المراسلة 36: ليس إلا بسبب الفوضى المتزايدة

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الإجتماعي/ مدار: 17 تشرين الثاني/ نونبر 2021

فيجاي براشاد

تشيبومباكاندا-ماتولو (جمهورية الكونغو الديمقراطية)، شهداء اتحاد مينيير دو أوت كاتانغا في الاستاد المعروف سابقاً باسم “ألبيرت الأول” والذي يسمى الآن “موبوتو”، بلدة كينيا، لوبومباشي، 1975.

تحدثت قبل بضعة أيام إلى مسؤولة كبيرة في منظمة الصحة العالمية، سألتها إذا ما كانت تعرف عدد الأشخاص الذين يعيشون على كوكبنا وهم حفاة بلا أحذية.  كان السبب وراء سؤالي هذا هو أنني كنت أتساءل عن داء التنغية، وهو مرض ناجم عن العدوى التي يسببها دخول أنثى برغوث الرمل (Tunga penetrans) تحت الجلد. إن لهذه المشكلة مجموعة متنوعة من الأسماء في العديد من اللغات المختلفة –مثل jigger أو chigoe ومثل niguá (بالإسبانية) أو bicho do pé (بالبرتغالية) أو funza (بالسواحلية) أو tukutuku (بالزاندية). إنها لمشكلة رهيبة تشوه القدمين وتجعل الحركة صعبة، وقد تمنع الأحذية هذه الحشرات من اختراق الجلد. لم تكن متأكدة من العدد، لكنها افترضت أن ما لا يقل عن مليار شخص يعيشون بدون أحذية. إن داء التنغية مرض واحد فقط من بين العديد من الأمراض التي يسببها نقص الوصول إلى الأحذية، مع أمراض أخرى مثل مرض Podoconiosis تصيب الأشخاص الذين يمشون على تربة طينية بركانية حمراء تشعل أقدامهم في أمريكا الوسطى والمرتفعات الإفريقية والهند.

هنالك مليار شخص بدون أحذية في القرن الحادي والعشرين، مئات الملايين منهم أطفال، والكثير من هؤلاء الأطفال غير قادرين على الذهاب إلى المدرسة بسبب نقص الأحذية. ومع ذلك تنتج صناعة الأحذية العالمية 24.3 مليار زوج من الأحذية سنوياً، أي ثلاثة أزواج من الأحذية لكل شخص على هذا الكوكب. هنالك أموال كثيرة في صناعة الأحذية: على الرغم من أزمة جائحة كورونا، قُدرت السوق العالمية للأحذية بـ 384.2 مليار دولار (2020)، من المتوقع أن تنمو إلى 440 مليار دولار (2026). ويعيش المستهلكون الرئيسيون للأحذية في الولايات المتحدة واليابان وألمانيا والمملكة المتحدة وفرنسا وإيطاليا، بينما يعيش المنتجون الرئيسيون للأحذية في الصين والهند والبرازيل وإيطاليا وفيتنام وإندونيسيا والمكسيك وتايلاند وتركيا وإسبانيا. إن الكثير من أولئك الذين ينتجون الأحذية في بلد مثل الهند لا يستطيعون شراء الأحذية التي ينتجونها، ولا حتى أرخص أحذية النعال المتوفرة في السوق. هناك ما يكفي من الأحذية في السوق، ولكن لا يوجد ما يكفي من المال في أيدي مئات الملايين من الناس لشرائها.. إنهم يعملون وينتجون، لكنهم لا يستطيعون تحمل استهلاك يكفي لحياة كريمة.

باباك كاظمي (إيران)، خروج شيرين وفرهاد، 2012.

أصدر البنك الدولي في يونيو 2021 تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية، الذي أفاد بزيادة الفقر “لأول مرة منذ جيل”. كتب محللو البنك أن “جائحة كورونا من المقرر أن تتسبب في أضرار دائمة على الظروف المعيشية للسكان الأكثر ضعفاً”. في البلدان منخفضة الدخل، يواجه 112 مليون شخص بالفعل انعدام الأمن الغذائي.

وأشار التقرير ذاته إلى أن “الجائحة ستؤدي أيضاً إلى تفاقم عدم المساواة في الدخل وبين الجنسين، نظراً لتأثيرها السلبي الهائل على النساء والأطفال والعاملين غير المهرة وغير الرسميين، فضلاً عن آثارها السلبية على التعليم والصحة ومستويات المعيشة”.

قبل الجائحة، كان 1.3 مليار شخص يعيشون في فقر متعدد الأبعاد ومستمر، وقد تفاقم حرمانهم بسبب الطريقة التي تعاملت بها الحكومات والشركات مع الوباء. إن 85% من الفقراء فقرا مدقعا في العالم يعيشون في جنوب آسيا وإفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ويعيش نصفهم في خمسة بلدان فقط: الهند ونيجيريا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وإثيوبيا وبنغلاديش. يقدر البنك الدولي أن ملياري شخص يعيشون تحت خط الفقر المجتمعي (بمعنى أن ازدهار الاقتصادات يؤخذ في الاعتبار عند قياس خط الفقر).

رونالد فينتورا (الفلبين)، مفترق طرق إلى اللامكان، 2014.

أشار العام الماضي تقرير البنك الدولي البارز بعنوان: الفقر والرخاء المشترك 2020: انعكاسات الثروة، إلى أن “الأشخاص الفقراء والضعفاء بالفعل يتحملون وطأة الأزمة”، وشدد على دور جائحة كورونا في ارتفاع مستويات الفقر، لكنه أضاف إلى ذلك الأثر السلبي لتغير المناخ والنزاعات.

 ووفقًا لبيانات البنك الدولي فإن الفقراء “مازالوا في الغالب من سكان الريف والشباب وغير المتعلمين”، إذ يعيش أربعة من كل خمسة أشخاص تحت خط الفقر الدولي في المناطق الريفية. إن النساء والفتيات ممثلات تمثيلاً زائدا بين الفقراء والجياع. وبناءً على هذا التحليل، يحث البنك الدولي الحكومات على تعزيز تدابير الرعاية الاجتماعية لتوفير الإغاثة للعاطلين عن العمل والعاملين الفقراء. لكن ليس لدى البنك ما يقوله للعمال الزراعيين وصغار المزارعين أو العمال غير الرسميين، الذين لا يحصل عملهم المنتج سوى على القليل من التعويض. هذا هو السبب وراء وجود مئات الملايين منهم – في أماكن مثل الهند، كما يشير ملفنا رقم 41 – في خضمّ ثورة كبرى.

داويت أبيبي (إثيوبيا)، الخلفية 2، 2014.

لم يشر أي تقرير للبنك الدولي إلى أي مسار واضح يمكّننا جميعاً من الخروج من هذه الكارثة. إن اللغة المستخدمة في استنتاجات هذه التقارير فاترة ومكتومة. يشير تقرير البنك الدولي إلى أنه “يجب أن نلتزم بالعمل معاً والعمل بشكل أفضل”. لا شك أن التعاون ضروري، لكن التعاون بشأن ماذا ولأجل من وكيف؟ بالنظر إلى بعض الحزم المقدمة في بلدان مثل إندونيسيا، يقدم البنك الدولي مجموعة من خيارات السياسات:

1. تعزيز قطاع الرعاية الصحية.

2. زيادة برامج الحماية الاجتماعية للأسر ذات الدخل المنخفض على شكل تحويلات نقدية ودعم للكهرباء ومساعدات غذائية، وكذلك توسيع مزايا البطالة للعاملين في القطاع غير الرسمي.

3. تنفيذ الاستقطاعات الضريبية.

إن هذه لإجراءات جذابة، فهي مطالب أساسية للحركات الاجتماعية حول العالم. تشكل هذه المطالب جزءاً من البرنامج الصيني للتخفيف من حدة الفقر الذي يتضمن “ثلاث ضمانات وتأكيدين” – ضمانات السكن الآمن والرعاية الصحية والتعليم، والتأكيدات على المأكل والملبس. لقد تم توثيق هذه كلها بإسهاب في دراستنا حول القضاء على الفقر المدقع في الصين، التي تبحث في كيفية انتشال البلاد 850 مليون شخص من الفقر منذ الثورة الصينية عام 1949، وهو ما يمثل 70 في المائة من إجمالي الحد من الفقر في العالم. إن البنك الدولي، على عكس الحكومة الصينية، يقدم أفكاراً غير مترابطة عندما يدعو إلى تخفيض الضرائب على الشركات كجزء من إطار التخفيف من حدة الفقر!.

إنه لزمن غريب ذاك الذي نعيش فيه، حيث يُطلب منا أن نكون عقلانيين في عالم تسوده الفوضى، فوضى الحرب والفيضانات، والأوبئة من هذا النوع أو ذاك. حتى البنك الدولي يسجل حقيقة أن الاتجاه قد كان، حتى قبل الوباء، نحو الفوضى وانعدام الإنسانية. إن العنان مطلق للفرسان الأربعة في صراع الفناء الحديث: الفقر والحرب واليأس الاجتماعي وتغير المناخ. ليست لدى هذا النظام أي حلول للمشاكل التي يخلقها.

مليار شخص بدون أحذية.

ليلي برنارد (كوبا)،  كارلوتا تقود الشعب (بعد كتاب يوجين ديلاكروا الحرية تقود الشعب، 1830)، 2011.

إن أحد أكبر الجوانب السلبية لتضخم الفظائع التي نعيشها اليوم هو الإحساس بأنه لا يوجد أمر ممكن سوى هذا الكابوس، وأن البدائل لا يمكن تصورها. إن الاستهزاء يدفع جانباً التفكير في مستقبل مختلف. عندما تجري محاولات لخلق مستقبل مختلف – كما هو الحال دائمًا من قبل البشر المرنين – فإن أولئك الذين في السلطة يسعون جاهدين إلى القضاء عليها. ينجرف النظام بلا هوادة نحو الفاشية من الأعلى (لحبس الأشخاص “الذين يمكن التخلص منهم” في السجون والغيتوات)، ونحو الفاشية من الأسفل (لزيادة القوى الاجتماعية الخطيرة العنصرية وكارهة النساء والأجانب). من الأفضل للأقوياء والمالكين أن يتأكدوا من عدم السماح لأي نموذج بديل بالازدهار. إن ذلك قد يشكك في الادعاء بأن ما يحكم العالم الآن هو أبدي وأن التاريخ قد انتهى.

بيرتولت بريخت

بعد أن استولى النازيون على السلطة في ألمانيا، لجأ الكاتب المسرحي بيرتولت بريخت إلى سفينبورغ (الدنمارك). هناك، عام 1934، كتب بريخت قصيدة تشير إلى أن الوقت حان للتركيز على الفوضى وفتح الباب لمستقبل مختلف:

ليس إلا بسبب الفوضى المتزايدة
في مدننا المليئة بالصراع الطبقي 

قرر البعض منا الآن
عدم التحدث بعد الآن عن المدن المطلة على البحر، والثلج على الأسطح، وعن النساء، 
عن رائحة التفاح الناضج في الأقبية، وحواس الجسد… عن كل هذا

الذي يجعل الإنسان مرتحلا وبشريا

بل التحدث في المستقبل عن الفوضى فقط 
وبالتالي نصير أحاديي الجانب، ومختزلين، ومنغمسين في أعمال 
السياسة وفي المفردات الجافة غير المهذبة 
للاقتصاد الديالكتيكي 
بحيث يكون هذا التعايش المروع الضيق 
لتساقط الثلوج (هي ليست باردة فحسب، نعلم ذلك)
والاستغلال، وللجسد المغري، والعدالة الطبقية، لا ينبغي أن يولّد

الموافقة على عالم متعدد الجوانب؛ البهجة في 
تناقضات الحياة الملطخة بالدماء

التي تفهمونها

إن حياتنا ملطخة بالدماء.. إن خيالنا متحجر.. وإن الحاجة إلى كسر هذه الفوضى هائلة. إن الأقدام، المكسوّة منها والعارية، تسير نحو رائحة الفاكهة الناضجة ومشهد المدن المطلة على البحر.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة