السبب وراء اتجاه القوة العاملة من دول أوروبا الشرقية نحو الغرب

مشاركة المقال

نيوز كليك/ مدار: 23 آذار/ مارس 2022

تتربع البلدان المتواجدة في أوروبا الوسطى والشرقية على المراكز العشرة الأولى من حيث انخفاض عدد السكان، في وقت انضمت سبعة من هذه البلدان إلى الاتحاد الأوروبي.

لقد حظي نقل رأس المال من البلدان الرأسمالية المتقدمة في الشمال إلى البلدان ذات الأجور المنخفضة في الجنوب في عصر العولمة الحالي باهتمام كبير، لكن هناك نوعا آخر من إعادة التوطين لم يعط القدر نفسه من الاهتمام، وهو نقل العمل من البلدان ذات الأجور المنخفضة نسبيا في أوروبا الشرقية إلى الرأسمالية المتقدمة.

في حقيقة الأمر، ونظرا لوجود التنقل الحر للعمالة داخل الاتحاد الأوروبي، فقد أصبح هذا المعطى حافزا قويا لدول أوروبا الشرقية للانضمام إلى الاتحاد. وبسبب هذا الوضع الجديد، أصبحت بعض هذه البلدان تظهر أعراض الكلاسيكية التي تحيل على الاقتصاديات المصدرة للعمالة: انخفاض في عدد السكان، تحول في التركيبة السكانية من الذكور الأصحاء في سن العمل إلى النساء والأطفال وكبار السن، وتغير في طبيعة الاقتصاد من كونه اقتصادا منتجا إلى مجرد متلق للحوالات. وقد نتجت عن انهيار الاتحاد السوفياتي نزعة نحو هجرة السكان من البلدان التي تشكل الجزء الغربي منه.

وعلاقة بالأرقام المسجلة فقد عرفت بلغاريا انخفاضا في عدد السكان بنسبة 11.5% خلال العقد الماضي، لتنتقل البلاد من 7.3 ملايين إلى 6.5 ملايين. أما في رومانيا فكان عدد السكان في 1990 23.2 مليونا، لكنه انخفض إلى 19.4 مليونا، أي بحوالي 3.8 ملايين، أو ما يعادل 16.4% بحلول عام 2019، في وقت لم يختلف الأمر لدى لاتفيا التي انتقل عدد سكانها من 2.38 مليون عام 2000 إلى 1.95 مليون بحلول 2022، أي ما يعادل انخفاضا بـ18.2%. كما كان الانخفاض في جورجيا وليتوانيا بنفس السوء خلال فترة مماثلة، في وقت تشير التقديرات إلى أنه من المتوقع أن تفقد أوكرانيا خمس سكانها بحلول 2050.

ولا يقتصر الأمر على الجمهوريات التي كانت تشكل الاتحاد السوفياتي سابقا، بل أصابت الظاهرة دولا كانت ضمن يوغوسلافيا السابقة، فمنذ انهيار يوغوسلافيا فقدت البوسنة والهرسك 24% من سكانها، فيما فقدت صربيا وكرواتيا 9% و15% على التوالي، والأمر نفسه ينطبق على ألبانيا ومولدوفا.

وإذا ما تمعنا في البلدان المتضررة، سنجد أن البلدان العشرة من حيث انخفاض عدد السكان تأتي جميعها من وسط وشرق أوروبا، كما أن سبعة من هذه البلدان انضمت إلى الاتحاد الأوروبي. من الواضح إذن أن السبب الأساس لانخفاض السكان هو الهجرة إلى الغرب.

وبالطبع ليست هذه المرة الأولى التي تعرف فيها الرأسمالية انتقالا لرأس المال والعمل ضمن المجال الذي تهيمن عليه، فعلى العكس من ذلك، كانت هنالك أمثلة عديدة على هذا النوع من الترحيل في كل مرحلة من مراحل الرأسمالية؛ الاختلاف الوحيد هو أنه في كانت تأخذ أشكلا مختلفة في كل مرحلة.

في الفترة التي سبقت منتصف القرن التاسع عشر، اتخذت إعادة توطين العمال الشكل القسري والقاسي، الذي تمثل في تجارة الرقيق عبر المحيط الأطلسي؛ فيما اتخذت العملية في الفترة بين منتصف القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى شكل الاستثمار الأوروبي في العالم الجديد، الذي ساهم في انتشار واسع للرأسمالية (تم تمويلها إلى حد كبير من الثروات التي تم استنزافها من المستعمرات).

 واتخذ نقل العمالة في هذه الفترة شكلين مختلفين، أحدهما كان هجرة العمالة الأوروبية إلى “العالم الجديد”، وجاء مكملا لهجرة رأس المال، والآخر كان هجرة الهنود والعمالة الصينية إلى المناطق الاستوائية وشبه الاستوائية من العالم (رغم أن هجرة العمالة المدارية أو شبه الاستوائية إلى المناطق المعتدلة كانت ممنوعة منعا باتا).

 وفي فترة ما بعد الحرب، كانت هناك ضوابط سارية على رأس المال، وبالتالي كان نقل الرأس مال لأغراض محددة، مثل “الالتفاف على الرسوم الجمركية” لدخول أسواق العالم الثالث، لكن نقل العمالة أخذ شكل الهجرة من المستعمرات السابقة أو التبعيات إلى البلدان المتقدمة، مثل الهجرة من الهند وباكستان وجزر الهند الغربية إلى إنجلترا، ومن الجزائر والمغرب إلى فرنسا، ومن تركيا إلى ألمانيا.

 وتشهد الفترة الحالية تحولا ملحوظا لرأس المال من الدول المتقدمة إلى دول العالم الثالث، وهجرة العمالة من أوروبا الشرقية إلى البلدان المتقدمة. ويعتبر الدافع الرئيسي لهذين التحولين من وجهة نظر رأس المال هو العمالة الرخيصة.

ونظرًا لأن أوروبا الغربية نفسها تعاني من ارتفاع في معدلات البطالة، فقد تبدو ظاهرة الهجرة إليها من جيرانها الشرقيين ذوي الأجور المنخفضة مثيرة للاهتمام للوهلة الأولى، لكن بعد إمعان النظر يتضح لنا أن الهجرة لا تتم فقط إلى البلدان التي تعاني من نقص في اليد العاملة.

في عالم يتسم بالبطالة في كل مكان، مازالت هناك هجرة من المناطق ذات الأجور المنخفضة إلى نظيرتها ذات الأجور العالية، لسببين: الأول هو أن الدافع وراء الهجرة هو توفير أجر أحسن من الدخل في البلد الأم، مع الأخذ في عين الاعتبار حتمية البطالة، والثاني هو أن المهاجرين يكونون في العادة مستعدين للعمل بأجور أقل (أو ظروف عمل أسوأ) بالمقارنة مع السكان المحليين، ومن هنا تفسير أن حتى أوروبا الغربية المنكوبة بالأزمة يمكن أن تجتذب المهاجرين من أوروبا الشرقية التي كانت تشهد ركودا فعليا منذ انهيار الاشتراكية.

إن الظواهر المزدوجة المرتبطة بالعولمة المعاصرة وهجرة رأس المال من الدول المتقدمة إلى بلدان العالم الثالث، وهجرة العمالة من الدول النامية إلى نظيراتها المتقدمة، لها تأثير على إضعاف حركة الطبقة العاملة في كل مكان؛ فهي تضعفها في البلد المستقبل لرأس المال وفي الوقت نفسه تقضي عليها في الدول المتقدمة، بالنظر إلى أن آفاق التوظيف تعتمد على عدم التنظيم. هذا الوضع أدى على المستوى العالمي إلى تحول موازين القوى من الطبقة العاملة إلى الرأسماليين.

 لكن هذا لا يؤدي إلا إلى تفاقم الأزمة التي تواجهها الرأسمالية، لاسيما أن النتيجة الأكيدة لنقل رأس المال والعمالة تتمثل في زيادة حصة الفائض في الإنتاج العالمي، ما يقلل من إجمالي الطلب، إذ يتم إنفاق نسبة أعلى من دخل الأشخاص العاملين على الاستهلاك أكثر من الفائض الاقتصادي. والمفارقة في الرأسمالية المعاصرة أن الاتجاه المتسارع نحو العمالة ذات التكاليف المنخفضة قد أوصل النظام إلى أزمة طويلة الأمد.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة