تونس.. استمرار الأزمة السياسية يفتح البلاد على سيناريو التدابير التقشفية المهلكة

مشاركة المقال

مدار: 16 كانون الأول/ ديسمبر 2021

 تعيش تونس منذ أشهر في ظل وضع مبهم بعد القرارات التي اتخذها قيس سعيد في الـ25 من يوليوز، وما تلاها من تبعات اقتصادية واجتماعية جعلت البلاد تسير إلى وضع أقرب ما يكون إلى دولة الحاكم الواحد، الذي يمسك كل السلطات بيد واحدة ولا ينازعه فيها أحد.

وخلال الأيام الماضية خرج قيس سعيد بخطاب أعلن فيه مجموعة من القرارات التي من شأنها، حسبه، أن تحسن الوضع السياسي، لكن وفق رؤية يعلمها هو فقط، وسيكون الآمر الناهي في إخراج خارطة طريقها التي لم تُر منها إلى حدود الآن أي بوادر إيجابية.

قرارات 25 يوليوز وما تلاها

استفاق الشعب التونسي في 25 من يوليوز/ تموز 2021 على وقع قرار من رئيس الجمهورية قضى بـ”تجميد البرلمان” وإعفاء مجموعة من الوزراء من مناصبهم، وفق ما سماه قيس سعيد “تصحيح مسار الثورة”، و”تطبيقا للمادة 80 من الدستور”.

وهو ما قسم الشارع إلى مؤيد ومعارض، دون أن تكون هناك أي تصادمات عنيفة إلا نادرا. وضع اعتبره كثيرون بما يشمل مجموعة من الأحزاب “انقلابا على الدستور”، موردين أن “قيس سعيد قام بتأويل للمادة 80 على هواه، مستفيدا في ذلك من عدم وجود محكمة دستورية، تعتبر صاحبة الاختصاص في هذه الأمور”.

واستفاد قيس سعيد من هذا الوضع لتجميع مختلف السلطات في يده، وتسيير الدولة من خلال مراسيم، من خلال إلغاء هيئة مراقبة دستورية القوانين، وهو الأمر الذي استمر إلى غاية تعيين الحكومة في 29 شتنبر/ أيلول 2021.

وعرف تعيين الحكومة تكليف نجلاء بودن كرئيسة لها، لتكون بذلك أول امرأة تتقلد هذا المنصب، في وقت عرفت تشكيلة الوزراء تواجد وزراء غير منتمين إلى الأحزاب، وآخرين تم الحديث عن أنهم ينتمون إلى المحيط الضيق للرئيس قيس سعيد.

الحكومة، وطيلة الأشهر التي قضتها في تسيير البلاد، لم يكن لديها أي خروج إعلامي، كما لم تقم بالإفصاح عن البرنامج الحكومي الذي ستعمل من خلاله، وهو الأمر الذي جعل الكثيرين يعتبرون أنها جاءت فقط من أجل التقليل من الضغوط الخارجية، ولا دور لها على أرض الواقع.

أوضاع اجتماعية واقتصادية متدهورة

 في ظل الفراغ الذي شهدته البلاد إثر شغور الحكومة وتركيز السلط في يد الرئيس، طفت إلى السطح مجموعة من المشاكل التي لم يتم التعامل معها بالشكل اللائق.

 ولعل أبرز مثال على ذلك أزمة النفايات في صفاقس، التي أدت إلى احتجاجات ومواجهات مع الشرطة في مناطق متعددة.

وتعود أسباب الأزمة إلى امتلاء مكب النفايات في صفاقس، ما جعل المدينة تعيش على وقع النفايات الملقاة في مختلف أنحائها، طيلة أشهر عانى فيها السكان من مختلف الظواهر غير الصحية، من تلوث وروائح وأزمات وانتكاسات صحية.

أمر لم يتم التعاطي معه بجدية، ليتم بعد ذلك اللجوء إلى فتح مكب عقارب، وهي مدينة مجاورة لصفاقس. هذا المكب الذي تم إغلاقه من سنوات نظرا لأمر من المحكمة بعد تقارير حملت أن له آثارا خطيرة على السكان.

وفي ظل انعدام الحلول لجأ الرئيس إلى تفويت الأمر إلى وزارة الداخلية، ما تسبب في مواجهات بين المتظاهرين والشرطة أدت إلى سقوط مجموعة من الجرحى. أحداث تسببت في طلب الرئيس ملاقاة فعاليات من مدينة عقارب، قصد تقريب وجهات النظر، لكن ذلك لم ينتج عنه أي جديد، ليتم إقبار الاحتجاجات من خلال الحل الأمني.

وبعيدا عن مشكل النفايات، تعاني تونس من أزمة أكثر تأثيرا على مختلف فئات المجتمع، تتمثل في ما تسمى “أزمة القمح”، التي تسبب فيها رفض قوارب القمح تفريغ حمولاتها إلى غاية استلام الدفوعات المالية الخاصة بالشحنات، ما أدى إلى نقص في هذا المادة؛ وهو الأمر الذي تسبب في أحاديث عن زيادات في هذه المادة الحيوية، ما من شأنه أن يزيد من ضرب القدرة الشرائية للمواطنين.

البنك الدولي وانخفاض الرقم السيادي

لم تتمكن تونس إلى حدود الساعة من إخراج قانون الميزانية الخاص بالسنة المقبلة، في ظل حديث عن عجز كبير وكيفية تغطيته، وعن إمكانية أن يتم ذلك من خلال تطبيق خطط تقشف مهلكة.

كما كشف قانون الموازنة التعديلي للعام المنقضي، الذي نشرته الحكومة أخيرا في الجريدة الرسمية، عن مراجعة شاملة لكافة المؤشرات الاقتصادية للعام الحالي، إذ توسع العجز في موازنة العام الحالي ليبلغ 9.7 مليارات دينار، مقابل عجز متوقع بـ7 مليارات دينار في المشروع الرئيسي، الذي أقره البرلمان المجمدة أعماله في نونبر/ تشرين الثاني 2020.

هذا ورفعت الحكومة مبلغ اعتمادات التعهد لنفقات الميزانية من 43.9 مليارات دينار إلى 48.4 مليارات، فيما زادت موارد الاقتراض الداخلي من 5.5 مليارات دينار إلى 8.1 مليار دينار؛ في وقت يقدر إجمالي الدين التونسي بأكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي، متجاوزا 30 مليار دولار، 60% منها ديون خارجية.

ومما زاد الأمر تعقيدا وصول الديون الخارجية إلى أرقام مهولة، أصبحت معها المفاوضات أكثر تعقيدا من أجل الاستفادة من قروض البنك الدولي أو حتى اللجوء إلى “نادي باريس” من أجل الاقتراض. وفي ظل هذه الديون المتراكمة تراجع تقييم رقم تونس السيادي ليصل إلى B3.

ويعكس خفض التصنيف إلى B3 “ضعف الحوكمة في مواجهة القيود الاجتماعية المتزايدة التي تمنع بشكل متزايد مرونة الحكومة في تنفيذ التعديل المالي وإصلاحات القطاع العام التي من شأنها أن تحقق الاستقرار”، وفق التبرير الذي أعطته وكالة موديز صاحبة التقييم.

بيان سفراء الدول السبع

بعد البيان الذي تحققت بعض نقاطه، وأصدره سفراء الدول السبع (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة) في شتنبر/ أيلول الماضي، ودعا الرئيس قيس سعيد إلى التسريع في تعيين رئيس حكومة وإعادة البرلمان، عادت الدول نفسها إلى إصدار بيان ثان قبل عدة أيام.

وحمل البيان المشترك في 10 دجنبر/ كانون الأول مطالبة سفراء الدول الأعضاء في مجموعة السبع (كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة)، المعتمدين في تونس، بعودة “سريعة” لعمل المؤسسات الديمقراطية في البلاد.

وجددت الوثيقة ذاتها التنويه بأهمية احترام الحريات الأساسية لجميع التونسيين، وبأهمية شمولية وشفافية عملية إشراك كافة الأطراف المعنية، بما يشمل الأصوات المختلفة في الطيف السياسي والمجتمع المدني، مع تحديد سقف زمني واضح يسمح بعودة سريعة لسير عمل المؤسسات الديمقراطية، بما فيها برلمان منتخب يضطلع بدور هام.

وعبر السفراء أنفسهم، بالإضافة إلى وفد الاتحاد الأوروبي، من خلال بيانهم، عن دعمهم الشديد للشعب التونسي في انتهاجه طريق الحوكمة الفعالة والديمقراطية والشفافية.

بيان اعتبره كثيرون تدخلا في الشؤون الداخلية للبلاد، ويجب التعامل معه بشكل يظهر سيادة تونس في ما يخص القرارات التي يتم اتخاذها. لكن العكس هو الذي حدث، فبعد بضعة أيام من البيان خرج قيس سعيد بخطاب حمل العديد من النقاط.

قرارات 13 ديسمبر/ كانون الأول

عرف 13 ديسمبر/ كانون الأول أول خروج للرئيس قيس سعيد تناول فيه نقاطا تخص مستقبل البلاد، من خلال خطاب حاول فيه حسب كثيرين طمأنة الخارج أكثر مما هو موجه إلى الداخل التونسي، لاسيما أنه لم يحمل أي إجابة عن الوضع الاجتماعي والاقتصادي المتدهور، بل ركز فيه على نقاط تخص الشكل الذي يريد أن تسير به البلاد، دون أن يفصح عن أي تفاصيل.

أولى هذه النقاط عزم سعيد على القيام بما سميت الاستشارة الشعبية، التي ستتم من خلال منصات إلكترونية عن بعد، وأيضا عبر تجنيد السلطات من أجل الوصول إلى مختلف الفئات؛ على أن تحمل هذه الاستشارة أسئلة ستكون وفق الرئيس بسيطة ومحددة لكيفية تسيير البلاد.

ثاني النقاط أنه سيتم تشكيل لجنة، وغالبا ما سيقوم الرئيس بهذا الدور، على أن تقوم بتجميع الأجوبة من الاستشارة والخروج برؤية معينة.

وبعد ذلك، وكخطوة ثالثة، سيتم طرح ما تم استخلاصه من هذه الاستشارة في استفتاء يتم تنظيمه في يوليوز/ تموز المقبل.

وفي خطوة رابعة يتم تنظيم انتخابات تشريعية في 17 من دجنبر/ كانون الأول من العام 2022.

وفي خضم هذا الخطاب لم يفت قيس سعيد، وكما جرت العادة، التأكيد على أن الأحزاب لا دور لها في هذا النظام الذي يريد وضعه.

ومن ضمن الأقوال التي جلبت العديد من ردود الفعل، تصنيف الرئيس مختلف المتداخلين إلى معسكرين، الأول يضم المعارضين الذين يريدون لتونس أن تبقى في نفس الوضع المتدهور، والمعسكر الثاني يضم من كانوا معه في قرارات 25 يوليوز/ تموز، لكنهم أصبحوا الآن يعارضون قراراته، مصنفا إياهم كطامعين في السلطة، ويمثلون خطوطا داخل الدولة.

في ظل كل هذا لم تجلب النقاط التي تطرق لها الرئيس سوى المزيد من اللغط، لاسيما أن سعيد تطرق إلى خطوط عريضة لا تجيب عن أسئلة الشارع، خصوصا أنه تحدث عن استفتاء ضمن قانون انتخابي جديد، ما يعني أن المؤسسات الحالية لن يكون لها دور.

خطط تقشف تلوح في الأفق

بعد هذا الخطاب، وخلال المؤتمر العادي للاتحاد الجهوي للشغل بصفاقس، عبر الأمين العام للاتحاد عن أن الحكومة اقترحت على الهيئة ذاتها مجموعة من الخطوات التي تستهدف السير في خطط اقتصادية تقشفية.

ومن ضمن النقاط التي تطرق لها الأمين العام أنه سيتم التقليص من مداخيل الموظفين بـ10%، بالإضافة إلى تجميد الزيادات للسنوات الخمس المقبلة، وخوصصة جزء من المؤسسات العمومية، والسير في طريق الرفع التدريجي للدعم.

خطوات اعتبرها الكثيرون انتكاسة في تاريخ البلاد، خصوصا في ظل تراجع القدرة الشرائية بسبب الأزمة الاقتصادية وارتفاع أثمان المواد الاستهلاكية.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة