بيبلز ديسباتش/ مدار: 22 آذار/ مارس 2022
فيجاي براشاد
رحل أحمد إعجاز جسدا لكن أفكاره لا يمكن إلا أن تكون قد استوطنت عقول كل من عاصروه أو اطلعوا على كتاباته التي كانت سراجا منيرا في الأوقات التي كانت تشهد فتورا في التحليل أو حيرة، بسبب مد القوى المهيمنة في محاولة منها للنيل من كل ما من شأنه أن يرفع راية المقاومة.
هناك جملة قالها فيجاي، وهو أحد أصدقاء إعجاز وزميله في معهد القارات الثلاث للبحوث الاجتماعية، بإمكانها أن تلخص العديد من الكلمات: “رحل إعجاز، الشخص الذي كلما كانت هناك قضية مستجدة إلا وكنا أول ما نفعله هو تحويل أنظارنا تجاهه للاطلاع على قراءاته. لقد كان بمثابة مرجع للعديدين وشخص يمكن النهل من أفكاره”.
لقد رحل إعجاز، أحد كبار كتاب المقالات السياسيين في عصرنا، وأحد ممثلي جيل من الثوريين المثقفين الهنود والباكستانيين. لقد ألقى إعجاز العديد من التحديات والأفكار، من الإمبريالية إلى القوميات (الرجعية والتقدمية)، ومن الهندوتفا إلى الإسلاموية، ومن الديمقراطية الليبرالية إلى الشعبوية والفاشية، ومن الأدب الأوردي الكلاسيكي إلى وضع ما يسمى “الأدب العالمي” في مكانه، كلها أفكار تناولها بعطاء غزير.
الخطوات الأولى لإعجاز ضمن عالم السياسة
ولد أحمد إعجاز في مظفر نجار، في ما كان يعرف في تلك الأوقات بالهند البريطانية، وكان الفتى متعلقا بالقراءة منذ سن مبكرة، لاسيما أن والده كان يشارك معه بعض الكتب التي كانت تعتبر آنذاك راديكالية، ما ساعده على أن يسافر بعقله خارج النظام الرأسمالي الذي كان يطبق على سهل الغانج الهندي، حيث كان يعيش بالأخص، والعالم بأكمله.
بدأ إعجاز أولى خطواته الدراسية في لاهور، بباكستان، حيث هاجرت عائلته بعد التقسيم في 1947-1948، وتوزعت دراساته في ما بعد بين الأقسام في الكلية والمقاهي وزنازين المنظمات السياسية. في سياق هذه المنصات المختلفة للتعلم، التقى إعجاز في المقاهي مع أرقى العقول في الأدب الأوردي، حيث تعلم السياسة والفن، في حين واجه في المنظمات السياسية عمق الماركسية ضمن نظرة لا حدود لها للعالم، ستستحوذ بعد ذلك على فكره طيلة حياته؛ وبدأ ذلك من خلال انغماسه في الاضطرابات اليسارية في أفغانستان، ما لفت انتباه السلطات إليه في فترة مبكرة، الأمر الذي دفعه إلى مغادرة البلاد في اتجاه نيويورك.
ازدهر شغف مفكرنا بالسياسة والشعر في نيويورك، بحيث كان دائم الحضور مع شعراء عاصروه (مثل أدريان ريتش، ويليام ستافورد، ميروين…)، وكان من ضمن نتائج ذلك إصداره أول كتاب له بعنوان “غزال الغالب” (1971)، كما انخرط في الوقت نفسه بمعية فيروز أحمد في إنشاء منتدى باكستان، وهي مجلة كانت توثق الفظائع التي تقع في جنوب آسيا، مع التركيز بشكل خاص على باكستان وعلى الديكتاتورية العسكرية ليحيى خان (1969-1971)، والمساهمات المدنية لذو الفقار علي بوتو (1971-1977).
كانت كتابات ومساهمات إعجاز منكبة على تناول السياسات في جنوب آسيا من خلال مجلات اشتراكية مختلفة، مثل المجلة الشهرية، التي استمرت مساهماته فيها طيلة العقود التالية لانخراطه فيها.
عودة إعجاز أحمد إلى الهند وانكبابه على تفكيك عديد الأفكار
عاد إعجاز إلى الهند في بداية الثمانينيات، حيث أقام في دلهي ودرس في العديد من الكليات في المدينة (بما في ذلك جامعة جواهر لال نهرو). وعرفت هذه الفترة انكباب تركيز إعجاز على نقد مجموعة من الأفكار التي كان يتم تناولها في تلك الفترة، ونتيجة لذلك كان عطاؤه غزيرا في ما يخص ثلاثة مجالات: ما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، الهندوتفا والليبرالية، النظام العالمي الجديد المتمركز حول الولايات المتحدة والعولمة التي تقودها هذه الأخيرة.
كما طور إعجاز منذ عودته للهند تحليلا يتناول الطريقة العرضية التي تتعامل بها الجامعات الحضرية مع تقييم ثقافات العالم الثالث، وشهد عمله هذا اتساعا سرعان ما حمله إلى إبداء قراءات دقيقة لأعمال الناقد الأدبي الماركسي فريد جيمسون، وأحد مفكري الاستشراق إدوارد سعيد.
في إطار تناوله لما بعد الحداثة وما بعد الاستعمار، كان إعجاز مرتبطا للغاية بكتاب لإرنستو لاكلو وشانتال موف، الهيمنة والإستراتيجية الاشتراكية، 1985، والذي يتناول الشيوعي الإيطالي أنطونيو غرامشي باعتباره كمفكر لما بعد الحداثة.
في هذا السياق، بدأ إعجاز قراءته الدقيقة لعمل غرامشي، بحيث نُشرت هذه الكتابات في كتابه “في النظرية: الطبقات، الأمم، الآداب” (Verso and Tulika، 1992). وقد كان لهذا الكتاب تأثير مهم على العديد من العلماء وفق شهادات العديدين.
مساهمات إعجاز في فترة كانت سوداوية على الهند بسبب نمو الهندوتفا
من ضمن الجمل التي يمكن أن يتم الوقوف عليها في مختلف كتابات إعجاز: “تحصل كل دولة على الفاشية التي تستحقها”، وهي جملة لازمته كثيرا بالأخص بعد أن ساعدته قراءاته لغرامشي في إلقاء الضوء على صعود الهندوتفا في الفترة التي واكبت تدمير أحد الرموز التاريخية، مسجد بابري، عام 1992.
لقد كان جيل كامل مندهش من التسارع الكبير لظاهرة الهندوتفا، وهو الأمر الذي جعل إعجاز يخصص وقتا مهما من أجل تحديد طابع الصعود السريع لليمين الهندي المتشدد من خلال كتاباته التي تم تجميع معظمها في ما أطلق عليه أنساب الحاضر: مقالات سياسية (1996)، والتي تناولت الطاهرة بلغة نظرية وتاريخية دقيقة.
ساهم هذا الظهور السريع لليمين الهندي المتطرف في دفع إعجاز إلى تقديم قراءة متأنية لأعماله، وهو ما أدى به إلى التوصل إلى أن ظهوره في الهند ترافق مع بؤس النظام الطبقي والتسلسل الهرمي للبطريركية، وهو ما قصده من جملته حول حصول كل بلد على الفاشية التي يستحق.
شدد إعجاز على أنه لفهم نمو الهندوتفا يجب على المرء استيعاب الجذور الرئيسية للثقافة الصعبة للمجتمع الهندي، وفهم الطريقة الوحشية التي تتعامل بها الخصخصة مع مختلف المتداخلين. لقد ساهم إعجاز في هذه الفترة في ملء الفراغ الفكري الذي كانت تشهده الهند، وتذليل ولو جزء من الحيرة السياسية التي كانت تميز المشهد. لقد أعطى إعجاز الثقة في وقت كان كسوف الأمل شبه مكتمل.
لقد كانت الفترة الأولى في وصول الفقيد إلى الهند مليئة بالسنوات الصعبة، بدأت بتحرر الهند عام 1991 وشن الولايات المتحدة حربا على العراق في العام نفسه. في العام التالي، 1992، دمرت قوى اليمين المتطرف مسجد بابري، وبعد ذلك بعامين، 1994، تم إنشاء منظمة التجارة العالمية التي كانت وراء استنزاف موارد الدول.
وفي مقابل ذلك تميز هذا العقد بانتشار كتابات وخطب إعجاز على نطاق واسع، ونُشرت غالبًا في مجلات صغيرة وفي منشورات حزبية. كان تواجد إعجاز حسب العديد من السياسيين في الهند بمثابة ضربة حظ، بحيث كانوا دائمي الاستماع إلى تحليلاته وكتاباته، ليس فقط في الأماكن العامة، ولكن في أماكن مثل مقهى Kutty في متحف ومكتبة Nehru Memorial وفي العديد من الكليات التي حضرها كمتحدث.
مساهمات إعجاز الفكرية على المستوى العالمي
عندما كانت الماركسية تتعرض للهجوم، كان إعجاز أحد المفكرين القلائل الذين قدموا سردا متطورا ليس لأهميتها، بل لضرورتها. “ما بعد الاستعمار هو أيضا مثل معظم الأشياء مسألة طبقية”، هكذا كان رد إعجاز على من كانوا ينادون بأن الماركسية قد تم تجاوزها.
في منتصف التسعينيات، وبعد سقوط الاتحاد السوفياتي، كان من الواضح أن الماركسية تعاني في معركة الأفكار، حيث وجدت النيوليبرالية لنفسها موطئا، وهو أمر أزعج الكثيرين وازداد إزعاجا بسبب عدم وجود مشروع جاد للنشر في اليسار من أجل مواجهة هذا المد. في هذه الفترة – في 1999 – تم إنشاء LeftWord Books في دلهي، بحيث كان إعجاز من أوائل المؤلفين لدار النشر من خلاله كتابته لمقال اعتبر مؤثرا عن البيان الشيوعي في كتاب حرره براكاش كارات تحت عنوان “عالم يستحق الفوز”.
في عام 2009، أطلق برابير بوركياستا وآخرون “نيوزكليك”، وهي بوابة إخبارية على شبكة الإنترنت لمناقشة القضايا المهمة في عصرنا، وكان إعجاز أحد الضيوف الأوائل، واستمر في الظهور بشكل منتظم على قناة “نيوزكليك”؛ لقد كان يتناول بشرح مفصل الحروب في غرب آسيا وشمال إفريقيا، بالإضافة إلى التطورات السياسية في الولايات المتحدة والصين وأمريكا الجنوبية وأوروبا.
من ضمن الإطلالات التي سترتبط باسم إعجاز كتابه في النظرية، حيث يشير إلى معضلة رئيسية تتعلق بالنظرة المثالية تجاه الثقافة والأدب.
كما يتحفظ الكتاب في علاقة بمنهج إدوارد سعيد في كتابه “الاستشراق”، الذي يمرر حسب إعجاز فكرة التعميم، ليخلص إلى أن الغرب يخترع الشرق منذ القدم، حيث تتضح الحدود منذ الملاحم الإغريقية وصولاً إلى كتابات المستشرقين، في وقت لا يعتقد إعجاز أن مقولات الفلاسفة اليونان كانت تعبيراً عن الغرب كما جرى تخيله في عصر النهضة في أوروبا.
ويعمل إعجاز من خلال كتابه على تفنيد الخلط الدائر بين الاستشراق وبين الاستعمار، إذ يمثل الأخير حسب مفكرنا ظاهرة حديثة لا يمكن قراءتها بمعزل عن التحوّلات الاقتصادية الكبرى في العالم؛ لا من خلال الاعتماد فقط على تمظهرات الخلاف بين “شرق” و”غرب” في النصوص الأدبية والتعبيرات الفنية المختلفة.
ويتكون الكتاب من ثمانية فصول تناولت عديد الأفكار والقضايا، من الأدب إلى والهجرة والتواجد الماركسي في الهند؛ وهو كتاب حاول إعجاز من خلاله معالجة العديد من النقاط الخلافية في عديد القضايا والمواضيع.