتحدة الامريكية حتى نفهم حجم الصفعة التي تلقاها شعار “أمريكا أولا”.. حقا إن حبل الشعبوية قصير..

 -وهم الوحدة الوطنية: لا وجود لما تسمى “وحدة وطنية”.. على الشباب المثقف والعامل كما على مختلف فئات الشعب وطبقاته الكادحة فهم هذا. هناك “وحدة شعبية” ضد الجائحة وضد ما تتسبب به الطبقات المهيمنة وأحزابها وحكوماتها من أزمات وإخلالات متتالية في حق البلاد؛ أما شعار الوحدة الوطنية فليس إلا شعارا سياسيا تعبويا مخادعا لكسب الدعم والشرعية. وقد رأينا بالتجربة كيف أن دعاة هذه الوحدة الوطنية هم أول من استباحها وكيف كان النزاع على الصلاحيات بين الرئاسات الثلاث، ثم الجدل حول التفويضات لحكومة الفخفاخ الخ..

-أسطورة هيبة الدولة: لقد كشف التعامل مع كورونا أن أجهزة الدولة لا تجيد عرض “هيبتها” المزعومة إلا على الفئات الكادحة والمسحوقة، في حين تعجز أمام الخواص وكبار المحتكرين، وتعجز حتى عن تنظيم توزيع المساعدات الاجتماعية بشكل لا يسبب كوارث صحية ولا يستثني أحدا.

قيس سعيد يستعيد زمام المبادرة:

الصراع السياسي والأزمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة، وشبهات الفساد التي أحاطت بالسيد إلياس الفخفاخ سرّعت بنهاية الحكومة. وقد استغلت حركة النهضة وحلفاؤها هذا وسارعت للعمل على إسقاط هذه الحكومة وتعويضها بحكومة جديدة عبر تقديم عريضة لسحب الثقة منها. ولكن قبل أن تصل العريضة إلى عدد الإمضاءَات المطلوبة، دعا قيس سعيد الفحفاخ إلى الاستقالة، وبالتالي عادت المبادرة إلى رئيس الجمهورية ليسحب البساط من تحت النهضة وحلفائها.

قيس سعيد اختار بعدها شخصية من خارج الأحزاب، وهي وزير الداخلية الحالي هشام المشيشي، ليكلفه بإجراء مشاورات وتشكيل حكومة جديدة من المرجح أن تكون غير حزبية.

أي دور للقوى الثورية حاليا؟

إن أي متتبع للشأن التونسي سيدرك حتما خطورة الأوضاع، فالأزمة شاملة في مختلف المستويات والقطاعات، والصراع السياسي داخل المنظومة مفتوح على كل السيناريوات، والقوى الثورية اليوم أمام مسؤولية تاريخية حقيقية.

إن التناقض بين التجمعيين والدساترة (بقايا النظام القديم) وبين حركة النهضة أخذ طابعا جديدا، طابعا أكثر تناحرا وعدائية ولن يحسم إلا بحل أحد الطرفين. وإن لم تنجح القوى الثورية في كسر هذا الاستقطاب الثنائي وتقديم بديل وطني وشعبي فإن هيمنة النهضة أو الدساترة ستعفن الأوضاع أكثر وقد ترتد الأمور إلى حد الالتفاف على مكاسب الثورة القليلة من حقوق وحريات مدنية وسياسية.

أضف إلى هذا أن رئيس الجمهورية الشعبوي قيس سعيد أعلن حربا على الأحزاب والمنظومة الحزبية والبرلمان، ويطرح نظاما رئاسيا مع مجالس وهيئات شعبية دون أي تصور أو برامج واضحة.

إن القوى الثورية مطالبة بالاستفاقة من صدمة الهزيمة الانتخابية، وبإعادة ترتيب بيتها الداخلي واجتراح التكتيكات والأشكال النضالية والتنظيمية المناسبة لقلب موازين القوى وكسر الاستقطاب الثنائي بين التجمعيين والإخوان، وفرض بديل وطني ديمقراطي شعبي يخدم تطور البلاد وتقدم المجتمع.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة