معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي + مدار: 03 آب/ أغسطس 2025*
فيجاي براشاد
صورة الواجهة: كارين بولينا بيسويل (كولومبيا)، ناما بو (نحن موجودون)، 2015.
من لا يعيشون في مناطق حرب أو في بلدان محاصرة يُجبرون على عيش حياتهم وكأن لا شيء غريب يحدث من حولهم. عندما نقرأ عن الحرب، تكون منفصلة عن حياتنا، وكثيرون منا يرغبون في التوقف عن الاستماع إلى أي شيء يتعلق بالبؤس الإنساني الناجم عن الأسلحة أو عن العقوبات. يتلاشى جدل الأكاديمي ونبرة الدبلوماسي الخافتة، بينما تشن القنبلة والمصرف حرباً ضد الكوكب.
بعد أن أجاز إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما (اليابان) في 6 أغسطس 1945، أعلن الرئيس الأمريكي هاري س. ترومان عبر الإذاعة: “إذا لم يقبل [اليابانيون] شروطنا الآن، فبإمكانهم أن يتوقعوا مطراً من الدمار من السماء، لم يرَ العالم له مثيلًا من قبل.”
برّر ترومان استخدام ذلك السلاح البشع بادعاء كاذب مفاده أن هيروشيما كانت قاعدة عسكرية. لكنه فشل في الإشارة إلى أن قنبلته – المعروفة باسم “الصبي الصغير” – أودت بحياة أعداد كبيرة من المدنيين. ووفقاً لمدينة هيروشيما، فإن “العدد الدقيق للوفيات الناجمة عن القصف الذري لا يزال غير معروف. وتشير التقديرات إلى أن عدد القتلى حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر 1945، عندما خفّت الآثار الحادة للتسمم الإشعاعي، بلغ حوالي 140,000 شخص”. وكان عدد سكان هيروشيما في ذلك الوقت يبلغ 350,000، ما يعني أن 40% من سكان المدينة لقوا حتفهم خلال خمسة أشهر من الانفجار. لقد كان “مطر الدمار” قد أسقط عليهم بالفعل.

نشرت مجلة ذي لانسيت، إحدى أبرز المجلات المرموقة في مجالي الصحة والطب، مقالًا للباحثين فرانسيسكو رودريغيز، وسيلفيو ريندون، ومارك ويسبرَت، بعنوان علمي دقيق: “تأثير العقوبات الدولية على الوفيات حسب الفئة العمرية: تحليل لبيانات شاملة عبر الدول”.
درس هؤلاء العلماء أثر العقوبات التي تفرضها في الغالب الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة. ورغم أن هذه التدابير تُسمى عادةً “عقوبات دولية”، إلا أنه لا يوجد ما هو “دولي” فعلياً فيها. فمعظم العقوبات تُفرض خارج إطار ميثاق الأمم المتحدة، والذي يشدد في الفصل الخامس منه على أن مثل هذه الإجراءات لا يمكن اتخاذها إلا من خلال قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي. وهذا نادراً ما يحدث. فالدول القوية – وعلى رأسها الولايات المتحدة وأعضاء في الاتحاد الأوروبي – تلجأ إلى فرض عقوبات أحادية وغير قانونية على دولٍ أخرى، تتجاوز في قسوتها حدود المنطق الإنساني.
وفقاً لقاعدة بيانات العقوبات العالمية (Global Sanctions Database)، قامت الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والأمم المتحدة بفرض عقوبات على 25% من دول العالم. وقد فرضت الولايات المتحدة وحدها عقوبات على 40% من هذه الدول، وهي عقوبات أحادية لأنها لا تستند إلى قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي.
في ستينيات القرن العشرين، لم تكن سوى 8% من دول العالم خاضعة للعقوبات. هذا التضخم في استخدام العقوبات يُظهر كيف أصبح من الطبيعي للدول القوية في شمال الأطلسي أن تشن حروباً دون الحاجة إلى إطلاق رصاصة واحدة. وكما قال الرئيس الأمريكي وودرو ويلسون عام 1919 أثناء تأسيس عصبة الأمم: “العقوبات هي شيء أكثر هولاً من الحرب”.

أقسى تجسيد لتصريح وودرو ويلسون جاء على لسان مادلين أولبرايت، التي كانت حينها سفيرة الولايات المتحدة لدى الأمم المتحدة، وذلك في سياق العقوبات الأمريكية المفروضة على العراق في التسعينيات. فقد توجّه فريق مرموق من المتخصصين في “مركز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية” إلى العراق، وحللوا البيانات ليجدوا أنه بين عامي 1990 و1996، تسببت العقوبات في “قتل أكثر من 500,000 طفل دون سن الخامسة. وبعبارات بسيطة، فإن عدد الأطفال العراقيين الذين لقوا حتفهم نتيجة للعقوبات يفوق عدد ضحايا قنبلتين ذريتين أُلقيتا على اليابان، وكذلك يفوق عدد ضحايا التطهير العرقي الأخير في يوغوسلافيا السابقة”.
وي برنامج 60 دقيقة على قناة CBS، سألت الصحفية ليزلي ستال أولبرايت عن هذه الدراسة قائلة:
“لقد سمعنا أن نصف مليون طفل قد ماتوا. أعني، هذا عدد أكبر من الأطفال الذين ماتوا في هيروشيما. فهل كان الثمن يستحق ذلك؟”.
كان هذا سؤالاً صادقاً. وكان لدى أولبرايت الفرصة لتقول الكثير من الأمور: كان بإمكانها أن تقول إنها لم تطّلع بعد على التقرير، أو أن تلقي اللوم على سياسات صدام حسين. لكنها بدلاً من ذلك أجابت: “أعتقد أن الأمر صعب جداً، لكننا نعتقد أن الثمن يستحق ذلك”.
بعبارة أخرى، كان قتل نصف مليون طفل ثمناً “مستحقاً” من أجل زعزعة استقرار الحكومة العراقية بقيادة صدام حسين. وبالطبع، لم تُسقط تلك العقوبات الحكومة. بل عانى الشعب سبع سنوات أخرى، لم تُجرَ خلالها أي دراسة مماثلة توثّق الوفيات الأخرى. وفي نهاية المطاف، لم يُسقِط النظام سوى الغزو الأمريكي الضخم وغير القانوني للعراق (غير قانوني لأنه لم يصدر بموجب قرار من مجلس الأمن الدولي).
وإنصافاً لأولبرايت، فقد قالت لاحقاً: “لقد قلتها 5000 مرة، أنا أندم على ذلك. لقد كان تصريحاً غبياً. ما كان يجب أن أقوله”. لكنها قالتها، وتركت أثراً لا يُمحى.

الذين يفرضون العقوبات و يمعنون في إلحاق الألم يعرفون تماماً ما يفعلونه. قالت أولبرايت إن تصريحها كان “غبياً”، لكنها لم تقل إن السياسة نفسها كانت خاطئة. في عام 2019، وجّه مات لي، مراسل وكالة أسوشيتد برس، سؤالاً إلى وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو حول العقوبات المفروضة على فنزويلا، فأجاب بومبيو قائلًا:
“نتمنى دائماً أن تسير الأمور بسرعة أكبر… الدائرة تضيق. والأزمة الإنسانية تتفاقم كل ساعة… يمكنك أن ترى الألم والمعاناة المتزايدة التي يعاني منها الشعب الفنزويلي”.
كان تصريح بومبيو دالاً وصحيحاً: العقوبات غير القانونية تخلق الألم والمعاناة.
إذاً، ماذا تُظهر الدراسة الجديدة لمجلة ذا لانسيت حول العقوبات الدولية؟
- من عام 1971 إلى عام 2021، كانت العقوبات الأحادية السبب في وفاة 564,258 شخصاً سنوياً.
- عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب العقوبات يفوق عدد ضحايا المعارك المباشرة (106,000 وفاة سنوياً)، وهو “مماثل لبعض التقديرات المتعلقة بإجمالي عدد وفيات الحروب بما في ذلك الضحايا المدنيين (نحو نصف مليون وفاة سنوياً)”.
- الفئات السكانية الأكثر تضرراً، كما هو متوقع، هي الأطفال دون سن الخامسة وكبار السن. وقد مثّلت وفيات الأطفال دون سن الخامسة 51% من إجمالي الوفيات الناجمة عن العقوبات خلال الفترة 1970-2021.
- العقوبات الأحادية التي تفرضها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أشد فتكاً من تلك التي تفرضها الأمم المتحدة، حيث إن “العقوبات الأمريكية تبدو المحرك الأساسي للآثار السلبية على الوفيات”. ويُعزى ذلك إلى أن “العقوبات الأحادية التي تفرضها الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي قد تكون مصممة بطريقة تُحدث أثراً سلبياً أكبر على السكان المستهدفين”.
- إن السبب وراء التأثيرات السلبية للعقوبات الأمريكية – ومعها الاتحاد الأوروبي – يرجع إلى “الاستخدام الواسع النطاق للدولار الأمريكي واليورو في المعاملات المصرفية الدولية وكعملات احتياطية عالمية، وتطبيق العقوبات خارج الحدود الإقليمية، وخاصة من قبل الولايات المتحدة”.
- يظهر التحليل أن “تأثيرات العقوبات على الوفيات تتزايد عمومًا بمرور الوقت، حيث تؤدي فترات العقوبات الأطول إلى ارتفاع عدد الضحايا”.
وبناءً على هذه النتائج، خلصت الدراسة إلى أنه “من منظور قائم على الحقوق، فإن الأدلة على أن العقوبات تؤدي إلى خسائر في الأرواح ينبغي أن تكون سبباً كافياً للمطالبة بتعليق استخدامها”.

في مارس/آذار 2025، نشرنا ملفاً بعنوان “الحرب الإمبريالية والمقاومة النسوية في الجنوب العالمي“، ركز بشكل رئيسي على حالة فنزويلا، ووصف تأثير العقوبات وكيف يُحافظ عمل النساء على تماسك مجتمع يتعرض للهجوم. إنهن يدركن تماماً معنى “أمطار الدمار”، ويكافحن لتقوية مجتمعاتهن في مواجهتها. وكما أوضحنا في تحليلنا لـ”الحقائق“، فقد أدت العقوبات المفروضة على فنزويلا إلى خسارة 213% من ناتجها المحلي الإجمالي بين كانون الثاني/ يناير 2017 و كانون الأول/ ديسمبر 2024، أي ما يعادل خسارة إجمالية تُقدر بـ 226 مليار دولار، أو 77 مليون دولار يومياً.
في عام 1995، خلال فترة العقوبات المفروضة على العراق وقبل أن تغزو الولايات المتحدة ذلك البلد بشكل غير قانوني في عام 2003، كتب الشاعر سعدي يوسف (1934–2021) قصيدة معجزة بعنوان “أمريكا، أمريكا”.
إليكم المقطع الأخير من القصيدة:
لكنّا لسنا أسرى، يا أمريكا
وجنودُكِ ليسوا جندَ الله …
نحنُ، الفقراءَ، لنا أرضُ الآلهةِ الغرقى
آلهةُ الثيران
آلهةُ النيران
آلهةُ الأحزانِ المجبولةِ صلصالًا ودمًا في أغنيةٍ …
نحن، الفقراءَ، لنا ربُّ الفقراء
الطالعُ من أضلاعِ الفلاّحين
الجائعُ
والناصعُ
والرافعُ كلَّ جبين …
نحن الموتى، يا أمريكا
فليأتِ جنودُكِ!
من يقتلْ مَيْتًا يبعَثْهُ …
ونحنُ الغرقى يا سيدتي
نحن الغرقى
فلْيأتِ الماء..
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 31 تموز/ يوليو 2025.