مدار: 28 نيسان/ أبريل 2021
منذ عقود وقلوب المصريين تهتز بين الفينة والأخرى على وقع حوادث مأساوية مميتة للقطارات على طول السكك الحديدية المصرية، التي تعتبر من بين الأقدم حول العالم، فهي تحتل المرتبة الثانية بعد بريطانيا منذ تأسيسها عام 1854، ويتجاوز طولها 9500 كلم.
وارتفعت وتيرة هذه الحوادث الكارثية مؤخرا من حوادث سنوية إلى شهرية تقريبا؛ ففي أقل من شهر شهدت السكة الحديدية المصرية ثلاث فواجع، آخرها فاجعة قطار الطوخ بمحافظة القيلوبية شمال البلاد، الأحد المنصرم 18 أبريل / نيسان، وبلغ عدد ضحاياها 23 قتيلا وحوالي 140 مصابا حسب آخر تصريحات النيابة العامة المصرية.
وأفادت هيئة السكك الحديدية بأن القطار المنكوب انطلق من القاهرة متجها إلى مدينة المنصورة بالدلتا، قبل أن يخرج عن مساره وتنقلب عدد من عرباته على بعد نحو 40 كلم شمالي القاهرة. كما ذكرت عدة صحف ومنابر إعلامية نقلا عن مصادر مطلعة أن سبب الانقلاب يرجع إلى السرعة المفرطة التي بلغت نحو 120 كلم في الساعة في منطقة إصلاحات وعرة.
وعلى هذا الأساس تقرر حبس 23 متهما بالإهمال وعدم مراعاة القوانين والأنظمة، ضمنهم قائد القطار ومساعده، حسب ما صرحت به النيابة العامة في بيان لها صدر يوم الثلاثاء؛ كما استدعت رئيس الهيئة القومية لسكك حديد مصر، الذي استقال لاحقا على خلفية الحادث، والعديد من المسؤولين بالهيئة ذاتها، في إطار التحقيق في مسببات الحادث وتحديد المسؤوليات.
وتأتي فاجعة قطار الطوخ لتؤكد أن الأمر لا يتعلق بحوادث سككية متقاربة زمنيا بالصدفة، خاصة أن الحادث الأخير جاء مباشرة بعد حادث قطار سوهاج يوم الجمعة 26 مارس 2021، الذي راح ضحيته 36 شخصا وأصيب حوالي 180؛ وإنما الأمر يتعلق بأزمة حقيقية تعيشها السكة الحديدية المصرية، التي أصبحت تسائل كافة المسؤولين والمختصين في المجال من أجل إيجاد حلول فورية وإجراءات عملية من شأنها أن تضع حدا للحوادث المرعبة التي أودت بحياة العديد من الضحايا، ويعد إهمالها استهتارا بأرواح المصريين\ات.
وحول مسببات هاته الحوادث، وحسب رأي المختصين، فإنها راجعة إلى إهمال السكك الحديدية وصيانتها وتحديثها على مدار 40 عاما، وإلى ضعف التأهيل والتكوين التقني للعاملين في القطاع.
كما أن لهذه الأزمة أبعاد أخرى، فحسب دراسة نشرها المعهد المصري للدراسات بتاريخ 6 أبريل /نيسان 2021 فإن ضعف التمويل والإنفاق على القطاع السككي فاقم الوضع، فقد انخفضت ميزانيته في ربع القرن الأخير إلى حوالي 39 بالمائة.
في السياق نفسه ذكرت الدراسة أيضا أن الأمر لا يتعلق بضعف الموارد فحسب، بل يرتبط بسوء إدارة وتوزيع وترتيب أولويات الإنفاق، وكذلك بسن سياسة التقشف التي تفرضها اشتراطات الاستدانة والمديونية التي قدرت بحوالي 100 مليار جنيه، وفق تصريحات أحمد إبراهيم، المتحدث الرسمي السابق.
إلا أن المصدر نفسه قال: “عام 2017 أصدر الجهاز المركزي للمحاسبات تقريرا كشف فيه عدم استفادة الهيئة العامة للسكك الحديدية من القروض التي حصلت عليها، إذ ارتبطت هذه القروض بسد العجز وبفساد لدى قيادات بالوزارة”، وأضاف: “تراكم تلك الديون والعجز عن سدادها يصل بنا إلى سعي الهيئة إلى تثمين العديد من الأصول المملوكة لها لسداد جزء منها؛ وقد قدرت مجموعة من الأصول تصل قيمتها إلى 22 مليار جنيه ستقوم ببيعها لصالح بنك الاستثمار القومي من أجل سداد جزء من القروض”.
كل هذا في غياب تام لأي محاسبة أو مساءلة للمسؤولين على أرواح المواطنين، وبروبغندا إعلامية تحاول طمس وتغليف الحقائق، كما حدث في حادث سوهاج، حين سارعت المنابر الإعلامية المصرية التابعة للجهات السيادية إلى تلميع صورة الوزير المكلف والإشادة بإنجازاته.
وذكرت دراسة المعهد المصري: “أفسح المجال للوزير ليعبر عن موقفه ويلقي الاتهامات استباقا للتحقيق. وانبرى إعلاميون في البرلمان وخارجه للإشادة بإنجازات الوزير، وتدشين هاشتاج لدعمه عبر مواقع التواصل الاجتماعي. ولم يكتف هذا الإعلام بذلك، بل اتهم الشاب الذي قام بتصوير البث الحي والاستغاثة بأنه إرهابي وتكفيري وإخواني، والحقيقة أن هذه الشماعة لم تعد تأتي بثمارها مع غالبية المصريين”.
أما في طرحها للحلول والبدائل فذكرت الدراسة أنه لا نجاح لمشروعات التطوير بالخضوع لاشتراطات خصخصة وبيع الأصول أو طرحها في البورصة على أوضاعها الخاسرة الحالية، وأضافت: “البديل عن ذلك تفعيل الشركات الثماني التابعة للهيئة والاعتماد عليها وإيجاد آليات للتخلص من الديون وتسويتها، سواء بالدفع لدى الجهات الدولية باعتبارها ديونا كريهة يجب التملص منها، أو جدولتها أو بإعادة جدولة الديون الداخلية لصالح وزارة المالية وبنك الاستثمار القومي، ولو بتصفير الفائدة وتقسيط أصل الدين على سنوات متباعدة، أو حتى شطبها وتسويتها بأي طريقة أخرى كدعم من الدولة وتلك الجهات للهيئة كي تستطيع زيادة الإنفاق الحقيقي والتوسع في التصنيع المحلي وتقليل أعباء الديون”.
هذا يؤكد أنه رغم كل برامج التطوير والتحديث التي يطرحها المسؤولون، إلا أنها ستبقى محدودة الفاعلية إذا ما استمرت الحكومة المصرية في نهج سياسة الإفلات من العقاب نفسها، وعدم محاسبة مسؤولي الإدارة العليا للهيئة أو الوزارة جنائيا وسياسيا، والاستمرار في تسليع الخدمات وإخضاعها لمنطق الربح والخسارة.