معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 30 يونيو/ حزيران 2023
تأتينا أخبار خطيرة من الأمم المتحدة، إذ يشير أحدث تقرير للتنمية البشرية (2021-22) إلى أنه للمرة الأولى ومنذ اثنين وثلاثين عاماً يسجل مؤشر التنمية البشرية انخفاضاً للعام الثاني على التوالي، حيث تم إبطال السنوات الخمس الماضية من المكاسب في مجالات مثل الصحة والتعليم من خلال هذا الارتداد، موردا أن “المليارات من البشر يواجهون أعظم أزمة غلاء معيشة منذ جيل، ومليارات يصارعون بالفعل انعدام الأمن الغذائي، ويعود ذلك بحد كبير إلى التفاوتات في الثروة والقوة التي تحدد استحقاقات الغذاء”، وزاد أن “أزمة غذاء عالمية ستضر هؤلاء من غيرهم”.
وبينما يشير تقرير الأمم المتحدة إلى أن الوباء والحرب في أوكرانيا هما المصدران المباشران لهذه المحنة، يورد تقرير سابق عن الأمن البشري إلى أن “أكثر من 6 من بين كل 7 أشخاص في جميع أنحاء العالم شعروا بعدم الأمان بشكل معتدل أو شديد قبل اندلاع جائحة كورونا”. من المؤكد أن الوباء والضغوط التضخمية الأخيرة بسبب الصراع في أوراسيا أمور جعلت الحياة أكثر صعوبة، لكن هذه المحنة تسبق كلا الحدثين. إن المشكلة الأعمق هي النظام الرأسمالي العالمي، الذي يترنح من أزمة إلى أخرى، ما جعل الحياة صعبة للغاية لأكثر من ستة مليارات شخص.
نعمل في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي على فهم طبيعة هذه الأزمات المتتالية والأسباب الرئيسية لها منذ أن تأسس المعهد قبل خمس سنوات. ولم نشهد خلال هذه الفترة صعوداً للتعاون العالمي للتعامل مع الجوع والبطالة والضائقة الاجتماعية وكارثة المناخ وما إلى ذلك، بل شهدنا تصاعد عقلية وبنى تروج للحرب كحل. وكانت الولايات المتحدة، بدون شك، على رأس هذا التصاعد. فمثلاً، شنت الولايات المتحدة حرباً تجارية ضد الصين وحاولت استخدام الحجج المرتبطة بالأمن القومي لإلحاق الضرر بالتقدم في التكنولوجيا الصينية المتطورة. وفي وقت كانت غالبية الدول، بسبب تصاعد الاضطرابات الاجتماعية بين الجماهير، حريصة على التعاون الدولي لعلاج مشاكلها الأكثر إلحاحاً، تبعت الولايات المتحدة إستراتيجية خطيرة من التهديدات السياسية والمواجهة العسكرية للحفاظ على مزاياها الاقتصادية، إذ لا تستطيع الحفاظ عليها من خلال الوسائل التجارية.
وللوصول إلى فهم أعمق للقضايا الملحة لعصرنا اليوم، دخل معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي بشراكة مع المجلة الاشتراكية الموقرة “مونثلي رفيو” ومنصة “لا للحرب الباردة” لدراسة التطورات الجديدة في الإستراتيجية العسكرية للولايات المتحدة وترسانتها. أثمر هذا التحقيق عن أول إصدار لنا من سلسلة جديدة تسمى “دراسات حول المعضلات المعاصرة”. وتتضمن هذه الدراسة بعنوان “الولايات المتحدة تشن حرباً بادرة جديدة: معالجة من منظور اشتراكي”، مقالات بقلم جون بيلامي فوستر (محرر مجلة مونثلي رفيو)، وجون روس (عضو في منصة لا حرب باردة)، وديبورا فينيزيالي (باحثة في معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي). إن المقدمة التي كتبتها لهذه الدراسة تمثل بقية هذه المراسلة.
أدلى وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر في اجتماع المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس بسويسرا في 23 مايو/ أيار 2022 ببعض الملاحظات حول أوكرانيا أثارت الغضب، إذ قال: “إن الغرب، بقيادة الولايات المتحدة، يحتاج بدلاً من الانشغال ‘بمزاج اللحظة’ إلى تمكين اتفاق سلام يرضي الروس. ومتابعة الحرب إلى ما بعد [هذه] النقطة لن تكون متعلقة بحرية أوكرانيا، بل بحرب جديدة ضد روسيا نفسها”. لكن معظم التعليقات الصادرة عن المؤسسات التي تعبر عن السياسة الخارجية الغربية أدارت أعينها ورفضت تعليقات كيسنجر.
ومع أن كيسنجر ليس من محبي السلام، إلا أنه أشار إلى الخطر الكبير المتمثل في التصعيد ليس فقط نحو إقامة ستارة حديدية جديدة حول آسيا، ولكن ربما حرب مفتوحة وقاتلة بين الغرب وروسيا وكذلك الصين. لقد كان هذا النوع من النتائج التي لا يمكن توقعها كبيراً حتى بالنسبة لكيسنجر، الذي تحدث رئيسه السابق ريتشارد نيكسون مراراً وتكراراً عن “نظرية الرجل المجنون” للعلاقات الدولية؛ إذ أخبر رئيس أركانه آنذاك بوب هالدمان بأنه قد وضع “يده على الزر النووي” لإرهاب هوشي منه ودفعه إلى الاستسلام.
تحدثت خلال الفترة التي سبقت الغزو الأمريكي غير الشرعي للعراق في 2003 إلى أحد كبار أعضاء وزارة الخارجية الأمريكية، الذي قال لي إن النظرية السائدة في واشنطن يمكن أن تلخص بشعار بسيط هو: ألم قصير الأمد من أجل مكسب طويل الأمد، وأوضح أن الرأي العام يتمثل في استعداد نخب الأمة للتسامح مع الآلام قصيرة المدى للبلدان الأخرى – وربما للعاملين في الولايات المتحدة، الذين قد يواجهون صعوبات اقتصادية بسبب الاضطرابات والمجازر التي تخلفها الحرب. ومع ذلك، إذا سارت الأمور على ما يرام، فإن هذا الثمن سيؤدي إلى مكاسب طويلة الأجل، حيث ستكون الولايات المتحدة قادرة على الحفاظ على ما سعت إلى الحفاظ عليه منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وهو التفوق. وكانت فرضية “إذا سارت الأمور على ما يرام” هي التي أصابتني بالارتعاش، لكن ما أزعجني هو القسوة حول من يجب أن يواجه الألم ومن سيتمتع بالمكاسب. لقد قيل بسخرية في واشنطن إن الأمر يستحق الثمن بأن يتأثر العراقيون والجنود الأمريكيون من الطبقة العاملة سلباً، وأن يموتوا، طالما أن شركات النفطية والمالية الكبيرة يمكن أن تتمتع بثمار غزو العراق. إن النزعة المتمثلة في ألم قصير الأمد من أجل مكسب طويل الأمد هي سبب هذيان النخب في الولايات المتحدة، أولئك الذين لا يرغبون في التسامح مع مشروع بناء كرامة الإنسان وتعمير الطبيعة.
تظهر فرضية “ألم قصير الأمد من أجل مكسب طويل الأمد” التصعيد الخطير من قبل الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ضد روسيا والصين. واللافت في موقف الولايات المتحدة هو أنها تسعى إلى منع عملية تاريخية تبدو حتمية، وهي عملية التكامل الأوراسي. فبعد انهيار سوق العقارات في الولايات المتحدة وأزمة الائتمان الكبرى في القطاع المصرفي الغربي ركزت الحكومة الصينية، إلى جانب دول الجنوب العالمي الأخرى، على بناء منصات لا تعتمد على أسواق أمريكا الشمالية وأوروبا. وتضمنت هذه المنصات تأسيس “البريكس” (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا) في العام 2009، والإعلان عن “حزام واحد، طريق واحد” (التي أصبحت لاحقاً مبادرة الحزام والطريق أو BRI) في العام 2013. لقد أدت إمدادات الطاقة الروسية وممتلكاتها الضخمة من المعادن، فضلاً عن القدرة الصناعية والتكنولوجية للصين، إلى جذب العديد من البلدان إلى الشراكة في مبادرة الحزام والطريق على الرغم من توجهها السياسي، حيث دعم تصدير روسيا للطاقة هذا الارتباط. وشملت هذه البلدان بولندا وإيطاليا وبلغاريا والبرتغال، بينما تعد ألمانيا الآن أكبر شريك تجاري للصين في مجال السلع.
هددت الحقيقة التاريخية للتكامل الأوراسي أولوية الولايات المتحدة والنخب الأطلسية. هذا التهديد هو الذي يدفع بالمحاولة الخطيرة من قبل الولايات المتحدة لاستخدام أي وسيلة “لإضعاف” كل من روسيا والصين. وتستمر العادات القديمة في الهيمنة على واشنطن، التي سعت منذ فترة طويلة إلى التفوق النووي لنفي نظرية الانفراج أو تخفيف التوتر بين البلدان. لقد طورت الولايات المتحدة قدرة وحالة نوويتين من شأنهما أن يسمحا لها بتدمير الكوكب للحفاظ على هيمنتها. وتشمل إستراتيجيات إضعاف روسيا والصين محاولة عزل هذه الدول من خلال تصعيد الحرب الهجينة التي فرضتها الولايات المتحدة (مثل العقوبات وحرب المعلومات) والرغبة في تفكيك هذه الدول ثم السيطرة عليها إلى الأبد.
“الولايات المتحدة تشن حرباً باردة جديدة” هي وثيقة تقشعر لها الأبدان، وثيقة نأمل أن يقرأها الأشخاص المعنيون في جميع أنحاء العالم لنساعد في حشد حملة سلام عالمية عاجلة. إن السلام ضروري، ليس في أوكرانيا فقط. كتبت فيونا هيل (نائبة مساعد الرئيس دونالد ترامب السابقة) والبروفيسور أنجيلا ستينت في مجلة فورين أفيرز عدد سبتمبر/ أكتوبر (أيلول/ تشرين أول): “يبدو أن المفاوضين الروس والأوكرانيين [في أبريل/ نيسان] قد وافقوا مبدئياً على الخطوط العريضة لتسوية مؤقتة تفاوضية”، حيث ستنسحب روسيا إلى الحدود السابقة التي كانت تحتفظ بها قبل 23 فبراير/ شباط، وتتعهد أوكرانيا بعدم السعي للحصول على عضوية الناتو. ومع ذلك، في خطوة كشفت عن أجندة الغرب، وصل رئيس وزراء المملكة المتحدة في ذلك الوقت بوريس جونسون إلى كييف، وحث الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي على قطع المفاوضات. وقال جونسون إنه حتى لو كانت أوكرانيا مستعدة لتوقيع اتفاقية أمنية مع روسيا فإن الغرب لن يدعمها. لذلك توقف زيلينسكي عن المفاوضات، واستمرت الحرب. ويكشف مقال هيل-ستنت عن مناورة الغرب الخطيرة، وإطالة أمد الصراع الذي زاد من المعاناة الأوكرانية والروسية، ونشر عدم الاستقرار في جميع أنحاء العالم، لإدامة الحرب الباردة الجديدة ضد كل من الصين وروسيا.
في 17 سبتمبر/ أيلول سيكون مؤلفو الدراسة مشاركين مركزيين في منتدى السلام الدولي الذي تعقده منصة لا للحرب الباردة. رجاء انضموا إلينا.
يشير تقرير التنمية البشرية للأمم المتحدة إلى أن “الجسور التي تربط المجموعات المختلفة هي من بين أهم الأصول التي نمتلكها”. ونحن نتفق تماماً مع هذه المسألة، فيتعين علينا بناء المزيد من الجسور بدلاً من قصفها.
* نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 15 شتنبر/ أيلول 2022.