مدار + مواقع: 10 كانون الثاني، يناير 2020
حدث أن طبّعت مصر والأردن مع دولة الاحتلال الإسرائيلي سنتي 1978 و1994 على التوالي، إذ كانت بلاد الكنانة أول دولة خرجت عن الإجماع العربي الرافض للاعتراف بدولة الاحتلال، كذلك حال نظام الهاشميين، الخاتم الثاني من سلسلة اعتبرها متتبعون بمثابة “إدارة الظهر للشعب الفلسطيني وحقوقه التاريخية”، تحت ذريعة “المصلحة الوطنية” و”الطبيعة الخاصة”، و”البحث عن السلام”.
وجرت تحت الجسر مياه كثيرة، ما خفي منها أكثر مما ظهر، فنضجت تحت نيران هادئة طبخة الاختراق الصهيوني لأنظمة بلدان عربية أخرى، إذ حدث في السر أن مرّت ملفات كثيرة أبرزها مختلف أشكال التعاون الاستخباراتي والأمني وعلاقات اقتصادية مغلفة ومتشعبة، وإحداث الأدوات التي مهّدت الطريق لما تسمّى الآن “اتفاقات آبراهام”؛ فلاحت الإمارات العربية المتحدة كثالث دولة تسل حبل التهافت، بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ودولة الاحتلال.
ولواقعة التطبيع الإماراتي- الإسرائيلي طابع خاص، ليس لأنه الأول بعد عقود، بل لأنه النموذج الواضح لخلفيات التطبيع، عنوانه صفقات للأعمال، لبناء أحلاف “إستراتيجية” وصفت بأكبر تنسيقات “الثورة المضادّة”.
وسجّل يوم الخميس 13 أغسطس/ غشت 2020 إعلان الرئيس الأمريكي دونالد ترامب توصّل الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل إلى ما أسماه “اتفاق سلام تاريخي” يسمح للبلدين بتطبيع العلاقات بينهما. وقبل أن ترتخي غصة المذهولين من الشعوب الرافضة للقرار، حذت البحرين حذو جارتها، فأعلن البيت الأبيض، مرّة أخرى، موافقة الملك البحريني حمد بن عيسى آل خليفة ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو على تطبيع العلاقات بين “دوليتيهما”. ويوم 15 أيلول/سبتمبر من السنة الماضية، نصّبت الأعلام وحضّرت الأقلام وأعد صك “آبراهام”، وبحديقة البيت الأبيض وقّعه كل من وزيري الخارجية البحريني والإماراتي، ورئيس الوزراء الإسرائيلي، والرئيس الأمريكي.
لكن التطبيع الإماراتي الإسرائيلي لم يكن وليد اليوم الذي أعلن عنه رسميا، فالبلد الذي كان يصف أيام السبعينيات دولة الاحتلال بـ”العدو” سرعان ما تنكّر للإجماع العربي المناصر للقضية الفلسطينية، والرافض لإقامة أي علاقات مع “العدو” إلى غاية استرجاع الفلسطينيين لحقوقهم الكاملة. ونستحضر ما قاله زايد بن سلطان آل نهيان، أول رئيس لدولة الإمارات، إذ اعتبر سنة 1971 أن “سياسة إسرائيل التوسعية والمخططات الصهيونية العنصرية موجهة ضد جميع الدول العربية، وخاصة تلك الغنية بالثروات الطبيعية”، مضيفا: “لا توجد دولة عربية في مأمن من مخاطر المعركة مع الصهيونية ما لم تلعب دورها وتتحمل مسؤولياتها في مواجهة العدو الإسرائيلي”؛ فلم تبق الإمارات على نهجها، وقام ابن زايد بعكس ما صرّح به أبوه.
ورغم أن زايد بن سلطان أقر سنة 1972 مرسوما رئاسيا يحظر التعامل مع إسرائيل والدخول إليها، إلا أن ذلك لم يمنع حكام الإمارات الحاليين من توقيع اتفاق “آبراهام”.
ولم تمرّ الخطوة دون رفض شعبي إماراتي؛ فرغم ظروف الرقابة والتضييق على الحريات إلا أن العديد من النشطاء على مواقع التواصل الاجتماعي نشروا عدة تغريدات وتدوينات مندّدة بالتعامل مع ما وصفوه بـ “العدو الصهيوني”، وجدّدوا دعمهم للقضية الفلسطينية.
ومهّد الطريق للخطوة الإماراتية واقع الانقسام والتشتت العربي، إذ أبت “جامعة الدول العربية” إلا أن تكون جسدا بلا روح ولا عمل، فلم تخط منذ زمن بعيد أي وثبة عملية تخرج “القضية” من عنق الزجاجة؛ وحتى بعد إعلان ما سمّيت “صفقة القرن”، وما مثّلته من إعلان صريح عن رغبة أمريكية إسرائيلية في تصفية القضية الفلسطينية، والزحف نحو الأردن ولبنان وسورية، وربما حتى مصر، غير أن الجامعة ظلّت عاجزة حتى عن إصدار موقف بحجم الإعلان واللحظة؛ مناخ شجّع الإمارات على القفز عن الالتزامات التاريخية لدول المنطقة. وفعلا لم يصدر بعد الإعلان عن تطبيع الإمارات والبحرين والسودان والمغرب لتطبيع علاقاتها مع إسرائيل أي مواقف إدانة، ما يشي بأن دولا أخرى ستتخذ الخطوة نفسها.
ورشحت تسريبات إعلامية تضع قطر، بعد بداية تسوية خلافاتها مع الإمارات والسعودية ومصر والبحرين، ضمن قائمة الدول التي ستطبّع مع إسرائيل. وقالت مصادر عبرية وأمريكية إن السعودية ستتّخذ القرار نفسه، وإن بن سلمان، ولي العهد السعودي، لعب دورا محوريا في تشجيع أبو ظبي على التطبيع مع دولة الاحتلال، وتوقّعت أن تكون الرياض على قائمة الدول المطبّعة في السنة الحالية أو المقبلة على أبعد تقدير؛ بينما تحدّثت مصادر أخرى عن سلطنة عمان، التي سبقت أن استقبلت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو.
وكانت الفزّاعة الشرقية إيران مبرّرا، من بين عدّة، للتحالف مع إسرائيل، ابتغاء الأمن، الذي تراهن الإمارات على شرائه من إسرائيل وواشنطن بمال النفط وتقديم تنازلات تلي الأخرى، واعتقدت أنها إذا طبّعت فإنها ستخرج من ركودها الاقتصادي، وستعوّض تخلّفها التكنولوجي، الذي لن تحجبه البنايات الشاهقة في دبي وأبو ظبي… ولم يخف يوما استخدام السلطة الإماراتية للتكنولوجيا الاستخباراتية الإسرائيلية لاستهداف المعارضين الإماراتيين بالداخل والخارج.
وسبق أن كشفت صحيفة “نيويورك تايمز“، سنة 2018، أن أبو ظبي تتعاون مع إسرائيل أمنيا، واستخدمت “برنامجا للتجسس على قطر والسعودية ورئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري، بالإضافة إلى المعارضين الإماراتيين في الداخل والخارج؛ كما سجلت مكالمات رئيس تحرير سابق لصحيفة في لندن”.
وأظهرت التسريبات أيضا كيف استخدم حكام الإمارات برامج التجسس الإسرائيلية منذ 2017، إذ قاموا سرّاً بتحويل الهواتف الذكية للمعارضين في الداخل والخارج إلى أجهزة مراقبة. ويتعلّق الأمر بالبرنامج سّيئ السمعة “بيغاسوس”، الذي طورته شركة “إن إس أو” الإسرائيلية، وهو نظام يصنّف بأنه عسكري، وتحتاج الشركة المطوّرة له إلى ترخيص من وزارة دفاع دولة الاحتلال من أجل تسويقه للحكومات.
هي الإمارات تبحث عن السلام مع إسرائيل، وكأنها كانت فعلا في حرب؛ ولم تخط نحو إقامة السلام في اليمن “السعيد” الذي تشن عليه ضمن تحالف تقوده السعودية حربا طالت وراح ضحّيتها الآلاف من القتلى والجرحى، مع معاناة استنكرتها الأمم المتحدة ومختلف هيئات المنتظم الدولي، إذ قتل الجوع الشيب والأطفال، وانتشرت أوبئة اعتقد العالم أنه تخلص منها منذ زمن. ومازال وحل الحرب يبتل دون أن يظهر أفق لنهايته، ومازال البلد الفقير يتمزّق.
وفي حصيلة الحرب باليمن أفادت منظمة “هيومن رايتس ووتش“ بأنه “قُتل وجُرِح أكثر من 17,500 مدني منذ 2015، وربع المدنيين الذين قتلوا في الغارات الجوية كانوا من النساء والأطفال؛ كما يعاني أكثر من 20 مليون شخص في اليمن من انعدام الأمن الغذائي، منهم 10 ملايين معرضون لخطر المجاعة”. وقالت الأمم المتحدة أيضا إن هناك أدلة على تورط الإمارات في جرائم حرب في اليمن.
ويحكي جيرمي إيسخاروف، السفير الإسرائيلي في ألمانيا، الذي كان أول دبلوماسي إسرائيلي يلتقي مسؤولاً إماراتياً، وهو جمال السويدي الذي كان يعمل مستشاراً سياسياً لولي عهد أبوظبي، محمد بن زايد، إن العلاقات الإسرائيلية الإماراتية تعود إلى ربع قرن، تحديدا سنة 1994، إذ التقى المسؤول الإسرائيلي بالسويدي، وناقشا موقف إسرائيل من صفقة شراء أبوظبي لطائرات “إف 16” إلى جانب قضايا أخرى بعد ذلك.
وقد أنشأ السويدي، وقتها مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية الذي كان يُستخدم كقناة خلفية للتطبيع بين الإمارات وإسرائيل، ولعقد لقاءات بين مسؤولي البلدين، حسب إيسخاروف، الذي شغل ذلك الحين مرتبة الرجل الثالث في السفارة الإسرائيلية بواشنطن، حسب ما أورده موقع “العربي الجديد”.
وأفاد المصدر ذاته بأن “الزيارات بين مسؤولي البلدين لم تنقطع على مدار السنوات الماضية، وعلى أعلى المستويات. ويقول إيسخاروف، في حديثه لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل”، إنه على تواصل دائم مع السفير الإماراتي في واشنطن وعرّاب العلاقة الحميمية بين أبوظبي وتل أبيب، يوسف العتيبة، على مدار السنوات الماضية. كما كشفت الصحافة الإسرائيلية أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، زار أبوظبي على الأقل مرتين خلال العامين الأخيرين. وهناك من يتحدّث عن أن وزير الخارجية الإماراتي، عبد الله بن زايد، زار تل أبيب بشكل منتظم يكاد يكون شهرياً (وأحياناً أسبوعياً) على مدار السنوات الماضية.
وذكرت العديد من المصادر الإعلامية العبرية أن الإمارات وإسرائيل تعملان بشكل وثيق من أجل توفير مساحة لتل أبيب من أجل وضع قدمها في منطقة الخليج، المقابلة لإيران ومضيق هرمز، ورجّحت أن توفر الإمارات لإسرائيل فضاء لإقامة قاعدة عسكرية جنوب اليمن، لم يتم تأكيد خبرها رسميا إلى حدود اللحظة.
ومن المرتقب أن تقفز التعاملات التجارية بين دولة الاحتلال وأبو ظبي إلى أكثر من أربعة مليارات دولار في غضون ثلاث إلى أربع سنوات، حسب ما صرّح به رئيس الاستخبارات الإسرائيلية، إيدي كوهين. وتشمل هذه التبادلات المعدّات العسكرية، السياحة، قطاع المصارف، والطاقة والطب والسياحة والتكنولوجيا والاستثمار المالي.