مدر: 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2021
كان توماس سانكارا ينظر إلى المديونية العالمية على أنها أداة لنهب ثروات الشعوب، إذ تجبر البلدان الفقيرة على دفع مبالغ طائلة إلى المستعمرين القدامى..
تحل اليوم 15 تشرين الأول/ أكتوبر، الذكرى 34 لاغتيال توماس سانكارا الزعيم الثوري من بوركينا فاسو، والذي مازال يمثل رمزا للحركة المناضلة ضد الرأسمالية، الاستعمار والعنصرية.
ولد سانكار في الـ 21 من أيلول/ ديسمبر 1949، في منطقة ياكو، وجرى اغتياله في مثل هذا اليوم، 15 تشرين الأول/ أكتوبر سنة 1987، بواغادوغو، عاصمة بوركينا فاسو، لقّب بـ ” تشي غيفارا أفريقيا”، وكان رمزا للوحدة الإفريقية. فبعد مساره في الجيش، ومعانقته الماركسية اللينينية، أصبح سنة 1983 رئيسا للبلد الذي كان يعرف بفولتا العليا وغير اسمه إلى بوركينا فاسو، وبعد فترة حكمه القصيرة، لكن المليئة بالإنجازات، جرى اغتياله بعيد الإنقلاب على النظام الاجتماعي الديموقراطي البوركينابي.
تطورت أفكار سانكارا، في خضم تجربته العسكرية في القارة الإفريقية، ففي سنة 1970، أرسل إلى مدغشقر لتدريب الضباط، وهناك كان شاهدا على انتفاضات شعبية طلابية وعمالية، انتهت إلى الإطاحة بالحكومة، فتعرف على الأفكار الشيوعية والماركسية؛ وقبل أن يرجع إلى فولتا العليا، التحق بأكاديمية المظليين في فرنسا سنة 1972، حيث ازداد احتكاكه بالفكر اليساري، وسنة 1974، حظي الضابط الشاب بتقدير كبير من قبل الرأي العام في بلده، جرّاء أدائه الذي وصف بـ “البطولي” في الحرب الحدودية التي شبت مع الجارة الشمالية، مالي، لكن وبعد سنوات، أعلن توماس سانكارا نبذ الحرب، واعتبرها “غير مجدية وغير عادلة”.
لم يكن “تشي غيفارا أفريقيا” ليغمض عينيه عن الإضرابات العمالية التي هزت بلده بداية الثمانينات، أما الأزمة الداخلية للنظام، فعجّلت بحدوث انقلابات عسكرية سرعان ما أسقطت نظام الحكم، وحملت سانكارا إلى الحكومة.
ساهمت الإنجازات العسكرية لسانكارا وشخصيته الكاريزمية في جعله خيارا لا مناص عنه في تحمل المسؤوليات، غير أن نزاهته واستقامته وضعته على خلاف دائم مع قيادات الحكومات العسكرية، التي تعاقبت على السلطة، مما أدى إلى اعتقاله عدة مرات.
وفي كانون الثاني سنة 1983، تم اختيار القائد الشاب لمنصب رئيس وزراء مجلس إنقاذ الشعب الذي كان يرأسه حينها بابتيست ويدراوغو، ما أتاح له التعرف بعمق على السياسة الدولية، كما وجد الفرصة للالتقاء بقادة حركة عدم الانحياز، بما في ذلك الثوري الكوبي فيدل كاسترو الذي ترك الأثر البليغ في شخصيته وأفكاره. أما مواقف سانكارا المناهضة للإمبريالية وشعبيته المتزايدة، فلم تكن تروق قادة مجلس إنقاذ الشعب، فتمت إقالته في مايو/ أيار من السنة ذاتها، واعتقل مرة أخرى.
وكان عليه أن ينتظر بضع أشهر، حتى قاد زميله السابق في الجيش بليز كومباوري انقلابا عسكريا في أغسطس/ غشت 1983، فأطيح بويدراغو، وشكل المجلس الوطني للثورة، الذي ترأسه سانكارا.
وأصبح توماس سانكارا، عن عمر يناهز الـ 33 سنة رئيسا لفولتا العليا، ليبصم على سياسات جديدة، في مواجهة الارتهان للأجنبي، والفقر والموت الذين كانا يفتكان بالشعب.
وأعلن الرئيس الماركسي اللينيني أهداف “الثورة الديمقراطية والشعبية“، التي ركزت في المقام الأول على القضاء على الفساد، وأقام “المحاكم الشعبية” في حق الفاسدين والمسؤولين الحكوميين في النظام البائد، كما سعى إلى إحقاق حقوق النساء، والرفع من والولوجية إلى التعليم والرعاية الصحية، مع الهدف الأكبر المتمثل في القضاء على الهيمنة الإمبريالية.
دافع الرئيس حينها عن السياسة المرتكزة على الذات، وتجنب الإستيراد من البلدان الأجنبية، كما قاد حملات تلقيح واسعة ضد الأمراض، ما خفض بشكل كبير من الوفيات في صفوف الأطفال. وعلى المستوى البيئي، فغرس سانكار 10 ملايين شجرة في محاولة فريدة على صعيد القارة السمراء حينها، لمواجهة التدهور البيئي والتصحر.
وبعد سنة من توليه الحكم، قام توماس سانكارا بتغيير اسم الدولة من فولتا العليا إلى بوركينا فاسو، والتي تعني “أرض الناس النزهاء” أو “أرض الشعب المستقيم، حسب لغتي “موسي” و”ديولا” الأصليتين والمنتشرتين في أرجاء البلاد.
وفي هذا السياق، يرى البروفيسور جوزيف كي زيربو، أن سياسة التنمية المرتكزة على الذات، التي قادها الشاب ذو الكاريزما القوية، كانت في صلب الثورة السانكارية التي “مثلت واحدة من أعظم محاولات التحرر الشعبي والديمقراطي في إفريقيا ما بعد الاستقلال”، ويرى الأكاديمي أن هذا هو السبب الذي يجعلها تعتبر تجربة فريدة للتحول الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي العميق، كما يتضح من التعبئة الجماهيرية لجعل الناس يتحملون مسؤولية الاستجابة لاحتياجاتهم الخاص، مع إقامة البنية التحتية (السدود ، الخزانات، الآبار، الطرق و المدارس) من خلال مبدأ “الاعتماد على الإمكانيات الذاتية”.
وحسب المصدر نفسه، فقد ارتكز نهج سانكار على المشاركة الشعبية في السياسة بهدف تغيير الأحوال الحياتية للأفراد، بالإضافة إلى تحرر النساء وإشراكهن في عملية التنمية، زيادة على استخدام الدولة كأداة لتحقيق التحول الاقتصادي والاجتماعي.
وفي اللحظة التي تحتاج فيها إفريقيا إلى سياسات تنمية ملحة، نستحضر مقولة لتوماس سانكارا وهو يتحدث عن معنى مطالبة الشعب البوركينابي بتنمية بلده، إذ قال: “الأهم، على ما أعتقد، هو منح الناس الثقة في أنفسهم، لفهم أنه في النهاية يمكنهم الجلوس والكتابة عن تطورهم، يمكنهم الجلوس والكتابة عن سعادتهم، ويمكنهم أن يقولوا ما يريدون، وفي الوقت نفسه، يفهموا الثمن الذي يجب دفعه مقابل هذه السعادة”.
وخلال فترة حكمه، حاول الثائر الشاب، الوقوف في وجه المجاعة، وشجع الاكتفاء الذاتي الزراعي واستصلاح الأراضي، كما أعطى الأولوية لبرامج محو الأمية، وقامت الدولة بتطعيم 2.5 مليون طفل ضد التهاب السحايا والحمى الصفراء والحصبة؛ وجرّاء ذلك، أصبحت “أرض الناس النزهاء”، أول دولة تحقق الاكتفاء الذاتي في القارة السمراء، خصوصا في النتاج، كما شيدت مئات الكيلومترات من الطرق والسكك الحديدية، من أجل فك العزلة عن الأرياف، بينما تم إنشاء المستوصفات والمدارس في مختلف أرجاء البلاد.
ويعد توماس سانكارا أول رئيس يمنع ختان الإناث وزواج القاصرات كما قام بتعيين نساء في مناصب حكومية عليا، فبالنسبة له فإن “الثورة وتحرر المرأة يسيران معاً”، ويقول في هذا السياق: “نحن لا نتحدث عن تحرر المرأة كعمل من الأعمال الخيرية أو بسبب موجة من التعاطف الإنساني. بل إن حقوق المرأة هي ضرورة أساسية من أجل انتصار الثورة، إن النساء نصف السماء”.
وعارض المناضل الأفريقاني بشدة جرائم الكيان الإسرائيلي وطالب بإلغاء عضويته في الأمم المتحدة، بل ووضعه على قدم المساواة مع نظام الأبرتهايد في جنوب إفريقيا، وهو ما عبر عنه صراحة في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة سنة 1984، والذي مازال يتردد صداه حتى اليوم.
كان ينظر توماس سانكارا إلى المديونية العالمية على أنها شكل لنهب ثروات الشعوب، إذ تجبر البلدان الفقيرة على دفع مبالغ طائلة إلى المستعمرين القدامى، وبالتالي فإن النضال ضدها يدخل في صلب النضال ضد الاستعمار والرأسمالية.
وعلى الرغم من الإنجازات الهائلة التي حققها سانكارا وهو على رأس الدولة، إلا أن سياسته أغضبت المحافظين وزعماء القبائل الذين وجدوا أنفسهم يفقدون صلاحياتهم القديمة، مقابل حصول الفلاحين الفقراء على الأراضي؛ كما ألهمت أيقونة سانكارا، الشباب الإفريقي المتعطش للحرية والإنعتاق، ما زرع الرعب في نفوس القادة الأفارقة المناهضين لشعوبهم والمتحالفين معهم من القوى الإستعمارية الغربية؛ وفي 15 تشرين الأول/ أكتوبر 1987، تم اغتيال سانكارا و12 من رفاقه، على يد “كوماندوس” في مقر المجلس الوطني للثورة في العاصمة واغادوغو، بعد انقلاب عسكري قاده بليز كومباوري، والذي جثم على السلطة لـ 27 سنة، إلى أن أسقطته انتفاضة شعبية سنة 2014.
وخلال هذا الأسبوع، انطلقت محاكمة تاريخية للرئيس السابق كومباوري و13 آخرين في شأن قضية اغتيال سانكارا. ويواجه الرئيس السابق ورئيس جهازه الأمني السابق، الجنرال جيلبرت دينديري، اتهامات بالتواطؤ في القتل والإضرار بأمن الدولة والتواطؤ في إخفاء الجثث.
وفي هذا السياق، قالت ألونا تراوري، رفيقة سانكارا والناجية من انقلاب عام 1987 ، في مقابلة تلفزيونية “ستمثل المحاكمة نهاية كل الكذب – سنحصل على شكل من أشكال الحقيقة”، واستدركت “لكن المحاكمة لن تكون قادرة على استعادة حلمنا”.