معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 18 كانون الأول/ ديسمبر 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: فنسنت فان جوخ (هولندا)، الليلة المرصعة بالنجوم، 1889.
في عام 1930، احتُجز كليمان فرايس (1901-1980)، وهو راعٍ من مقاطعة لوزر الفرنسية، في مستشفى للأمراض النفسية في مكان قريب بعد أن حاول حرق مزرعة والديه. احتجز لمدة عامين في زنزانة مظلمة وضيقة. وباستخدام ملعقة، ثم مقبض إناء غرفة نومه، قام فرايس بنحت صور متناسقة على الجدران الخشبية الخشنة التي كانت تحيط به. وعلى الرغم من الظروف اللاإنسانية في هذه المستشفيات النفسية، إلا أن فرايس كان يصنع فناً جميلاً في ظلام زنزانته. وليس بعيداً عن لوزر يقع دير القديس بول دي ماوسول في سان ريمي دي بروفانس حيث كان فنسنت فان جوخ محتجزاً قبل أربعة عقود (1889-1890) حيث أنجز حوالي 150 لوحة من بينها العديد من الأعمال المهمة (من بينها لوحة “ليلة مرصعة بالنجوم” 1889).
كنتُ أفكر في كل من فرايس وفان جوخ عندما زرتُ ”مستشفى الطب النفسي القضائي“ القديمة في نابولي (إيطاليا) في سبتمبر/أيلول لحضور مهرجان أقيم في هذه المصحة السابقة التي كانت تحتجز من ارتكبوا جرائم خطيرة واعتبروا مجانين. كان المبنى الشاسع، الذي يقع في قلب نابولي بمونتي دي سانت إفرامو، في البداية ديراً (1573-1859)، ثم ثكنة عسكرية لنظام سافوي أثناء توحيد إيطاليا في عام 1861، ثم سجناً أقامه النظام الفاشي في عشرينيات القرن الماضي. أُغلق السجن سنة 2008، ثم احتلته في عام 2015 مجموعة من الأشخاص الذين شكلوا فيما بعد المنظمة السياسية “Potere al Popolo!” (السلطة للشعب!). وقد أعادوا تسمية المبنى باسم “Ex OPG – Je so’ pazzo” وتعني كلمة ”Ex” أن المبنى لم يعد مصحة، و”Je so’ pazzo” في إشارة إلى الأغنية المفضلة للمغني المحلي المحبوب بينو دانييلي (1955-2015)، الذي توفي في الوقت الذي تم فيه احتلال المبنى:
أنا مجنون أنا مجنون (Je so’pazzo, je so’ pazzo)
الناس ينتظرونني (C’ho il popolo che mi aspetta)
….
أريد أن أعيش يومًا واحدًا على الأقل كأسد. (Nella vita voglio vivere almeno un giorno da leone
واليوم، يضم مستشفى الطب النفسي القضائي السابق عيادات قانونية وطبية، وصالة رياضية، ومسرحاً وحانة. إنه مكان للتفكير ومركز شعبي مصمم لبناء المجتمع ومواجهة الوحدة وهشاشة الرأسمالية. إنه نوع نادر من المؤسسات في عالمنا، حيث يزداد المجتمع المنهك عزلة، والأفراد المحاصرون في سجن من التطلعات المحبطة يأملون مع ذلك في استخدام أدواتهم الضئيلة (ملعقة، مقبض إناء غرفة) لنحت أحلامهم والوصول إلى السماء المرصعة بالنجوم.
حتى منظمة الصحة العالمية لا تملك بيانات كافية عن الصحة النفسية، ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أن الدول الفقيرة غير قادرة على الاحتفاظ بحساب دقيق للصعوبات النفسية الهائلة التي يعاني منها سكانها. ونتيجة لذلك، غالبًا ما يقتصر التركيز على البلدان الأكثر ثراءً، حيث يتم جمع هذه البيانات من قبل الحكومات وحيث يتوفر قدر أكبر من الرعاية النفسية والأدوية. أظهر استطلاع حديث شمل واحدًا وثلاثين بلدًا (معظمها في أوروبا وأمريكا الشمالية، ولكنه شمل أيضًا بعض الدول الأكثر فقرًا مثل البرازيل والهند وجنوب أفريقيا) تغيرًا في المواقف واهتمامًا متزايدًا بالصحة النفسية. وقد وجد الاستطلاع أن 45% ممن شملهم الاستطلاع اختاروا الصحة النفسية باعتبارها ”أكبر المشاكل الصحية التي تواجه الناس في بلدانهم اليوم“، وهي زيادة كبيرة عن الاستطلاع السابق الذي أجري في عام 2018، حيث كانت النسبة 27%. وجاء الإجهاد في المرتبة الثالثة في قائمة التحديات الصحية حيث اختاره 31% من المشاركين في الاستطلاع باعتباره السبب الرئيسي للقلق. هناك فجوة كبيرة بين الجنسين في المواقف تجاه الصحة النفسية بين الشباب، إذ اختارت 55% من الشابات ذلك كأحد الشواغل الصحية الرئيسية مقارنة بـ 37% من الشباب (مما يعكس حقيقة أن النساء يتأثرن بشكل غير متناسب بمشاكل الصحة النفسية).
صحيح أن جائحة كوفيد-19 زادت من مشاكل الصحة النفسية في جميع أنحاء العالم، إلا أن هذه الأزمة سبقت جائحة فيروس كورونا. تُظهر المعلومات الواردة من منصة تبادل البيانات الصحية العالمية أنه في عام 2019 – قبل الجائحة – كان واحد من كل ثمانية أشخاص، أو 970 مليون شخص حول العالم يعاني من اضطراب نفسي، إذ يعاني 301 مليون شخص من القلق و280 مليون شخص من الاكتئاب. وينبغي النظر إلى هذه الأرقام باعتبارها تقديراً، أو صورة دنيا للأزمة الحادة المتمثلة في التعاسة وعدم التكيف مع النظام الاجتماعي الحالي.
هناك مجموعة من الأمراض التي تندرج تحت اسم ”الاضطراب العقلي“، من الفصام إلى أشكال الاكتئاب التي يمكن أن تؤدي إلى التفكير في الانتحار. ووفقًا لتقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2022، يعاني واحد من كل 200 شخص بالغ من مرض الفصام، والذي يؤدي في المتوسط إلى انخفاض متوسط العمر المتوقع من عشر سنوات إلى عشرين سنة. وفي الوقت نفسه، فإن الانتحار، وهو السبب الرئيسي للوفاة بين الشباب على مستوى العالم، مسؤول عن حالة وفاة واحدة من بين كل 100 حالة وفاة (ضع في اعتبارك أن محاولة واحدة فقط من كل عشرين محاولة تؤدي إلى الوفاة). يمكننا أن نضع جداول جديدة، ونراجع حساباتنا، ونكتب تقارير أطول، ولكن لا شيء من هذا يمكن أن يخفف من الإهمال الاجتماعي العميق الذي يسود عالمنا.
الإهمال ليست حتى الكلمة الصحيحة. فالموقف السائد تجاه الاضطرابات النفسية هو التعامل معها على أنها مشاكل بيولوجية تتطلب فقط رعاية صيدلانية فردية. وحتى لو قبلنا هذا الإطار المفاهيمي المحدود، فإنه لا يزال يتطلب من الحكومات دعم تكوين الأطباء النفسيين، وجعل الأدوية في متناول السكان وبأسعار معقولة، ودمج علاج الصحة النفسية في نظام الرعاية الصحية الأوسع نطاقاً. ومع ذلك، وجدت منظمة الصحة العالمية سنة 2022 أن البلدان تنفق في المتوسط 2% فقط من ميزانيات الرعاية الصحية على الصحة النفسية. ووجدت المنظمة أيضًا أن نصف سكان العالم – ومعظمهم في الدول الأكثر فقرًا – يعيشون في ظروف يوجد فيها طبيب نفسي واحد لخدمة 200 ألف شخص أو أكثر. هذا هو الوضع الذي نشهد فيه تراجعًا عامًا في ميزانيات الرعاية الصحية والتثقيف العام حول الحاجة إلى اعتمادات أكبر تجاه مشاكل الصحة النفسية. وتُظهر أحدث بيانات منظمة الصحة العالمية ( كانون الأول/ديسمبر 2023)، والتي تغطي الارتفاع الحاد في الإنفاق على الصحة المرتبطة بالجائحة، أن الإنفاق على الرعاية الصحية في معظم البلدان في عام 2021 كان أقل من 5% من الناتج المحلي الإجمالي. وفي الوقت نفسه، يُظهر مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (الأونكتاد) في تقريره الصادر في 2024 بعنوان ”عالم من الديون“ أن ما يقرب من مائة دولة أنفقت لسداد ديونها أكثر مما أنفقت على الرعاية الصحية. وعلى الرغم من أن هذه الإحصاءات تنذر بالخطر، إلا أنها لا تدخل في صميم المشكلة.
على مدار القرن الماضي، كانت الاستجابة لاضطرابات الصحة العقلية فردية إلى حد كبير، وتراوحت العلاجات بين أشكال متنوعة من العلاج ووصف الأدوية المختلفة. وقد كان جزء من الفشل في التعامل مع مجموعة من أزمات الصحة النفسية – من الاكتئاب إلى الفصام – هو رفض قبول أن هذه المشاكل لا تتأثر فقط بالعوامل البيولوجية بل يمكن أن تكون – وغالبًا ما تكون – ناتجة عن البنى الاجتماعية وتفاقمها. وكتبت الدكتورة جوانا مونكريف، أحد مؤسسي شبكة الطب النفسي النقدي، أنه ”لم يثبت بشكل مقنع أن أيًا من الحالات التي نسميها اضطرابات نفسية تنشأ عن مرض بيولوجي“، أو بشكل أدق ”من خلل وظيفي محدد في العمليات الفيزيولوجية أو الكيميائية الحيوية“. هذا لا يعني أن البيولوجيا لا تلعب دورًا، ولكن ببساطة إنها ليست العامل الوحيد الذي يجب أن يشكل فهمنا لهذه الاضطرابات.
استند إريك فروم (1900-1980) في كتابه الكلاسيكي ”المجتمع السّوي” (1955) الذي يحظى بقراءة واسعة النطاق، على رؤى كارل ماركس لتطوير قراءة دقيقة للمشهد البسيكولوجي في النظام الرأسمالي. وتستحق رؤيته إعادة النظر (اغفر لفروم استخدامه لكلمة ”الإنسان“ بصيغة المذكر والضمير ”له“ للإشارة إلى البشرية جمعاء):
إن صحة الفرد من عدمها ليست مسألة فردية في المقام الأول، ولكنها تعتمد على بنية مجتمعه. فالمجتمع السليم يعزز قدرة الإنسان على حب أخيه الإنسان، وعلى العمل الخلاق، وعلى تطوير عقله وموضوعيته، وعلى أن يكون لديه إحساس بالذات يستند إلى تجربة قواه المنتجة. إن المجتمع غير الصحي هو المجتمع الذي يخلق العداء المتبادل، وعدم الثقة، والذي يحول الإنسان إلى أداة استخدام واستغلال للآخرين، والذي يحرمه من الإحساس بذاته، إلا بقدر ما يخضع للآخرين أو يصبح إنسانًا آليًا. يمكن أن يكون للمجتمع كلا الوظيفتين؛ يمكن أن يعزز نمو الإنسان السليم، ويمكن أن يعيقه، وفي الواقع فإن معظم المجتمعات تقوم بالوظيفتين معًا، والسؤال هو فقط إلى أي درجة وفي أي اتجاهات يمارس تأثيرها الإيجابي والسلبي.
يجب أن يأتي الترياق لكثير من أزمات الصحة النفسية لدينا من إعادة بناء المجتمع وتشكيل ثقافة المجتمع بدلًا من ثقافة العداء والسموم. تخيلوا لو أننا بنينا مدنًا بها المزيد من المراكز المجتمعية، والمزيد من الأماكن مثل الـ”Ex OPG – Je so’ pazzo“ في نابولي، والمزيد من الأماكن التي يتجمع فيها الشباب لبناء علاقات اجتماعية وبناء شخصياتهم وثقتهم بأنفسهم. تخيلوا لو أننا أنفقنا المزيد من مواردنا لتعليم الناس عزف الموسيقى وتنظيم الألعاب الرياضية، وقراءة الشعر وكتابته، وتنظيم أنشطة منتجة اجتماعياً في أحيائنا. يمكن أن تضم هذه المراكز المجتمعية عيادات طبية وبرامج شبابية وأخصائيين اجتماعيين ومعالجين نفسيين. تخيلوا المهرجانات التي يمكن أن تنتجها مثل هذه المراكز، والموسيقى والفرح، وديناميكية الفعاليات مثل يوم الكتاب الأحمر. تخيل الأنشطة – رسم اللوحات الجدارية، وتنظيف الأحياء، وزراعة الحدائق – التي يمكن أن تنشأ مع احتضان هذه المراكز للمناقشات حول نوع العالم الذي يريد الناس بناءه. في الواقع، نحن لسنا بحاجة إلى تخيل أي من هذا: فهو موجود معنا بالفعل في لمحات صغيرة، سواء في نابولي أو في دلهي، في جوهانسبرغ أو في سانتياغو.
كتبت الشاعرة آن سيكستون (1928-1974): ”أعتقد أن الاكتئاب ممل“، وأضافت: ”من الأفضل أن أصنع بعض الحساء وأضيء الكهف“. لذا دعونا نصنع حساءً في مركز مجتمعي، ونلتقط القيثارات وأعواد الطبول، ونرقص ونرقص ونرقص ونرقص حتى يأتي ذلك الشعور العظيم الذي يملأ الجميع لينضموا إلى شفاء إنسانيتنا المحطمة.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 26 سبتمبر/ أيلول 2024.