معهد القارات الثلاث للبحث الإجتماعي + مدار: 17 حزيران/ يونيو 2024*
فيجاي براشاد
سيحظى نصف سكان العالم بفرصة التصويت بحلول نهاية هذا العام، فمن المقرر أن تفتح 64 دولة والاتحاد الأوروبي صناديق الاقتراع، إذ لم يكن أي عام مضى حافلاً بالانتخابات إلى هذا الحد. والهند من بين هذه الدول، حيث كان من الملفت طباعة 969 مليون ورقة اقتراع قبل الانتخابات التي بلغت ذروتها في 01 حزيران/ يونيو؛ وفي النهاية، صوّت 642 مليون شخص (حوالي ثلثي من يحق لهم التصويت)، نصفهم من النساء. وتعد هذه أعلى مشاركة على الإطلاق من قبل الناخبات في استحقاق واحد في العالم.
وفي الوقت نفسه، أجرت الدول الـ 27 الأعضاء في الاتحاد الأوروبي انتخابات البرلمان الأوروبي، مما يعني أن 373 مليون ناخب مؤهل حظوا بفرصة الإدلاء بأصواتهم لاختيار 720 عضوًا يشكلون الهيئة التشريعية. أضف إلى ذلك الناخبين الذين يحق لهم التصويت في الانتخابات بالولايات المتحدة (161 مليونًا) وإندونيسيا (204 ملايين) وباكستان (129 مليونًا) وبنغلاديش (120 مليونًا) والمكسيك (98 مليونًا) وجنوب أفريقيا (42 مليونًا)، ومن هنا يمكن أن يظهر لماذا يبدو عام 2024 وكأنه عام الانتخابات.
خلال الأسابيع القليلة الماضية، جرت ثلاثة انتخابات ذات أهمية خاصة، في الهند والمكسيك وجنوب أفريقيا. فالهند وجنوب أفريقيا لاعبان رئيسيان في تكتل بريكس الذي يرسم الطريق نحو نظام عالمي لا تهيمن عليه الولايات المتحدة الأمريكية. وسيكون لطبيعة الائتلافات الحاكمة التي ستصل إلى السلطة في هذه البلدان تأثير على المجموعة، وستحدد بالتأكيد معالم قمة البريكس لهذا العام المقرر عقدها في قازان (روسيا) في أواخر أكتوبر/تشرين الأول. وعلى الرغم من أن المكسيك ليست عضواً في بريكس ولم تتقدم بطلب للعضوية خلال التوسيع الذي جرى العام الماضي، إلا أن المكسيك سعت إلى التخفيف من الضغوطات التي تمارسها الولايات المتحدة (معظم المكسيكيين على دراية بمقولة “المكسيك المسكينة: بعيدة جداً عن الله، قريبة جداً من الولايات المتحدة”، التي قالها بورفيريو دياز، رئيس البلاد من عام 1884 إلى 1911). إن نفور الحكومة المكسيكية في الآونة الأخيرة من تدخل الولايات المتحدة في أمريكا اللاتينية ومن الإطار النيوليبرالي العام للتجارة والتنمية قد دفع البلاد إلى حوار أعمق مع مشاريع بديلة مثل بريكس.
وبينما أظهرت النتائج في الهند وجنوب أفريقيا أن الناخبين منقسمون بشدة، بقي الناخبون المكسيكيون مع حركة التجديد الوطني (MORENA) من يسار الوسط، وانتخبوا في الثاني من حزيران/ يونيو كلاوديا شينباوم كأول امرأة تتولى الرئاسة في تاريخ البلاد. وستتولى شينباوم الرئاسة خلفًا لأندريس مانويل لوبيز أوبرادور، الذي سيغادر منصبه بنسبة تأييد ملحوظة بلغت 80%. وبصفتها عمدة مدينة مكسيكو سيتي من 2018 إلى 2023 وحليفًا مقربًا من لوبيز أوبرادور، اتبعت شينباوم المبادئ العامة المنصوص عليها في مشروع التحول الرابع (4T) الذي وضعه أندريس مانويل لوبيز أوبرادور في عام 2018، ويتبع مشروع “النزعة الإنسانية المكسيكية” هذا، ثلاث فترات مهمة في تاريخ المكسيك: الاستقلال (1810-1821)، والإصلاح (1858-1861)، والثورة (1910-1917). وفي حين تحدث لوبيز أوبرادور في كثير من الأحيان عن هذا المشروع باعتباره تقدمًا في تاريخ المكسيك، إلا أنه في الواقع عودة إلى وعود الثورة المكسيكية بدعوتها إلى تأميم الموارد (بما في ذلك الليثيوم)، وزيادة الأجور، وتوسيع برامج الوظائف الحكومية، وتنشيط الرعاية الاجتماعية. ومن أحد الأسباب التي جعلت شينباوم تنتصر على المرشحين الآخرين هو تعهدها بمواصلة أجندة التحول الرابع، التي لا تستند إلى الشعبوية (كما تحب الصحافة البرجوازية أن تقول) بقدر ما تستند إلى النزعة الإنسانية الحقيقية التي تدعو إلى تحقيق العدالة الاجتماعية.
في أيار/ مايو من هذا العام، أي بعد مرور ثلاثين عامًا على نهاية الفصل العنصري، أجرت جنوب أفريقيا انتخاباتها العامة السابعة في حقبة ما بعد الأبرتهايد، وأسفرت عن نتائج تتناقض تماما مع تلك التي شهدتها المكسيك. فقد عرف التحالف الثلاثي الحاكم – الذي يتألف من المؤتمر الوطني الأفريقي والحزب الشيوعي الجنوب أفريقي ومؤتمر نقابات عمال جنوب أفريقيا – تراجعا هائلا في حصته من الأصوات، حيث حصل على 40.18% فقط من الأصوات (42 مقعدًا أقل من الأغلبية)، مقارنةً بنسبة 59.50% مع أغلبية مريحة في الجمعية الوطنية في 2019. الأمر المذهل في هذه الانتخابات ليس تراجع حصة التحالف من الأصوات فحسب، بل الانخفاض السريع في نسبة المشاركة في الاقتراع. فمنذ عام 1999، تناقص عدد الناخبين الذين يكلفون أنفسهم عناء التصويت، ولم يتوجه هذه المرة إلى صناديق الاقتراع سوى 58% فقط من المؤهلين لذلك (بعد أن كانت النسبة 86% في عام 1994). وهذا يعني أن التحالف الثلاثي حصل على أصوات 15.5% فقط من الناخبين المؤهلين للتصويت، بينما حصل منافسوه على نسب أقل من ذلك. لا يقتصر الأمر على أن سكان جنوب أفريقيا – على غرار الناس في باقي الأماكن – قد سئموا من هذا الحزب السياسي أو ذاك، بل يشعرون بخيبة أمل متزايدة من العملية الانتخابية ومن دور السياسيين في المجتمع.
يُظهر التقييم الرصين لنتائج الانتخابات في جنوب أفريقيا أن القوتين السياسيتين المنشقتين عن حزب المؤتمر الوطني الأفريقي – وهما حزب “يو مخونتو وي سيزوي” بزعامة جاكوب زوما وحزب “مقاتلو الحرية الاقتصادية” بزعامة جوليوس ماليما – فازتا مجتمعتين بنسبة 64.28% من الأصوات، متجاوزتين بذلك نسبة الأصوات التي حصل عليها التحالف الحاكم في عام 1994. ولا تزال الأجندة العامة التي وعدت بها هذه القوى الثلاث سليمة (القضاء على الفقر، ونزع ملكية الأراضي، وتأميم البنوك والمناجم، وتوسيع نطاق الرعاية الاجتماعية)، على الرغم من أن الاستراتيجيات التي يرغبون في اتباعها مختلفة تمامًا، وهو انقسام عززته خصوماتهم الشخصية. وفي نهاية المطاف، سيتم تشكيل حكومة ائتلافية واسعة في جنوب أفريقيا، ولكن من غير الواضح ما إذا كانت ستتمكن حتى من وضع سياسة ديمقراطية اجتماعية – كما هو الحال في المكسيك. ويعكس التراجع العام في إيمان السكان بالنظام انعدام الثقة في أي مشروع سياسي. فالوعود، إذا لم يتم الوفاء بها، يمكن أن تذهب أدراج الريح.
في الفترة التي سبقت الانتخابات في الهند، التي أجريت على مدى ستة أسابيع من 19 أبريل/نيسان إلى 01 يونيو/حزيران، قال رئيس الوزراء الحالي ناريندرا مودي من حزب بهاراتيا جاناتا اليميني المتطرف إن حزبه سيحصل بمفرده على 370 مقعدًا في البرلمان الذي يضم 543 مقعدًا. وفي نهاية المطاف، لم يتمكن من الحصول سوى على 240 مقعدًا – بانخفاض قدره 63 مقعدًا مقارنة بانتخابات 2019 – وفاز “التحالف الوطني الديمقراطي” التابع له بما مجموعه 293 مقعدًا (أعلى من الحد الأدنى المطلوب لتشكيل الحكومة وهو 272 مقعدًا). وسيعود مودي لولاية ثالثة كرئيس للوزراء، ولكن بتفويض أضعف بكثير. فقد تمكن من الاحتفاظ بمقعده بفارق 150 ألف صوت فقط، وهو ما يمثل تقهقرا كبيرًا عن الهامش الذي بلغ 450 ألف صوت في عام 2019، في حين خسر خمسة عشر عضوًا من أعضاء حكومته الحاليين مقاعدهم. ولم يتمكن أي قدر من خطاب الكراهية ضد المسلمين أو استخدام الوكالات الحكومية لإسكات أحزاب المعارضة ووسائل الإعلام من زيادة قبضة اليمين المتطرف على السلطة.
وقد أظهر استطلاع للرأي أجري في أبريل/نيسان أن البطالة والتضخم هما أهم المشكلات التي يواجهها ثلثا من شملهم الاستطلاع، إذ قال ثلثهم إن العثور على وظائف لسكان المدن يزداد صعوبة. وتقل أعمار 40 في المائة من سكان الهند البالغ عددهم 1.4 مليار نسمة عن 25 عامًا، وبيّنت دراسة أجراها مركز رصد الاقتصاد الهندي أن شباب البلاد الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و24 عامًا “يواجهون ضربة مزدوجة تتمثل في انخفاض وتراجع معدلات المشاركة في سوق العمل وارتفاع معدلات البطالة بشكل صادم”. وتبلغ نسبة البطالة بين الشباب 45.4%، وهي أعلى بستة أضعاف من معدل البطالة الإجمالي البالغ 7.5%.
ويبقى شباب الطبقة العاملة والفلاحين في الهند في منازلهم، حيث يتحدد وعيهم بالمعضلات التي يواجهونها. لقد أدى اليأس في الحياة اليومية الآن إلى تآكل الأسطورة القائلة بأن مودي معصوم من الخطأ. وسيعود مودي كرئيس للوزراء، لكن وقائع فترة ولايته ستحددها جزئياً مظالم عشرات الملايين من الهنود الفقراء التي يعبر عنها من خلال قوة معارضة نشطة ستجد لها قادة بين الحركات الجماهيرية. وسيكون من بينهم مزارعون وفلاحون، مثل أمرا رام، زعيم الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) واتحاد عموم الهند كيسان سابها (اتحاد مزارعي عموم الهند) الذي فاز بشكل حاسم في سيكار، وهي معقل حركة المزارعين. وسينضم إليه في البرلمان كل من ساشيداناندام، زعيم حزب عموم الهند كيسان سابها والحزب الشيوعي الهندي (الماركسي)، من دينديغول (تاميل نادو)، وراجا رام كوشواها، زعيم الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي اللينيني)، التحرير من كاراكات (بيهار) ومنظم لجنة تنسيق كيسان سانغراش (“نضال المزارعين في عموم الهند”)، وهو تحالف للفلاحين يضم 250 منظمة. المزارعون ممثلون الآن في البرلمان.
كتب نيثيش نارايانان من قسم الأبحاث في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي إنه على الرغم من أن اليسار لم يرسل فريقا كبيرا إلى البرلمان، إلا أنه لعب دورًا مهمًا في هذه الانتخابات. ويتابع أن أمرا رام “يدخل البرلمان كممثل لقوة الفلاحين التي وجهت الضربة الأولى لعصمة حزب بهاراتيا جاناتا التي لا جدال فيها في شمال الهند. ويصبح وجوده ضمانة لديمقراطية الهند من الشوارع”.
إن فكرة “الديمقراطية” لا تبدأ وتنتهي عند صناديق الاقتراع. فقد أصبحت الانتخابات – كما هو الحال في الهند والولايات المتحدة – باهظة التكلفة بشكل فضيع. وقد كلفت انتخابات هذا العام في الهند 16 مليار دولار، أنفق حزب بهاراتيا جاناتا وحلفاؤه معظمها. لقد أفسد المال والسلطة وتآكل الحوار السياسي الروح الديمقراطية.
إن البحث عن الروح الديمقراطية قديم قدم الديمقراطية نفسها على الأقل. في عام 1949، عبّر الشاعر الشيوعي لانغستون هيوز عن هذا التوق في قصيدته القصيرة “الديمقراطية”، التي تحدثت آنذاك عن الحرمان من حق التصويت، وتتحدث الآن عن الحاجة إلى النظر بعمق بالغ إلى ما يجب أن تعنيه الديمقراطية في عصرنا – شيء لا يمكن شراؤه بالمال أو تخويفه بالسلطة.
لن تأتي الديمقراطية
اليوم، هذا العام،
ولا أبدا
من خلال المساومة والخوف
لدي نفس القدر من الحق
مما يملك الآخر
أن أقف
على قدمي
وأمتلك الأرض
تعبت من سماع الناس يقولون
دع الأمور تأخذ مجراها
غداً يوم آخر
لا أريد حريتي عندما أموت.
لا يمكنني العيش على خبز الغد.
الحرية
بذرة قوية
مزروعة
في حاجة عظيمة
اسمعي يا أمريكا
أنا أعيش هنا أيضاً
أريد الحرية
مثلك تماماً.
*نشرت هذه المراسلة لأول مرة باللغة بالإنجليزية بتاريخ 13 حزيران/ يونيو 2024.