مدار: 08 كانون الثاني/ يناير 2021
موجة التطبيع غير المسبوقة مع دولة الاحتلال الإسرائيلي التي شهدها العالم العربي والمغاربي في الأشهر القليلة الماضية، بإسناد غير مسبوق بطلاه الرئيس الأمريكي المنتهية ولايته، دونالد ترامب، وصهره جاريد كوشنر، لم تكن الأولى من نوعها، فقبل أربعين عاما ونيف كانت مصر أو دولة عربية تعمد إلى خرق الإجماع العربي بتوقيع اتفاق سلام مع إسرائيل، اعتبر وقتها خيانة كبيرة للقضية الفلسطينية، لم يكن معها من الدول الملتئمة ضمن الجامعة العربية إلا طردها وتحويل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس.
مفاوضات سرية طويلة في كامب ديفيد بالولايات المتحدة تلك التي مهدت لتوقيع الاتفاقية التي وصفت بـ”الخيانية” بين الرئيس المصري آنذاك أنور السادات، ورئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن، في البيت الأبيض يوم 17 سبتمبر 1978، تحت إشراف الرئيس الأمريكي جيمي كارتر، وانقسمت إلى شقين: اتفاق سمي “إطار للسلام في الشرق الأوسط” بخصوص الأراضي الفلسطينية المحتلة، وتم دون حضور المعنيين به، وهم ممثلو الشعب الفلسطيني، كما أدانته منظمة الأمم المتحدة؛ واتفاق آخر سمي “إطار لإبرام معاهدة سلام بين مصر وإسرائيل”، وهو الذي تمخضت عنه بعد ستة أشهر ما سميت “معاهدة السلام” بين الطرفين سنة 1979. لكن الوثيقتين أرفقتا برسائل من الطرفين تؤكد استمرار الخلاف بشأن القدس والضفة الغربية وقطاع غزة.
ولم تأت اتفاقية كامب ديفيد التي شكلت صدمة للشعوب العربية والمغاربية بدون مقدمات، فقد عرف عن موقعها أنور السادات منذ تقلده زمام الرئاسة في مصر سنة 1971، خلفا للرئيس القومي الاشتراكي جمال عبد الناصر، خضوعه لإملاءات الولايات المتحدة بزعامة كيسنجر، وتصفية التركة الناصرية والاشتراكية في البلاد؛ وحتى حرب أكتوبر/تشرين الأول سنة 1973، التي شنتها كل من مصر وسوريا على إسرائيل في سيناء وهضبة الجولان اللتين احتلتهما أثناء حرب يونيو/حزيران 1967، لم تخل من انصياع لدبلوماسية كيسنجر بوقف القتال في عز الانتصارات العسكرية على الأرض وخرق الخطة المتفق عليها مع سوريا، ما جعل الكثير من المؤرخين والمحللين العرب يشككون في أهدافها بعد توقفها في نصف الطريق بشكل مريب وبأمر من السادات الذي سيوقع في السنة ذاتها اتفاق وقف إطلاق النار بعد مفوضات مباشرة مع إسرائيل برعاية الرئيس الأمريكي.
ومن الخطوات الممهدة لعقد أول اتفاق عربي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل المشاركة في مؤتمر جنيف برئاسة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لإجراء مفاوضات مباشرة مع دولة الاحتلال. ثم انتظر السادات إلى حدود 9 نوفمبر/تشرين الثاني 1977 ليعرب عن نيته الذهاب إلى إسرائيل، إذ قال في تصريح صادم في مجلس الشعب المصري: “إنني على استعداد أن أذهب إلى آخر الأرض إذا كان ذلك سيمنع إراقة دم جندي واحد من أبنائي.. ستُدهش إسرائيل عندما تسمعني أقول الآن أمامكم إنني مستعد أن أذهب إلى بيتهم إلى الكنيست ذاته ومناقشتهم”، وهي الإشارة التي تلقاها مناحيم بيغن فوجه له دعوة رسمية بعد زهاء 6 أيام. وبالتالي وصل السادات يوم 19 نوفمبر/تشرين الثاني إلى القدس المحتلة، حيث أجرى محادثات مع رئيس الحكومة الإسرائيلية، ونادى بالكنيست إلى إبرام “سلام عادل ودائم” بالمنطقة.
جدير بالذكر أنه بعد خمسة أيام من التصديق على معاهدة تطبيع العلاقات المثيرة للجدل بين مصر وإسرائيل، اجتمع الزعماء العرب ببغداد يوم 31 مارس/ آذار سنة 1979، وقرروا طرد بلاد الكنانة من جامعة الدول العربية؛ ليتم إثر القرار نقل أمانة الجامعة من مقرها في القاهرة إلى تونس العاصمة. وبعد عامين، وفي 6 أكتوبر/تشرين الأول سنة 1981، اغتيل السادات كنتيجة لقرار التطبيع الذي أثار غضبا عارما في الأوساط الشعبية العربية.
وبعد السادات، لم تستنكف الدولة المصرية عن سياسة مد يد تطبيع العلاقات مع إسرائيل، إذ استمر الرئيس الراحل حسني مبارك خلال ثلاثين عاماً من فترة حكمه في صون العلاقات “الجيدة” مع تل أبيب، رغم عمله على استرجاع العلاقات العربية المقطوعة مع مصر، ما توج بعودة مقر الجامعة العربية إلى العاصمة المصرية؛ كما أصبح ثاني رئيس عربي يحل بالقدس المحتلة، وذلك في نوفمبر من سنة 1995 لحضور جنازة رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إسحاق رابين؛ لكن بعد إسقاطه سنة 2011، ذكرت وثيقة أميركية أن مطار بن غوريون الإسرائيلي سجل دخوله إلى إسرائيل 6 مرات.
كما وافق مبارك، الذي وصفه نتنياهو عقب وفاته بأنه كان صديقا شخصيا له، عام 1999، على ضخ الغاز الطبيعي المصري إلى إسرائيل؛ ويسجل على فترة حكمه أيضا توقيع اتفاقية “الكويز” مع تل أبيب وواشنطن عام 2004، على غرار ما قامت به الأردن، وتقضي بإمكانية تصدير السلع إلى الأسواق الأميركية وخاصة الملابس، شرط ضمها مكونا إسرائيليا بنسبة 10.5% على الأقل.
وحتى بعد الثورة التي أطاحت بحكم الرئيس مبارك في سياق ما سمي “الربيع العربي”، وجاءت بزعيم الإخوان المسلمين الراحل محمد مرسي رئيسا منتخبا، خاب أمل فئات واسعة من الشعبين المصري والفلسطيني، والشعب العربي عامة، إثر الرسالة المثيرة للجدل التي بعثها الأخير إلى رئيس الحكومة الإسرائيلية شمعون بيريز، خاطبه فيها بالقول: “عزيزي وصديقي العظيم”؛ كما جاء في نصها أن مرسي “يتطلع إلى بذل أقصى جهد لإعادة عملية السلام في الشرق الأوسط إلى مسارها الصحيح”.
كما أن الرئيس مرسي، ورغم قصر مدته رئاسته التي أنهاها الانقلاب الذي قاده الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي، سبق وتعهد بالحفاظ على اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، رغم اختياره عدم التعامل بشكل مباشر مع إسرائيل منذ تقلده الحكم كأول رئيس لمصر بمرجعية إسلامية.
وبعد الإطاحة بحكم مرسي بانقلاب عسكري محبوك، شدد الرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي على حرصه على حماية أمن إسرائيل واحترام معاهدة السلام التي تجمع الطرفين، إذ قال في تصريح صحافي سنة 2014 إنه لن يقبل أن تكون مصر قاعدة خلفية لتهديد أمن تل أبيب، وإن اتفاقية السلام تحمل فرصة لتحقيق واقع “هائل وعظيم”، على حد وصفه.
وكدليل على تعزيز العلاقات المصرية الإسرائيلية، تجدر الإشارة إلى أن المبلغ الإجمالي لصادرات إسرائيل إلى مصر بلغ عام 2015 نحو 113.1 مليون دولار، كما بلغ 147.1 مليون دولار سنة 2014، حسب موقع الخارجية الإسرائيلية.
وفي خضم ما كشفته صحيفة “معاريف” الإسرائيلية بخصوص زيارة متوقعة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى القاهرة، يلتقي خلالها الرئيس عبد الفتاح السيسي، خلال الأسابيع المقبلة، تجدر الإشارة أيضا إلى الخبر الذي سربه موشيه كحلون، وزير المالية الإسرائيلي، عن لقاء الرئيسين سرا في فترة سابقة، لبحث وقف إطلاق نار طويل الأمد في قطاع غزة.