معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 01 أغسطس/ آب 2024
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: رولا حلواني (فلسطين)، بدون عنوان XII، من سلسلة التوغل السلبي، 2002.
أطلع كبار مسؤولي الأمم المتحدة مجلس الأمن الدولي، في الـ 26 تموز/يوليو، على الوضع الرهيب في غزة. وقالت نائبة المفوض العام لوكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) أنطونيا دي ميو: “لا يزال أكثر من مليوني شخص في غزة محاصرين في كابوس لا نهاية له من الموت والدمار على نطاق مذهل”. وكتب مسؤولو الأمم المتحدة أن 625,000 طفل محاصرون داخل غزة و “مستقبلهم في خطر”. وكانت سجلت منظمة الصحة العالمية “تفشي التهاب الكبد الوبائي (أ) وعدد لا يحصى من الأمراض الأخرى التي يمكن الوقاية منها”، وحذرت من أنها “مسألة وقت” قبل أن ينتشر وباء شلل الأطفال بين الصغار. وفي أوائل تموز/ يوليو، أشار ثلاثة علماء يعملون في كندا وفلسطين والمملكة المتحدة في رسالة نُشرت في مجلة “ذي لانسيت” إلى أنهم إذا طبقوا “تقديراً متحفظاً لأربع وفيات غير مباشرة لكل حالة وفاة مباشرة واحدة على 37,396 حالة وفاة تم الإبلاغ عنها، فليس مستغربا أن نقدّر أن ما يصل إلى 186,000 حالة وفاة أو حتى أكثر يمكن أن تعزى إلى الصراع الحالي في غزة”.
قبل يومين من اجتماع مجلس الأمن الدولي، ألقى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في 24 تموز/ يوليو، كلمة أمام مجلسي الكونغرس الأمريكي. وقبل شهرين من هذا الظهور، قالت المحكمة الجنائية الدولية إن لديها “أسباب معقولة للاعتقاد” بأن نتنياهو يتحمل “المسؤولية الجنائية عن… جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية”. تم تجاهل هذا الحكم تمامًا من قبل ممثلي الولايات المتحدة المنتخبين، الذين رحبوا بنتنياهو كما لو كان بطلًا فاتحًا. كانت لغة نتنياهو تقشعر لها الأبدان: “أعطونا الأدوات بشكل أسرع، وسننهي المهمة بشكل أسرع”. ما هي “المهمة” التي يريد نتنياهو أن ينهيها الجيش الإسرائيلي؟ تحدثت محكمة العدل الدولية، في كانون الثاني/يناير، عن “ادعاء معقول بارتكاب الجيش الإسرائيلي أعمال إبادة جماعية”. إذًا، هل “المهمة” التي تريد إسرائيل أن تنهيها هي إتمام الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني، والتي تسارعت وتيرتها من خلال زيادة تزويد الولايات المتحدة للإسرائيليين بالسلاح والتمويل؟
وعلى الرغم من شكوى نتنياهو من أن الولايات المتحدة لم ترسل أسلحة كافية، فقد وافقت الحكومة الأمريكية في نيسان/أبريل على بيع خمسين طائرة مقاتلة من طراز إف-15 لإسرائيل، بقيمة 18 مليار دولار، وفي أوائل تموز/يوليو قالت إنها سترسل ما يقرب من ألفي قنبلة تزن كل واحدة منها 500 رطل لاستخدامها في غزة. أراد نتنياهو المزيد في ذلك الوقت، ويريد المزيد الآن. إنه يريد “إنهاء المهمة”. وقد تم تكريس لغة الإبادة الجماعية هذه من قبل حكومة الولايات المتحدة، التي واكب ممثلوها الدعوة إلى القتل الجماعي بحفاوة بالغة.
احتج عشرات الآلاف من الأشخاص خارج أروقة الكابيتول على زيارة نتنياهو للكونغرس. وهم جزء من جموع الشباب الذين شاركوا في سلسلة من الاحتجاجات ضد الإبادة الإسرائيلية للفلسطينيين وضد دعم الحكومة الأمريكية الكامل للعنف. وصف نتنياهو المحتجين بـ”أغبياء مفيدون لإيران”، وهو تصريح غريب من ضيف أجنبي تجاه المواطنين الذين كانوا يمارسون حقوقهم الديمقراطية في بلدهم. واستخدمت الشرطة رذاذ الفلفل وغيره من أشكال العنف لاحتواء الاحتجاجات التي كانت سلمية وعادلة.
وبينما رحبت واشنطن بمجرم الحرب المتهم، استضافت بكين ممثلين عن أربعة عشر فصيلاً فلسطينياً جاؤوا لمناقشة خلافاتهم وإيجاد طريقة لبناء وحدة سياسية ضد الإبادة والاحتلال الإسرائيلي. وقبيل دخول نتنياهو إلى قاعة الكونغرس، وقف الممثلون الأربعة عشر لالتقاط صورة في دار ضيافة دياويوتاي الحكومية في بكين. وقد عزز اتفاقهم، إعلان بكين، التزامهم بالعمل معًا ضد الإبادة الجماعية والاحتلال واعترفوا بأن انقسامهم لم يخدم سوى إسرائيل.
عندما انهار الاتحاد السوفيتي في عام 1991، ضعفت مجموعة من حركات التحرر الوطني، مثل تلك الموجودة في جنوب أفريقيا وفلسطين، واضطرت إلى تقديم تنازلات كبيرة من أجل إنهاء الصراعات مع مستعمريها. وبعد عدة بدايات خاطئة، انضم نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا إلى منتدى التفاوض المتعدد الأطراف في نيسان/أبريل 1993، والذي كان موقعًا للتنازلات التي قدمتها قوى التحرير (التي قوضها اغتيال الزعيم الشيوعي كريس هاني في الشهر نفسه وهجمات النازيين الجدد “حركة المقاومة الأفريكانية الجديدة” (Afrikaner Weerstandsbeweging). لم يؤدِ نقل السلطة عن طريق التفاوض من خلال الدستور المؤقت في تشرين الثاني/نوفمبر 1993 إلى تفكيك بنى السلطة البيضاء في جنوب أفريقيا. تزامنا مع ذلك، وافقت منظمة التحرير الفلسطينية في 1993 و1995 على اتفاقات أوسلو التي اعترفت فيها منظمة التحرير الفلسطينية بدولة إسرائيل ووافقت على بناء دولة فلسطين في القدس الشرقية وغزة والضفة الغربية. أطلق إدوارد سعيد على اتفاقات أوسلو اسم “فرساي الفلسطينية”، وهو حكم بدا قاسيًا في ذلك الحين ولكن اتضحت دقّته فيما بعد.
استغلت إسرائيل اتفاقات أوسلو لتحقيق مآربها، أساسا، من خلال بناء المستوطنات غير الشرعية على الأراضي الفلسطينية وحرمان الفلسطينيين من حق المرور الحر عبر الأراضي الثلاثة غير المتصلة. وفي 1994، أنشأت المجموعات القيادية في منظمة التحرير الفلسطينية السلطة الوطنية الفلسطينية لتوحيد الفصائل في مشروع الدولة الجديدة، لكن الفصائل التي رفضت اتفاقات أوسلو لم ترغب في إدارة الاحتلال نيابةً عن إسرائيل. وفي كانون الثاني/يناير 2006، فازت حماس بالكتلة الأكبر في الانتخابات التشريعية الفلسطينية بحصولها على 74 مقعدًا من أصل 132، وبحلول حزيران/يونيو 2007، قطعت فتح وحماس العلاقات بينهما وأنهتا محاولة بناء مشروع وطني فلسطيني جديد لما بعد أوسلو.
صاغ خمسة فلسطينيين يمثلون الفصائل الخمسة الرئيسية، من داخل السجون الإسرائيلية القاسية، في أيار/مايو 2006، وثيقة الأسرى: مروان البرغوثي (فتح)، عبد الرحيم ملوح (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين)، مصطفى بدارنة (الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين)، عبد الخالق النتشة (حماس)، بسام السعدي (الجهاد الإسلامي). وتضم هذه الفصائل الخمسة تنظيمين يساريين، و تنظيمين إسلاميين، وإطار التحرر الوطني الرئيسي. وقد دعت الوثيقة المكونة من ثماني عشرة نقطة مختلف الفصائل (بما فيها حماس والجهاد الإسلامي) إلى إعادة تفعيل منظمة التحرير الفلسطينية كإطار مشترك، والقبول بالسلطة الفلسطينية “كنواة للدولة المستقبلية”، والاحتفاظ بحق مقاومة الاحتلال. وفي حزيران/يونيو، وقّعت جميع الأطراف على مسودة ثانية للوثيقة. وبالرغم من محاولات بناء الوحدة، بما في ذلك خلال العدوان الإسرائيلي على غزة المعروف باسم عملية أمطار الصيف (من حزيران/يونيو إلى تشرين الثاني/نوفمبر 2006)، لم يكن هذا التقارب ممكناً، وظل العداء بين الفصائل الفلسطينية قائما.
وقد أتاح هذا التشتت مساحة واسعة لتعمّق الاحتلال الإسرائيلي وللفلسطينيين للتخبط دون مشروع سياسي مركزي. وقد فشلت عدة محاولات لجلب المجموعات السياسية الفلسطينية إلى حوار جاد في تحقيق أي تقدم، بما في ذلك بالقاهرة في أيار/ مايو 2011 وتشرين الأول/ أكتوبر 2017 وفي الجزائر في تشرين الأول/ أكتوبر 2022. ومنذ العام الماضي، عملت الحكومة الصينية مع مختلف الدول الإقليمية على دعوة الفصائل الفلسطينية الرئيسية الأربعة عشر إلى بكين لإجراء محادثات مصالحة. هذه الفصائل هي:
- حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)
- حركة المقاومة الفلسطينية (حماس)
- الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين
- الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين
- حركة الجهاد الإسلامي
- حزب الشعب الفلسطيني
- جبهة النضال الشعبي الفلسطيني
- حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
- الجبهة الشعبية القيادة العامة
- الاتحاد الديمقراطي الفلسطيني (فدا)
- جبهة التحرير الفلسطينية
- جبهة التحرير العربية
- الجبهة العربية الفلسطينية
- طلائع حرب التحرير الشعبية (قوات الصاعقة)
دعا إعلان بكين، الذي يكرر الصياغات الواردة في وثيقة الأسرى، إلى إقامة دولة فلسطينية، واحترام حق الفلسطينيين في مقاومة الاحتلال، وتشكيل الفصائل السياسية الفلسطينية لـ “حكومة وفاق وطني مؤقتة”، وتعزيز منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها من أجل النهوض بدورها في النضال ضد إسرائيل. وعلى الرغم من أن الإعلان دعا بالطبع إلى وقف فوري لإطلاق النار وإنهاء بناء المستوطنات في القدس الشرقية والضفة الغربية، إلا أنه ركز بشكل أساسي على الوحدة السياسية.
يبقى أن نرى ما إذا كانت هذه العملية التي تمت بوساطة صينية ستسفر عن نتائج عندما يجلس الفلسطينيون مع الإسرائيليين. ومع ذلك، فإنه يمثل تقدمًا في هذا الاتجاه ونقطة تحول محتملة في انهيار المشروع الفلسطيني الموحد الذي بدأ في أعقاب اتفاق أوسلو الثاني عام 1995. يتعارض إعلان بكين تمامًا مع حدة خطاب نتنياهو في الكونغرس الأمريكي: فالأخير خطير وينطوي على إبادة جماعية، بينما يسعى الأول إلى السلام في عالم معقد.
كتبت فدوى طوقان (1917-2003)، وهي واحدة من أروع شعراء فلسطين، قصيدة “الطوفان والشجرة”. لم يكن سقوط الشجرة التي ضربها الطوفان نهايتها بل بداية جديدة.
ستقوم الشجرة
ستقوم الشجرة والأغصان –
ستنمو ضحكات الشجرة
في وجه الشّمس
وسيأتي الطير
لا بد سيأتي الطير
سيأتي الطير
سيأتي الطير
إن اغتيال القيادي في حركة حماس إسماعيل هنية (1962-2024) في طهران (إيران) جعل الوضع صعبًا للغاية، وسيصبح من الصعب على الطيور أن تغرد.