مدار: 17 آذار/ مارس 2021
عقد من الزمان مضى على انطلاق النسخة السورية مما عرف بـ”الربيع العربي”، وهي النسخة الأكثر مأساوية من حيث المآلات الدامية والمؤلمة التي عرفتها؛ عقد كان زاخرا بالأحداث والتحولات التي قلبت حياة كل السوريين رأسا على عقب، ما يجعل الخوض فيها واستذكارها بغرض تقييمها أو استشراف ما ستتمخض عنه ضربا من المشي في حقل من الألغام، لكن هذا المقال سيخوض في جوانب يسيرة من هذه المغامرة، بكل حذر منهجي وحس موضوعي، والهدف هو استجلاء بعض العبر من خلال تكرار شريط أهم الأحداث وتناولها بالتحليل من زوايا متعددة، تلتقي في محاولة كشف بعض مما مازال يتربص بالشعب السوري ويحاك ضده وبناء فرضيات بشأن المسارات الممكنة التي ستتخذها السيرورة الثورية التي أطلقها الشعب في بداية المسير من أجل الحلم الديمقراطي.
تفصلنا إذن أيام عن منتصف شهر آذار/مارس، موعد إكمال عقد من الزمان منذ خروج أولى المظاهرات في مدن سورية عدة عام 2011، مدفوعة بالسياق الثوري الذي طبع فترة ما سمي “الربيع العربي”، وبالاستياء العارم من سجن أطفال في مدينة درعا السورية، شكل الشرارة التي أطلقت المظاهرات الأولى المطالبة بإطلاق الحريات وإطلاق سراح المعتقلين السياسيين ورفع حالة الطوارئ، خاصة بعد خروج الأهالي في مظاهرة قوبلت بإطلاق النار بالمدينة ذاتها، ليرتفع سقف المطالب رويدا رويدا حتى وصل إلى إسقاط نظام بشار الأسد بالكامل، وتصاعدت الأحداث إلى أن انحرفت الانتفاضة السلمية إلى منزلق السيناريو الأكثر رعبا ومأساوية، وهو النزاع المسلح الذي يصفه البعض بالحرب الأهلية، وزاد تشابكا بتدخّلات دولية غير مسبوقة تناصر هذا الطرف أو ذاك؛ مع الكثير من الفصول الإرهابية المقززة، والضحية الأول والأخير هو الشعب السوري الذي عانى الويلات وتفرقت به السبل في شتى البقاع وتدفقت من محنته شلالات من الدماء، مع أكثر من 400.000 قتيل، وأزيد من 8 ملايين لاجئ وآلاف المعتقلين.
تطورات الفصل السلمي المجهض
انطلقت إذن ثورة الشعب السوري سلمية، وكانت أولى إرهاصاتها تنظيم ناشطين مظاهرات تضامنية مع الثورة المصرية في دمشق بشكل يومي ابتداء من 29 يناير/كانون ثاني، إلا أن قوات الأمن السوري كانت تفضها بقوة مفرطة مع مشاركة من سماهم المتظاهرون “شبيحة النظام”، كما اعتصموا أمام السفارة الليبية تضامنا مع ثورة الشعب الليبي، مرددين للمرة الأولى الشعار الذي سيتردد صداه كثيرا جدا في كافة الربوع السورية دون أن يجد صداه حقنا للدماء التي ستسيل بغزارة، وهو: “خاين إللي بيقتل شعبه”. وفي 17 فبراير/شباط 2011 تجمهر تجار سوق الحريقة في العاصمة، بعد إهانة شرطي لابن أحدهم، مرددين للمرة الأولى الشعار الذي سيغدو شهيرا: “الشعب السوري ما بينذل”، لكن قوات وأجهزة الأمن السوري سارعت إلى فض الجمع بالقوة. وفي 26 فبراير/شباط 2011، أطلق تلامذة بمدينة درعا الجنوبية الشرارة الحقيقية للانتفاضة بعد احتجاجهم الذي قابله النظام بالعنف واعتقال 15 طفلا، حسب حقوقيين، كما قمعت مظاهرات أهاليهم الداعية إلى إطلاق سراحهم، ما ووجه بإطلاق دعوات مجهولة المصدر على “فيسبوك” للتظاهر احتجاجا على “القمع والفساد الحكومي”، استجاب لها مواطنون يوم الثلاثاء 15 مارس/آذار 2011 في مدن سورية عدة منها حمص.
ويمكن اعتبار يوم الجمعة 18 مارس/آذار بمثابة الموعد الرسمي لانطلاقة “الثورة السورية” بشعار اختار له الداعون إلى الاحتجاج “جمعة الكرامة”، إذ انطلقت بالفعل المسيرات الاحتجاجية في مدن كدمشق وحمص وبانياس ودرعا، لكن القوات الأمنية واجهتها بقمع وصف بـ”الوحشي”، أسفر عن سقوط 4 قتلى بمدينة درعا التي تحولت إلى “أيقونة الثورة”، وهو القمع الذي كان نذير أحداث دامية بصمت كافة التحركات الشعبية طوال الأيام الموالية.
وفي يوم الجمعة التالي الموافق لـ 25 مارس/آذار اتسعت رقعة المظاهرات لتعم الكثير من حواضر وقرى سوريا تحت شعار “جمعة العزة”، أبرزها دمشق وحماة واللاذقية، وفي الأرياف، كالقابون وداريا والكسوة والزبداني والتل ودوما، وتمادت بعد ذلك في التوسع شيئاً فشيئاً ويوما بعد يوم.
وظل الحال على ما هو عليه بين كر فر حتى حلول شهر تموز/ يوليو من عام 2011، إذ طفت على سطح الاحتجاجات السورية الاعتصاماتٍ المفتوحة في الساحات الكبيرة بحواضر كثيرة، غير أنها جوبهت بدورها حسب المحتجين بقمع وحشي غلب عليه إطلاق الرصاص الحي على المعتصمين العزل على أيدي قوات النظام، الذي ظل إعلامه الرسمي يكذب ذلك، زاعما أن تلك التدخلات كانت تستهدف ما أسماها “عصابات إرهابية مسلحة”؛ وهو ما تسبب في انطلاق أولى موجات اللجوء، مع استشعار طبول الحرب التي اشتدت دقاتها، حاملة آلاف المواطنين السوريين إلى الدول المجاورة؛ تركيا والأردن ولبنان.
فصل المواجهات المسلحة وبداية “الحرب الأهلية”
سارت مياه كثيرة تحت جسر الانتفاضة الشعبية السلمية المنادية بإسقاط نظلم الأسد، ومع التطورات المذكورة بدأت الانشقاقات في صفوف الجيش السوري تتفاقم، إلى حدود مطلع شهر آب/ غشت، وهو موعد إعلان تأسيس ما سمي “الجيش السوري الحر”، الذي قاد مواجهات عسكرية محدودة ضد عساكر النظام، لكنها سرعان ما تطورت واشتد أوارها شيئا فشيئا مع التحاق منشقين آخرين بفصول المعركة المسلحة، حتى انطلق الحديث عن حروب ومعارك كبيرة مع بداية سنة 2012.
بدأ إذن، بعد أقل من عام على انطلاق الاحتجاجات الشعبية، استعمال المدفعية الثقيلة والمدرعات والعربات المصفحة في المواجهات بين الجانبين، وأطلق العنان للقصف المدفعي والجوي الذي رصدت أولى طلعاته في مارس/ آذار من العام 2012، عبر مروحيات اتهم النظام باستخدامها لإلقاء “البراميل المتفجّرة” على المدن التي شكلت معاقل للمعارضة المسلحة، حتى إنه أطلق على الرئيس السوري لقب “البراملي” الذي انتشر بشكل واسع، في إشارة إلى تلك البراميل الحارقة، كما رصد بعد ما يناهز 3 أشهر من ذلك دخول الطائرات إلى أجواء المعركة، وبالضبط في شهر يوليو من السنة نفسها.
وفي المقابل تقوت تدريجيا قوات الجيش السوري الحر التي أسسها الضباط المنشقون، إذ تطور عتادها الحربي حتى بات بإمكانها تفجير المدرعات وإسقاط الطائرات، كما قادت عمليات نوعية لدخول العاصمة دمشق والسيطرة عليها، نذكر منها تفجير مبنى الأمن القومي والإجهاز على قادة كبار في أجهزة النظام، كرئيس مكتب الأمن القومي ووزير الدفاع ونائبه؛ لكنها سرعان ما ضعفت واضمحلت مع نهاية سنة 2012، مع نقص التمويل وطول وقوة المعارك، لتستعمل هويتها في ما بعد مختلف مليشيات المعارضة، التي غلب عليها الطابع الإسلامي المتشدد، ما هيأ الظروف المناسبة لدخول مقاتلي تنظيم القاعدة الإرهابي من معقله في أفغانستان في معمعان الصراع وحرف توجهه، مفرخا تنظيما أشد منه فتكا وإرهابا، كما طال أذاه دولة العراق المجاورة، وامتدت عملياته الإجرامية المروعة إلى العديد من دول العالم؛ إنه تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، المعروف اختصارا بـ”داعش”.
التدخل الدولي وتعقيد الوضع السوري
انتظرت جامعة الدول العربية إلى حدود التاسع من آب/ غشت 2011 لتصدر أول بيان لها بشأن أحداث سوريا، لتعلق عضويتها في ما بعد وتسلط عقوبات اقتصادية على القادة الحكوميين السوريين، كما قامت كل من السعودية والبحرين والكويت بسحب سفرائها من القطر الذي تصفه بـ”الشقيق”، إثر تصاعد “الحملات القمعية”.
أما في ما يخص مواقف بعض الدول الغربية مع بداية الأحداث في سوريا، فبعد اكتفائها لمدة خمسة أشهر بعبارات الإدانة لما وصفته بـ”قمع المتظاهرين”، مع دعوة النظام السوري إلى تفعيل إصلاحات سياسية واجتماعية، أعلنت كل من فرنسا وألمانيا وبريطانيا وكذا الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة وكندا، بشكل متزامن، أن الرئيس السوري بشار الأسد فقد شرعيته تماما، وعليه أن يتنحى من منصبه.
ومع تصاعد الصراع المسلح وانجراف الثورة السورية إلى منزلق الحرب الأهلية، عقد التدخل الدولي المباشر وغير المباشر الوضع في الداخل السوري، حتى وصل في مداه إلى ما يمكن وصفها بـ”الحرب العالمية المصغرة”، إذ أضحت سوريا ساحة تطاحن بين قوى إقليمية جريا وراء مصالحها، في حين ظل أبناء الوطن الواحد يؤدون الثمن الباهظ، ويرهنون مستقبل البلاد في أيدي دول عدة استغلت وضع الانقسام وولغت كلها من الدم السوري.
ونظرا للتحولات الكثيرة التي طرأت على مسار الأحداث في سوريا طيلة العقد الماضي، يضيق المجال للخوض فيها بتفصيل، لذلك سنكتفي بالإشارة إلى مراحل هامة ومتفاوتة، تميزت كل منها بتقاطبات متباينة على الأرض، أولها مرحلة “التمرّد المسلّح”، وامتدت من يوليو/تموز 2011 إلى نيسان/ أبريل 2012، ثم مرحلة تصعيد المعارك الحربية (2012 – 2013)، فصعود الجماعات الإسلامية بين يناير وسبتمبر من سنة 2014؛ ثم مرحلة تدخل الولايات المتحدة على الأرض لدعم هجمات الجماعات المعارضة (سبتمبر 2014 – سبتمبر 2015)، وبعدها مباشرة تدخل سلاح الجو الروسي يوم 30 سبتمبر 2015 بطلب من الرئيس السوري.
وفي 24 أغسطس/ آب 2016، تدخلت القوات المسلحة التركية بشكل مباشر في سوريا، قصد استهداف كل من داعش والقوات المتحالفة مع الأكراد، حسب ما أعلنته. وبعد توقيع اتفاق لوقف إطلاق النار وتحديد “مناطق لخفض التصعيد” أواخر سنة 2017، نشير إلى انطلاق مرحلة الضربات الجوية بقيادة الولايات المتحدة ابتداء أبريل/نيسان حتى أغسطس/آب سنة 2018؛ ثم إعلان ترامب انسحاب بلاده من سوريا والعراق…
وفي تعليق له على مضي عقد على انطلاق “الثورة السورية”، قال عبد الله الحريف، الكاتب الوطني الأسبق لحزب النهج الديمقراطي المغربي، اليساري المعارض، في تصريح خص به موقع “مدار”، إن “الثورة في سوريا بدأت سلمية، لكن رد النظام العنيف والقمعي استغل من طرف الإمبريالية الغربية والأنظمة الخليجية والكيان الصهيوني، التي سلحت ودربت ومولت القوى الأصولية الأكثر تخلفا وهمجية، كداعش والنصرة وغيرهما”، وأضاف أن “تركيا تدخلت أيضا باسم محاربة حزب العمال الكردستاني، لخدمة أطماعها التوسعية؛ ما قطع الطريق على أي حل سياسي وأدخل البلاد في حرب لا تبقي ولا تدر”، مردفا في حديثه عن مستقبل الأحداث في سوريا: “رغم انتصار النظام، مازال الحل السياسي بعيد المنال”.