مدار: 22 تشرين الأول/ أكتوبر 2024
على مدار عام من العدوان الإسرائيلي على غزة، ورغم أن العدوان هذه المرة حمل جميع صفات الإبادة الجماعية، إلا أن الشعب الفلسطيني لم يتخل عن مقاومته لهذا الواقع، سواء من خلال التشبث بأرضه وعدم الانصياع لمحاولات التهجير المستمر أو من خلال المواجهة مع قوات الاحتلال التي لم تتوقف طيلة العام الماضي.
كان الاحتلال يعول على إطالة العدوان قصد ضرب عزيمة المقاومة الفلسطينية وحملها على القبول بالشروط التي تهدف إلى تصفية جذور القضية، لكن الوضع اختلف تماما بعد أن امتد الصراع إلى عديد البلدان في المنطقة، وسط التوجس من حرب إقليمية تحرق اليابس والأخضر.
ردود ما بعد السابع من أكتوبر
من الصعب مقارنة ما حدث بعد السابع من أكتوبر بأي من الوقائع والأحداث التي سبقت، إذ يعتبر حدثا فريدا بالنسبة للمقاومة ضد الاحتلال، فلطالما كانت المقاومة في فلسطين في مواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي وما يتلقاه من دعم غير مشروط من الدول الغربية، لكن هذه المرة كانت أكثر اختلافا من حيث السياق التاريخي الذي تمت فيه، وما يمكن أن يترتب عليها من نتائج.
في معظم السياقات السابقة كان الفلسطينيون في المجمل يقومون برد الفعل، لكن هذه المرة، ومع اشتداد الحصار والعنف الموجه ضدهم، انتقلوا إلى أخذ زمام المبادرة في التصدي لهذه الاعتداءات في إطار ما يضمنه لهم القانون الدولي في دفاعهم ضد الانتهاكات اليومية، رغم أنهم لم يفلتوا من الوصم بالإرهاب نظير دفاعهم عن أراضيهم ضد الهجمات الوحشية.
لكن سواء بادرت المقاومة في فلسطين أو لم تبادر فلطالما لعبت إسرائيل دور الضحية، من خلال لجوئها إلى الخطاب الديني وخطاب الكراهية واستجداء التعاطف الدولي بمآس لم يكن للفلسطينيين ولا شعوب المنطقة دور فيها، وهو الأمر الذي يجعلها تتلقى دعما غير مشروط في الرفع من ترسانتها والتغطية على جرائم الإبادة التي ترتكبها، وبذلك الاستمرار في المجازر المستمرة على مدى عقود.
لقد كان لما بعد السابع من أكتوبر دور مهم في إيقاف موجة التطبيع التي كانت تتوسع في المنطقة، فمع حجم الجرائم والمجازر التي تنفذها إسرائيل، ومعها حجم الغضب الجماهيري الذي لاقته من شعوب المنطقة، راجعت أو جمدت حكومات بلدان كانت سائرة في طريق تنزيل التطبيع أجندتها وتليين الخطاب من خلال إدانة الجرائم والمناداة بالاعتراف بدولة فلسطين؛ ولو أن الخطاب لم يكن على قدر تطلعات الشعوب لكنه يبقى تحولا أوقف مسارا كان يمكن أن يكون له تأثير على القضية الفلسطينية على المستوى الدولي، من تلميع لصورة الاحتلال وإدامة الوضع الراهن.
هذا التحول في مواقف البلدان كان مدفوعا بالمد الجماهيري الذي شهدته المنطقة ومعه كامل بقاع العالم، من خلال المظاهرات والاحتجاجات المتواصلة ضد سفارات البلدان الداعمة للكيان وضد المؤسسات التي لها علاقات معه. هذا ما تجلى من خلال تنظيم أكبر المظاهرات و التعبئات التضامنية مع الشعب الفلسطيني. وبالتوازي ارتفع منسوب الوعي الشعبي بجذور القضية، ما جعل الشعوب تخرج في عديد البلدان التي تعتبر حكوماتها موالية، بل وداعمة، للكيان الصهيوني، مع أنّ عددا كبيرا منها قوبل بقمع شديد.
هذا القمع لم يزد هذه التظاهرات إلا تمسكا بالمطالب التي رفعت، وفي أوقات كثيرة رفع سقف هذه المطالب، بحيث شهدت عديد البلدان مطالب بوقف الاستثمارات الموجهة لإسرائيل وقطع العلاقات التي تربط الجامعات والمؤسسات العمومية بالاحتلال.
ولعل ما شهدته الولايات المتحدة، التي تعتبر أكبر داعمي جرائم الاحتلال، من اعتصامات ومطالب للجامعات بوقف استثماراتها لإسرائيل أبرز مثال، رغم العقوبات التي تم تسليطها على المحتجين، وهو ما أدى في عديد المرات سواء إلى وقف الاستثمارات أو تجميدها لأمد أو حتى تجنب الإعلان عنها، ما أغضب قيادات الاحتلال التي اعتبرت أن الأمر بمثابة اختراق لأحد أكبر حصون الدعم.
دعوى جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية
مع تزايد جرائم الإبادة، وارتفاع المد الجماهيري المنادي بإدانة إسرائيل، رفعت جنوب إفريقيا في كانون الثاني/ ديسمبر دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل في ما يخص “أعمال الإبادة ضد الشعب الفلسطيني”، وسط حملات الدعم والتأييد الرسمي والشعبي للدعوى.
وقالت المحكمة التي يوجد مقرها في لاهاي بالأراضي المنخفضة، في بيان، إن “الطلب المقدم يتعلق بانتهاكات إسرائيل المزعومة لالتزاماتها، بموجب اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية، والمعاقبة عليها، في ما يتعلق بالفلسطينيين في قطاع غزة”.
وهذا في وقت وقف الطرف النقيض، ودون أي مفاجآت، مدعوما بالولايات المتحدة ضد الدعوى القضائية “غير العادلة” من منظورها.
وهو ما رأت فيه قوى فلسطينية، كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، أنه “حان الأوان أن تتخلى هذه المؤسسات عن تقاعسها وتواطئها عبر اتخاذ قرارات نافذة لوقف العدوان، ومحاكمة قادة الاحتلال الصهاينة كمجرمي الحرب أمام محكمة الجنايات الدولية، وكل من شاركهم وساندهم وأعطاهم الضوء الأخضر في مواصلة حرب الإبادة بحق الشعب الفلسطيني”.
أقرت المحكمة في جلسة لاحقة “تدابير مؤقتة” للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني، مع العلم أن الأمر الصادر عن محكمة العدل الدولية هو نهائي ولا يمكن استئنافه. وأمهلت محكمة العدل الدولية إسرائيل شهرا لإظهار أنها اتخذت إجراءات لحماية الفلسطينيين، وإذا ما فشلت في الرد أو لم تستجب بشكل مُرض فسوف ترسل المحكمة أمرها إلى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لتنفيذه. وسيكون مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ملزما بموجب ميثاق الأمم المتحدة بإنفاذ الأمر.
ومع أنّ قرارات المحكمة هي سابقة وخطوة جيدة، خصوصا في ظل الدعم الذي لقيته من العديد من الدول، فإنه لم ينفذ أي قرار منها، سواء المتعلق بوقف العدوان أو السماح للمساعدات الإنسانية بالدخول إلى رفح، بل بالعكس تم استهداف المنظمات الدولية التي كانت تسهر على تسهيل عبور المساعدات.
الإسناد الإقليمي لفلسطين
امتدت في الثامن من أكتوبر 2023 براثن الحرب إلى شمال فلسطين المحتلة مع إعلان حزب الله اللبناني عدم وقوفه على الحياد، وجاء ذلك من خلال تصريح رئيس المجلس التنفيذي في الحزب هاشم صفي الدين: “نحن في الموقع الذي يجب أن نكون فيه”، ليأتي بعد ذلك خطاب حسن نصر الله بأن حزب الله يعمل على توفير “جبهة الإسناد” للجبهة الرئيسة في قطاع غزة، ما فرض على إسرائيل نقل جزء من ترسانتها إلى الشمال، وهو ما أدى بحزب الله إلى كسر مخطط لقواعد الاشتباك المعمول بها على الحدود دون الانزلاق إلى حرب شاملة.
وكان للجبهة التي فتحها حزب الله دور في تقسيم تركيز قوات الاحتلال وتخفيف جزئي لما تعانيه غزة، كما كان نقطة ضغط حاول من خلالها فرض شرطين لتوقف العمليات القادمة من لبنان، أولا وقف العدوان على غزة ومعه على كامل التراب الفلسطيني، ودعم حركة حماس والمقاومة الفلسطينية من خلال تخفيف الضغط عنها.
خلفت الصواريخ الإسرائيلية عديد الشهداء من المدنيين وتسببت في أضرار كبيرة بالبنية التحتية والأراضي، في وقت كان يستهدف حزب الله بالدرجة الأولى قواعد وبنيات عسكرية. كما كانت لحزب الله عمليات تجسسية مهمة في ما يخص البنية العسكرية لإسرائيل من خلال إطلاقه عملية “الهدهد”.
وأدى هذا التصعيد في الشمال إلى هروب عشرات الآلاف من المستوطنين، ما شكل ضغطا إضافيا على حكومة الاحتلال، التي أصبحت ترى في المواجهة مع حزب نقطة يجب الحسم فيها لتخفيف الضغط الداخلي، لتبدأ معه سلسلة اغتيالات واستهدافات للداخل اللبناني وبالأخص بيروت.
ونتيجة ذلك، تم اغتيال قادة في حزب الله اللبناني، بما فيهم أمينه العام الشهيد حسن نصر الله، كما فجّر الصهاينة أجهزة البيجر وأجهزة الاتصال اللاسلكي؛ وعقب ذلك تصاعد على الشعب اللبناني.
لم يكن حزب الله الوحيد الذي يواجه في الشمال، فقد اشتركت معه بعض المجموعات السنية في عمليات ضد الاحتلال الإسرائيلي، بالإضافة إلى قيام بعض المجموعات الفلسطينية بلعب دور في العمليات المشتركة.
كما لم تكن لبنان الوحيدة التي أعلنت تبنيها “جبهة إسناد” لغزة، فقد أعلنت جماعة أنصار الله في اليمن مشاركتها “في رفع الحيف عن الشعب الفلسطيني” من خلال زعيمها عبد الملك الحوثي، وبدأت عمليات استهدفت فيها السفن القادمة أو المتوجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمر وخليج عدن، وهو ما قوبل بهجوم مشترك بين إسرائيل والولايات المتحدة ومعه التحالف على أهداف في الداخل اليمني.
هذه الهجمات لم تثن أنصار الله في اليمن، وزادوا من استهدافاتهم من خلال الصواريخ التي وصلت إلى بعض الأهداف العسكرية الموجودة في الداخل المحتل؛ ما تزامن مع استهداف فصائل مسلحة عراقية وسورية القواعد العسكرية الأمريكية في العراق وسوريا، ردا على الهجمات التي كانت تنطلق منها.
وبهذا يمكن اعتبار أن الحرب أخذت منحى سيجر معه كل المنطقة إلى حرب لا يمكن التنبؤ بعواقبها، بالأخص بعد تزايد الاحتقان في الأسابيع الأخيرة، إثر استهداف لبنان عبر تفجير أجهزة بيجر والراديو، ما أودى بحياة العديد من المدنيين. وانضاف إلى ذلك اغتيال قيادات مهمة كإسماعيل هنية في إيران، واغتيال حسن نصر الله في لبنان، واستشهاد يحيى السنوار مؤخرا.
كان لاغتيال نصر الله الوقع الكبير على مختلف المجموعات العسكرية الموجودة في لبنان واليمن وسوريا والعراق، علاوة على طهران.
هذا وجاء الرد الإيراني لينهي فترة الانتظار بعد اغتيال إسماعيل هنية على التراب الإيراني، رد وفق تعبير وزير الخارجية الإيراني تأخر بفعل الوعود الذي تلقوها بأن عدم الرد يفتح المجال أمام تهدئة الأجواء وفرصة لوقف إطلاق النار في غزة. لكن اغتيال حسن نصر الله دفع إيران إلى الجزم بأن إسرائيل اعتبرت عدم الرد بمثابة إشارة إلى أنها يمكن أن توسع العدوان دون أن يكون لذلك أي تأثير على مجريات الوضع في المنطقة.