مدار: 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025
بقلم: موسى أبو هشهش
من شاهد خيام الغزّيين وهي تغرق في مياه الأمطار، إثر المنخفض المحدود يوم أمس. من شاهد النساء والأطفال الحفاة يحاولون إنقاذ الخيام، ستحضره أسطورة سيزيف اليونانية لمن يعرفها، أما من لا يعرف الأسطورة فهي تقول إن رجلًا ذكيًا استطاع أن يخدع ملك الموت طالبًا منه أن يجرب الأصفاد، وعندما فعل قام الرجل بتكبيله ومنع الموت، فعاقبته الآلهة بأن يقوم بدحرجة صخرة إلى أعلى قمة جبل، وحين حاول كانت الصخرة تغلبه وتتدحرج إلى أسفل، ليكرر محاولاته اليائسة دون جدوى، في مشهد يعكس عبثية محاولة وصول الإنسان إلى هدفه النهائي..
كان بإمكان آلهة “أولمبيا” أن يحكموا بالموت على سيزيف، لكنهم ارتأوا أن إدخاله في حالة يأس أبدية سيظل فيها يحاول دحرجة الصخرة حتى يفنى، أشد عقابًا من الموت نفسه، ويشبه ذلك الجدل حول ما هو أشد عقابًا، حكم الإعدام أم السجن المؤبد.
إنها صناعة اليأس نفسها التي انتهجتها إسرائيل الفاشية لعقاب الفلسطينيين، ليس فقط بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، وإنما منذ إنشاء “الدولة”، فشرّدت مئات الآلاف من الفلسطينيين ليعيشوا في مخيمات البؤس والضياع، وانتهجت سياسات عنصرية ضد من تبقّى منهم على أرضهم وحرمتهم من أبسط الحقوق الأساسية، وحولت أماكن تواجدهم إلى سجون مفتوحة، بالإضافة إلى مواصلة جرائم القتل والاعتقال التي طالت عشرات الآلاف، ولم تستثنِ النساء والأطفال، وكأن المخطط والهدف من ذلك دفع الفلسطينيين إلى جدران اليأس وإيصالهم إلى الإقرار بعبثية مقاومتهم، والتخلي عنها على طريق إفنائهم ببطء وتصفية وجودهم وقضيتهم.
إنها مصانع اليأس التي أنشأتها الفاشية، كبديل للإبادة المباشرة التي كانت ستحرج المجتمع الدولي، وتجعل منه شريكًا مضاربًا لتلك الإبادة، ليس فقط بما يقدمه من الدعم غير المحدود للآلة العسكرية الإسرائيلية المتوحشة، وإنما بالصمت والنفاق اللذين ميّزا السلوك الغربي في مقارباته لما كان يجري وما زال للفلسطينيين، وحيث تعمل مصانع اليأس في واشنطن وعواصم أوروبا وتصدر منتجاتها إلى تل أبيب.
ألم تكن خطة ترامب (للسلام) ودعمها بقرار مجلس الأمن إحدى منتوجات مصانع اليأس وأحدث صراعاتها؟ ما الذي تغيّر على الغزيين وما الذي سيتغير بعد خطة ترامب، سوى تحويل القتل من قتل بالجملة إلى قتل بالمفرق وبذات النتيجة، وهي دفع الغزيين إلى جدار اليأس، والاقتناع بعبثية وجودهم وعبثية تشبثهم بالأمل في النجاة من الإبادة والتهجير، وتصفية وجودهم على أرضهم؟ هل فُتحت المعابر وانتهى الحصار المشدد، وهل سُمِح لآلاف الجرحى من ذوي الإصابات الخطيرة بالخروج لتلقي العلاج في مستشفيات في الخارج، قد تخفف من آلامهم وتضمد جراحهم العميقة؟ هل ستبدأ عملية إعادة إعمار غزة، التي دُمّرت مساكنها ومدارسها وجامعاتها ومستشفياتها وبنيتها التحتية بالكامل، وحيث لا يزال التدمير مستمرًا حتى في ظل (وقف إطلاق النار) الذي نصت عليه خطة ترامب، وباركها قرار مجلس الأمن الأخير؟
ما يضحك وما يبكي كان تقدير الخبراء أن إعادة إعمار غزة تحتاج إلى أكثر من 70 مليار دولار، وقد يتطلب إتمامها عقودا من الزمن، وهذا يعني أن يعيش الغزيون في خيام ممزقة ومهترئة، وحيث لا يُسمح بإدخال خيام جديدة لعشرات السنين، وحين سيتقلّب على غزة عشرات الشتاءات، لن تغرق الخيام فحسب، ولكن ستجرفها إلى البحر وستجرف معها بقايا الأمل التي عبّأها ترامب والمجتمع الدولي، الذي أيّد خطته في أكياس من ورق للغزيين، وأرادوا منهم أن يتشبثوا بذلك الأمل ويواصلوا دفع صخرة سيزيف إلى أعلى.
يحضرني في هذا السياق مثلما حضرتني أسطورة سيزيف، ما قالته سيدة من غزة، في فيديو شاهدته أمس، حذّرت فيه بأن يتوقف الناس عن توصيف صمود الغزيين بـ “الأسطوري”، وما يعنيه ذلك من خداع، مقصود أو دون قصد، لدفع الغزيين للانتحار أمام جدران اليأس التي شيّدتها الفاشية الأمريكية والصهيونية حول غزة، وكانت شيّدتها في لبنان والسودان وليبيا والعراق وسوريا وفي كل مكان حول العالم، كبديل للغزو المباشر والقتل الجماعي، بتواطؤ من المجتمع الدولي وصمته، ولا يُستثنى منهم الأشقاء والأصدقاء وذوو القربى، (وظلم ذوي القربى أشد مضاضة) كما قال الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد…
يحضرني أيضًا هنا قول ستالين: “موت إنسان واحد يمكن أن يكون مأساة، أما موت مليون إنسان فيمكن أن يكون مجرد إحصائيات”، وهنا يمكن القول إن غرق خيمة واحدة في غزة بالأمطار، وجوع سكانها وفقدان الأمان والأمل سيكون مأساة، لكن حكاية عشرات الآلاف من الخيام في غزة قد تصبح من الإحصائيات، وهذا ما يُخشى أن يحدث في غزة، وهذا هو ما يسمى صناعة اليأس..

