معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 26 تموز/ يوليو 2024*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: خوسيه كليمنتي أوروزكو (المكسيك)، ملحمة الحضارة الأمريكية، 1932-1934.
استخدم دونالد ترامب، في خطاب تنصيبه الرئاسي في 20 يناير/كانون الثاني 2017، عبارة قوية لوصف الوضع في الولايات المتحدة: ”المذبحة الأمريكية“. في عام 1941، أي قبل ستة وسبعين عامًا من هذا الخطاب، كتب هنري لوس مقالاً في مجلة “لايف” عن ”القرن الأمريكي“ وعن الوعد بأن تكون الولايات المتحدة ”المركز الديناميكي لميادين المشاريع الآخذة في الاتساع”. خلال الفترة ما بين هذين التصريحين، مرت الولايات المتحدة بتوسع هائل عُرف بـ ”العصر الذهبي“ ثم شهدت تراجعاً ملحوظاً.
عاد موضوع هذا التراجع إلى الواجهة في حملة ترامب الرئاسية لسنة 2024، إذ صرّح أثناء المؤتمر الوطني للحزب الجمهوري في 19 تموز/ يوليو في خطابه لقبول ترشيح حزبه للرئاسة “لن نسمح لبلدان أن تأتي وتأخذ وظائفنا وتنهب أمتنا”. وجاءت كلمات ترامب كصدى لخطاب تنصيبه في عام 2017 الذي قال فيه: ”لقد جعلنا دولًا أخرى غنية بينما اختفت ثروة بلادنا وقوتها وثقتها في الأفق“.
تراجعت الصورة الذاتية للولايات المتحدة الأمريكية خلال سبعة عقود، من مرتفعات ”القرن الأمريكي“ الفخمة إلى حاضر ”المذبحة الأمريكية“ الملطخة بالدماء. ولا تنحصر ”المذبحة“ التي يحددها ترامب في المجال الاقتصادي فحسب، بل إنها تحدد الساحة السياسية. تأتي محاولة الاغتيال الفاشلة ضد ترامب تزامنا مع التمرد المفتوح في الحزب الديمقراطي الذي انتهى بانسحاب الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من السباق الرئاسي وتأييد نائبة الرئيس كامالا هاريس كبديل له. وحسب كل الحسابات، سيكون ترامب هو الأوفر حظًا لهزيمة أي مرشح ديمقراطي في الانتخابات الرئاسية في تشرين الثاني/ نوفمبر، نظرًا لتقدمه في بعض ”الولايات المتأرجحة“ الرئيسية (التي تضم خُمس سكان الولايات المتحدة).
حاول ترامب خلال المؤتمر الجمهوري الحديث عن الوحدة، ولكن هذه لغة مظللة. فكلما تحدث السياسيون الأمريكيون عن ”لمّ شمل البلاد“ أو عن الوحدة بين الحزبين، كلما اتسعت الفجوة بين الليبراليين والمحافظين. ولكن ما يفرق بينهما ليس السياسة في حد ذاتها، حيث ينتمي كلا الحزبين إلى الوسط المتطرف الملتزم بفرض التقشف على الجماهير مع تأمين الأمن المالي للطبقات المهيمنة، بل الموقف والتوجه. وتلعب بعض السياسات المحلية (رغم أهميتها، مثل حقوق الإجهاض) دورًا رئيسيًا في السماح لهذا الاختلاف في المزاج بالبروز.
تتسرب التقارير والشائعات من وثائق الحكومة الأمريكية التي تقدم لمحة عن الخراب المستمر للحياة الاجتماعية. ويجد الشباب أنفسهم تحت رحمة الشغل غير المستقر. وتستمر عمليات حجز المساكن وإخلاء أصحابها من ذوي الدخل المحدود، مع استمرار مأموري الشرطة والقوات شبه الأمنية لاسترداد الديون في البحث عن من يسمون بالمتأخرين في السداد. وقد ارتفعت الديون الشخصية بشكل كبير، إذ يلجأ الناس العاديون الذين لا يملكون وسائل كافية لكسب العيش إلى بطاقات الائتمان وعالم وكالات القروض الشخصية المشبوهة للحيلولة دون التضور جوعًا. وقد جعل الكساد الكبير الثالث عمال الخدمات ذوي الأجور المنخفضة الذين لا يحصلون على مزايا، ومعظمهم من النساء، أكثر ضعفًا. وفي حالات سابقة من الكساد الاقتصادي، كانت هؤلاء النساء اللواتي كن يزاولن هذه المهن تسع قلوبهن غير المرئية أسرهن؛ أما الآن، حتى هذا الصمغ الذي يغذيه الحب لم يعد متاحًا.
أصدر صندوق النقد الدولي، في 18 يوليو/تموز، تقرير فريقه حول الولايات المتحدة، الذي أظهر أن معدلات الفقر في البلاد ”زادت بنسبة 4.6 نقطة مئوية في عام 2022، كما ارتفع معدل فقر الأطفال بأكثر من الضعف“. وكتب صندوق النقد الدولي أن هذه الزيادة في فقر الأطفال ”تُعزى بشكل مباشر إلى انتهاء صلاحية المساعدات التي كانت تقدم في عهد الجائحة“. ولم تعد أي حكومة في الولايات المتحدة، مع اقتصادها المتراجع وإنفاقها العسكري المتزايد، توفر الشروط الأساسية للبقاء على قيد الحياة لملايين الأسر. وقد استوقفتني فقرة واحدة في التقرير لما لها من أهمية خاصة:
يصبح الضغط المتزايد على الأسر ذات الدخل المنخفض أكثر وضوحًا من خلال ارتفاع حالات التأخر في سداد الائتمان المتجدد. وعلاوة على ذلك، أدى تدهور القدرة على تحمل تكاليف السكن إلى تفاقم مشكلة الحصول على المأوى، لا سيما بالنسبة للأسر الشابة والأسر ذات الدخل المنخفض.
ويتضح ذلك في عدد الأشخاص الذين يعانون من التشرد، والذي ارتفع إلى أعلى مستوى منذ بدء تجميع البيانات في عام 2007.
قطاعات واسعة في الولايات المتحدة أصبحت الآن في حالة خراب: المصانع المهجورة تجعل المكان مناسبا لطيور السنونو بينما المزارع القديمة تصبح مختبرات للميثامفيتامين. هناك حزن في الأحلام الريفية المحطمة، والفجوة بين ضائقة المزارعين في ولاية أيوا ليست بعيدة عن ضائقة الفلاحين في البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. أولئك الذين كانوا يعملون في السابق في الإنتاج الصناعي الضخم أو في الزراعة لم يعودوا ضروريين لدورات تراكم رأس المال في الولايات المتحدة. لقد أصبحوا غير قابلين للاستخدام.
بحلول الوقت الذي طورت فيه الصين مبادرة الحزام والطريق لتعزيز البنية التحتية حول العالم سنة 2013، كانت الولايات المتحدة قد انزلقت إلى حزام الصدأ وواقع الطريق المكسور الخاصين بها.
من المستحيل على الطبقة السياسية الأمريكية الملتزمة بسياسات التقشف هذه أن تسيطر على هذه الدوامة الانحدارية، فما بالك بعكس مسارها. فسياسات التقشف تفكك الحياة الاجتماعية، وتهدم كل ما يجعل من الممكن للبشر العيش في العالم الحديث. لقد كتم الحزبان الليبرالي والمحافظ لعقود من الزمن تقاليدهما التاريخية وأصبح كل منهما ظلاً للآخر. تمامًا كما تتدفق المياه في المرحاض في دوامة وتندفع في المجاري، اندفعت أحزاب الطبقة الحاكمة نحو الوسط المتطرف لمناصرة التقشف والسماح بتوزيع فاحش للثروة بشكل تصاعدي باسم تحفيز روح المبادرة والنمو.
وسواء في أوروبا أو في أمريكا الشمالية، يفقد الوسط المتطرف اليوم شرعيته بشكل متزايد بين شعوب الشمال العالمي التي تعاني من الضيق. فالمقترحات القبيحة المزعوم أنها تسعى إلى تحفيز النمو والتي كانت ستبدو مقبولة قبل ثلاثة عقود – مثل التخفيضات الضريبية وزيادة الإنفاق العسكري – أصبحت جوفاء الآن. فالطبقة السياسية لا تملك إجابات فعالة لركود النمو وتآكل البنية التحتية. وفي الولايات المتحدة، توصّل ترامب إلى طريقة سياسية ملائمة للحديث عن مشاكل البلاد، لكن الحلول التي يقترحها – مثل فكرة أن عسكرة الحدود وتصعيد الحروب التجارية ستخلق بطريقة سحرية الاستثمارات اللازمة “لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى” – هي في الواقع جوفاء تمامًا مثل تلك التي طرحها منافسوه. فعلى الرغم من سن مجموعة من القوانين لتشجيع الاستثمار الإنتاجي (مثل قانون الحد من التضخم، وقانون خلق حوافز مفيدة لإنتاج أشباه الموصلات [CHIPS] والعلوم، وقانون الاستثمار في البنية التحتية والوظائف)، فشلت الحكومة الأمريكية في معالجة الفجوة الهائلة في تكوين رأس المال الثابت الضروري. وبصرف النظر عن الديون، هناك مصادر أخرى قليلة للاستثمار في البنية التحتية للبلاد. وحتى بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يشك في إمكانية أن تتمكن الولايات المتحدة من فصل اقتصادها بسهولة عن اقتصاد الصين المزدهر.
من المغري إلقاء كلمات مثل ”الفاشية“ لوصف الاتجاهات السياسية كتلك التي يقودها ترامب ومجموعة متنوعة من القادة اليمينيين في أوروبا. لكن استخدام هذا المصطلح ليس دقيقًا، لأنه يتجاهل حقيقة أن ترامب وغيره يشكلون يمينًا متطرفًا من نوع خاص، يمينًا مرتاحًا إلى حد معقول للمؤسسات الديمقراطية. ويخترق هذا اليمين المتطرف الخطاب النيوليبرالي من خلال استحضار الألم الناجم عن تراجع بلدانهم واستخدام لغة وطنية تثير مشاعر قومية كبيرة لدى الناس الذين شعروا بأنهم ”مهملون“ منذ جيل على الأقل. ولكن، وبدلًا من إلقاء اللوم على مشروع الليبرالية الجديدة في هذا التراجع الوطني، فإن قادة هذا اليمين المتطرف من نوع خاص يلقون اللوم على المهاجرين من الطبقة العاملة وعلى الأشكال الثقافية الجديدة التي ظهرت في بلدانهم (خاصةً القبول الاجتماعي المتزايد للمساواة بين الجنسين والمساواة العرقية والحرية الجنسية). وبما أن هذا اليمين المتطرف ليس لديه مشروع جديد يقدمه للشعب لعكس هذا التراجع، فإنه يمضي قدمًا في السياسات الليبرالية الجديدة بنفس الحماسة التي يبديها الوسط المتطرف.
وفي الوقت نفسه، وفي ظل عجز قوى الليبرالية المنهكة عن إحداث قطيعة مع الوسط المتطرف، لا تملك إلا أن تصرخ بأنها بديل أفضل من اليمين المتطرف. وهذا خيار معيب أدى إلى تضييق الحياة السياسية إلى جوانب مختلفة من الوسط المتطرف. والواقع أن الانفصال الحقيقي عن المذبحة أمر ضروري. ولا يمكن لأي من اليمين المتطرف من نوع خاص أو الليبرالية أن يوفر هذا الانفصال.
نشر الاقتصادي جوزيف شومبيتر، سنة 1942، كتاب ”الرأسمالية، الاشتراكية والديمقراطية“. حاجج شومبيتر بأن الرأسمالية على مدار تاريخها قد ولدت سلسلة من الانكماشات التجارية عندما أغلقت الشركات الفاشلة. وقال شومبيتر إنه في رماد هذه الانهيارات، يولد طائر الفينيق من خلال ”التدمير الخلاق“. ومع ذلك، حتى لو أنتج ”التدمير الخلاق“ في نهاية المطاف خطوطًا جديدة من المشاريع وبالتالي فرص عمل، فإن المذبحة التي يسببها تؤدي إلى إمكانية التحول السياسي إلى الاشتراكية. وعلى الرغم من أن المسيرة نحو الاشتراكية لم تحدث بعد في الولايات المتحدة، إلا أن أعدادًا متزايدة من الشباب تنجذب أكثر فأكثر إلى هذا الخيار.
قال مارتن لوثر كينغ الابن، في الليلة التي سبقت مقتله، سنة 1968: ”فقط عندما يحل الظلام بما فيه الكفاية يمكنك رؤية النجوم“. تبدو الآن مظلمة بما فيه الكفاية. ربما ليس في هذه الانتخابات أو الانتخابات القادمة، أو حتى الانتخابات التي تليها، ولكن سرعان ما ستضيق الخيارات، وسيختفي الوسط المتطرف – غير الشرعي أصلاً – وستنبت مشاريع جديدة من شأنها تحسين حياة الناس بدلاً من استخدام الثروة الاجتماعية للشمال العالمي لإرهاب العالم وإثراء القلة. يمكننا أن نرى تلك النجوم. وتسعى الأيدي للوصول إليها.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 25 تموز/ يوليو 2024.