سوريا.. الأسئلة الحارقة والامتحانات الصعبة

مشاركة المقال

مدار: 12 كانون الأول/ ديسمبر 2024

دخلت السيرورة الثورية السورية مرحلة جديدة بعد إسقاط نظام الأسد، تاركا خلفه بلدا ممزقا ومحاصرا بملفات معقدة. امتحانات صعبة بات بإمكان الشعب السوري أن يخوضها بعد 13 سنة من مآسي الممزوجة بالتضحيات الكبيرة والآمال في غد أفضل للأجيال الجديدة.

بسقوط نظام البعث في سوريا بعد 61 سنة في الحكم، الذي بقيت على رأسه لـ 53 سنة عائلة الأسد، تحقق هدف وبقيت أهداف لا تقل أهمية للثورة السورية.

ارتكب الأسد طيلة فترة حكمه الدكتاتوري جرائم لا تعد في حق السوريين، ومنذ بداية الثورة في مارس 2011 بلغت حصيلة القتلى أزيد من نصف مليون، جلهم من المدنيين والأطفال والنساء. ووصلت أعداد المهجّرين إلى الخارج ما يقرب السبعة ملايين؛ ناهيك عن ملايين المهجرين داخليا، والآلاف ممن ذاقوا أهوال السجون، والتعذيب والاختفاء القسري… وغيره من ضروب الجرائم ضد الإنسانية.

 مزّق بشّار الأسد سوريا وحولها إلى بلد طائفي مستباح من طرف الأطراف الخارجية والجماعات الإرهابية. بينما تكلفت الأزمة الاقتصادية الخانقة والعقوبات الدولية، بما فيها الأمريكية، بزيادة أزمة هذا النظام ومعه عذاب السوريين.

 ولم ينجح النظام في استدامة وجوده إلا بالدعم الإيراني والروسي وحزب الله اللبناني واقتصاد الكبتاغون، وانتشار الفساد في مختلف مناحي الحياة المتبقية. وبدأ الجيش يتعب شيئا فشيئا حتى وصل إلى نقطة الانهيار.

ظروف سمحت للجماعات المسلحة، التي انتهزت لحظة وقف إطلاق النار بين حزب الله اللبناني والكيان الصهيوني، لتشن حملتها المدعومة ولو في الظل من عدة أطراف دولية، لاسيما تركيا وعبرها الولايات المتحدة وإسرائيل.

تساقط الجيش مثل قطع الدومينو، وكانت مسألة وقت حتى تسقط دمشق التي بقيت عصية على أي جماعة طيلة ثلاث عشرة سنة. فهرب ضباط الجيش والشبيحة وعناصر النظام، ووجد بشار الأسد الفرصة ليهرب إلى روسيا التي منحته اللجوء دون أن يقدم الحساب عن الجرائم البشعة التي ارتكبها في حق السوريين واللبنانيين وغيرهم.

 هكذا وصلت سلطة الأمر الواقع إلى القيادة في سوريا،  التي لا يوجد في قلبها سوى “هيئة تحرير الشام” المصنفة من طرف الأمم المتحدة والكثير من الدول على أنها تنظيم إرهابي، وهي سليلة تنظيم القاعدة الإرهابي أيضا.

ورغم الخطاب “التعددي” ظاهرا الذي أبداه قادة هذا التنظيم – خصوصا أحمد الشرع الملقب بـ “الجولاني” المطلوب لدى واشنطن ووضعت على رأسه عشرة ملايين دولار لكنها لا تبدي حرجا من التواصل معه – إلا أن الكثير من الملفات الحارقة مازال يلفها عدم اليقين.

إسرائيل وانسجاما مع طبيعتها الانتهازية والعدوانية سارعت إلى احتلال أراضي سورية جديدة، وشنت سلسلة غارات مدمرة على المقدرات العسكرية السورية، في رغبة واضحة منها في إفقاد سوريا قدرتها على الدفاع عن نفسها وتحويلها إلى بلد مسلوب الإرادة، في منطقة محاطة بالقروش والحيتان.

وأبدت سلطة الأمر الواقع صمتا مطبقا تجاه الهجمات الإسرائيلية، ما فتح الباب على مصراعيه للتأويلات: هل ما يجري في الجولان السوري مبارك من الجولاني ومن يقف وراءه؟ هل التزمت سلطة الأمر الواقع الصمت نتيجة الخوف من الدخول في حرب لا تقوى عليها؟… والأهم من كل هذا، إلى متى سيتم التفريط في الأرض السورية لصالح الصهاينة؟.

إذا كانت السوريون خرجوا سلميا في مارس 2011 من أجل المطالبة بالديمقراطية والحرية والكرامة، وقدموا من أجلها الغالي والنفيس، فإن اللحظة المفصلية التي تعيشها سوريا الآن تسائل قدرة سلطة الأمر الواقع، التي يسود فيها الفكر الجهادي، على التأسيس لهكذا نظام، والمنهجية التي سيتم اعتمادها في المستقبل، لاسيما وأنها ستكون حاسمة في تحديد شكل الدولة وبنية المجتمع المستقبليين.

تبدي الجماعات المسلحة التي أحكمت قبضتها على دمشق، وسارعت إلى تشكيل حكومة انتقالية بقيادة محمد البشير، المقرب من “الجولاني”، تركز جهودها على بعث رسائل طمأنة إلى الخارج، بهدف الحصول على الاعتراف الدولي الذي تحتاجه بشدة، وإلا ستجد نفسها مخنوقة بالعزلة والعقوبات الدولية الموروثة من حقبة الأسد المظلمة.

لكن البحث عن الشرعية الدولية لا يلغي سؤال السيادة الوطنية: ما هو الثمن الذي ستدفعه سلطة الأمر الواقع مقابل حذف “هيئة تحرير الشام” من قائمة الإرهاب في الأمم المتحدة، ولدى الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؟ وهل ستقبل بالتطبيع مع الكيان الصهيوني وتقديم تنازلات سيادية مريحة للإسرائيليين وباقي البلدان التي تورطت في الحرب بسوريا؟.

وفي مستوى متصل ما هو مستقبل القواعد الأمريكية والروسية في هذا البلد؟ وكيف سيجري التعامل مع الوجود التركي في الشمال؟ خصوصا أن أنقرة لا تبدي أية ليونة في ما يتعلق بقضية الأكراد المدعومين أمريكيا؟ وكيف ستتعامل بلدان الخليج ومصر والعراق وإيران مع التحولات الجديدة على الساحة السورية، في بيئة إقليمية معادية لأي تغيير ثوري للأنظمة، خصوصا من جانب الإمارات والسعودية ومصر التي ترى في أي تحول من هذا النوع تهديدا لمستقبل أنظمتها؟.

على المستوى الداخلي مازالت طريقة التعامل مع نظام التسيير الذاتي للأكراد امتحانا صعبا للسلطة القائمة، خصوصا أن القوات الفاعلة في هذه الرقعة مدعومة من طرف الولايات المتحدة، التي ترى فيها ضمانة لعدم عودة تنظيم “داعش الإرهابي”، بينما ترى فيها تركيا حاضنة لـ “إرهاب” حزب العمال الكردستاني.

وتثير التحولات السياسية السريعة مخاوف السوريين قبل غيرهم من عودة التنظيمات الإرهابية إلى الظهور، خصوصا تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، التي ارتبط اسمها بالأهوال والموت؛ كما تبقى هذه الجماعات أداة في يد المتدخلين أجنبيا.

“الجولاني” ومن معه اتخذوا الخطوات الأولية للتأسيس للمرحلة المقبلة، في البداية، من خلال عدم عزل رئيس الحكومة السورية في النظام المنهار، محمد الجلالي، وذلك لتجنب انهيار المؤسسات والوقوع في الفوضى، وبدلا من ذلك تم الترتيب لانتقال السلطة إلى الحكومة الانتقالية برئاسة محمد البشير.

المراحل الانتقالية بعد إسقاط الأنظمة تكون بالغة الصعوبة والتعقيد، لكنها تصبح أكثر صعوبة في بلد كسوريا الذي عاش الويلات.

فمن ناحية يضع السوريون على عاتقهم تحقيق العدالة الانتقالية ومحاسبة الجناة والمجرمين المتورطين في مأساة الشعب السوري، إلا أن انتشار الجماعات المسلحة والمتطرفة يبقي خطر اللجوء إلى “شرع اليد”، والإعدامات خارج القانون والوقوع في الممارسات نفسها التي ثار عليها السوريون.

تقرير الشعب السوري مصيره بشكل ديمقراطي حق يجب أن يصان، وهو ما يقتضي صون الأدوات التي ستكفل له ذلك، خصوصا التعددية الحزبية الديمقراطية والنقابات والجمعيات وباقي هيئات المجتمع المدني، وإقامة بيئة نقاش عمومي صحي، والتحلي بقدر عال من المسؤولية والحس الوطني.

من حق السوريين أن ينعموا ببلد ديمقراطي آمن وكريم، يصون حقوقهم وحقوق الأجيال القادمة، على قدر التضحيات التي تم تقديمها. ولتحقيق ذلك فإن سفينة النجاة ليست سوى السوريين أنفسهم بمختلف أفكارهم وانتماءاتهم الأيديولوجية والفكرية والعقدية، بعيدا عن الإرهاب والعنصرية والطائفية والتعصب، وقبل كل شيء العقلية الانتقامية المدمرة.

سوريا الديمقراطية والحرة على كامل ترابها هي البلد الذي يقف إلى جانب الشعوب المظلومة، ويساند بقوة الشعب الفلسطيني المظلوم ويناهض الصهيونية التي كانت لها يد في مأساة السوريين وعذابهم.

من الامتحانات الصعبة التي سيكون على السوريين اجتيازها أن يعملوا على تجنب بزوغ نظام استبدادي جديد، يغير الخطاب والشكل، لكنه يستدعي الأساليب نفسها التي ذاق السوريون أهوالها.

لقد بات بإمكان سوريا أن تضع نظاما اجتماعيا قائما على التوزيع العادل للثروة، يصون حقوق الطبقة العاملة والفلاحين والمستضعفين قبل غيرهم من الطبقات، من خلال إقامة الأنظمة اللازمة للرعاية الصحية والاجتماعية، وإعادة هيكلة بناء المؤسسات الصحية والتربوية والثقافية والفنية وغيرها… ناهيك عن إعادة إعمار البلاد وعودة اللاجئين وإقامة البنى التحتية في هذا البلد الغني بالثروات.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة