ريبيليون/ مدار: 18 تشرين الثاني/ نوفمبر 2025
بقلم: سيرجيو فيراري
إن السيطرة التجارية على الأدوية، وبراءات الاختراع التي تحميها، تتعارض في كثير من الحالات مع حق المرضى في الصحة. وتجسد شركة الأدوية متعددة الجنسيات “روش” ومنتجاتها المضادة لسرطان الثدي هذا التناقض.
يكشف تحقيق حديث حول أربعة أدوية مضادة لسرطان الثدي تنتجها هذه الشركة متعددة الجنسيات التي تتخذ من بازل بسويسرا مقراً لها، أنه بعد 27 عامًا من بدء تسويقها، لا تزال حوالي 100 براءة اختراع تحميها على سبيل الحصر. وهو ما يمثل درعاً حصيناً حقق لها مبيعات تجاوزت 156 مليار فرنك سويسري (192 مليار دولار)، مما يضمن لها احتكار هذه الفئة من الأدوية حتى عام 2042.
يُوصف عقار “هيرسبتين”، وهو أحد أبرز نجاحات “روش” التجارية منذ إطلاقه في أواخر التسعينيات – أولاً في الولايات المتحدة ثم في أوروبا – لعلاج شكل عدواني بشكل خاص من سرطان الثدي يصيب أكثر من 400 ألف شخص كل عام في جميع أنحاء العالم. وبالاقتران مع ثلاثة عقاقير مشتقة أخرى (بيرجيتا، كادسيلا، وفيسغو)، ضمن “هيرسبتين” لشركة “روش” سيطرة شبه مطلقة على السوق. المكونان الفعالان في هذه العقاقير هما “تراستوزوماب” و”بيرتوزوماب”، وهما نوعان من الأجسام المضادة أحادية النسيلة التي تعمل عن طريق الارتباط ببروتين “HER2” في الخلايا السرطانية لوقف نموها ومساعدة الجهاز المناعي على تدميرها.
جودة طبية أم احتكار؟
يسعى التقرير الذي نشرته للتو المنظمة السويسرية غير الحكومية “بابليك آي” (Public Eye) إلى الإجابة على سؤال جوهري: كيف يمكن تفسير هذا العمر الطويل لهذا الدواء البيولوجي وربحيته المليارية في سوق أدوية شديد التنافسية؟ على الرغم من أن “هيرسبتين” شكّل تقدمًا في علاج هذا النوع من السرطان، إلاّ أن السبب الرئيسي لنجاحه، وفقًا لتقرير “بابليك آي”، يرجع إلى أن الشركة “استخدمت وأساءت استخدام تكتيكات متنوعة لتمديد احتكارها وتأخير المنافسة قدر الإمكان”.
يُعتبر الدواء “بيولوجيًا” عندما يُصنّع من خلايا أو كائنات حية، وهي عملية أكثر تعقيدًا وتكلفة من الأدوية التقليدية المصنوعة من مواد خاملة. ومن هنا يأتي العدد الأكبر من براءات الاختراع. والمشكلة الكبرى في براءات الإنتاج هذه هي أنها تعرقل تطوير وتسويق الأدوية الجنيسة أو البدائل الحيوية.
تحدد الدراسة التي كشفت عنها “بابليك آي” 183 براءة اختراع مُنحت لشركة “روش” في الولايات المتحدة و95 في أوروبا. وفي نهاية أيلول/ سبتمبر 2025، كانت 100 من الأولى و64 من الثانية لا تزال سارية. من ناحية أخرى، على جانبي الأطلسي، تجري معالجة 20 طلب براءة اختراع أخرى لـ “روش”، وهي عملاق بين العمالقة توظف أكثر من 100 ألف شخص في مئة دولة.
لم يكن تحقيق “بابليك آي” سهلاً لأنه لم يكن هناك جرد سابق. ولإعداد قائمة براءات الاختراع المتعلقة بـ”تراستوزوماب” و”بيرتوزوماب”، استند الباحثون إلى وثائق قضائية، وهيئات تنظيمية، ومكاتب براءات اختراع وطنية، والمنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) نفسها، بالإضافة إلى مقالات علمية ومنشورات أخرى. “نظرًا لصعوبة إعادة بناء رؤية شاملة كهذه”، يقر التقرير النهائي، “فمن المحتمل أن تكون القائمة الفعلية لبراءات اختراع ‘روش’ لهذه العلاجات أوسع من ذلك”.
الآلية الشيطانية لبراءات الاختراع
براءة الاختراع هي حق حصري يُمنح لمالك الاختراع. وبالتالي، لا يمكن لأي شخص آخر إنتاجه أو تسويقه بشكل قانوني في البلدان التي مُنحت فيها البراءة. ولكي يكون الاختراع قابلاً للحماية ببراءة، يجب أن يستوفي ثلاثة شروط: أن يكون “جديدًا”، بمعنى أنه الأول من نوعه؛ وأن يكون “ابتكاريًا” حقًا، أي ذا إبداع أصلي؛ وأن يكون قابلاً للاستخدام بالكامل، أي ذا تطبيق صناعي للغرض الذي صُمم من أجله. في قطاع الأدوية، هناك نوعان من براءات الاختراع: الأولية، التي تحمي التركيب الجزيئي للدواء، والثانوية، التي تحمي التعديلات على الدواء الحاصل على براءة اختراع بالفعل. ومن الناحية العملية، تطيل هذه الأخيرة فترة الحصرية بشكل مصطنع.
يتم ضمان وحماية إطالة الحصرية، بشكل أساسي، من خلال “غابة من براءات الاختراع”، أي العديد من البراءات في آن واحد. إذا تم تسجيلها بشكل متدرج مع مرور الوقت، يمكن أن يتجاوز احتكار منتج ما فترة العشرين عامًا المنصوص عليها في القانون الدولي، كما حدث ولا يزال يحدث مع “تراستوزوماب” و”بيرتوزوماب”.
5% فقط من براءات اختراع “روش” لهذين الجزيئين هي براءات أولية. أما الـ 95% المتبقية فتتعلق ببراءات ثانوية تحصّن عملية تصنيع (40%)؛ تركيبات أو جرعات أو طرق إعطاء (30%)؛ طرق استخدام (13%)؛ أو تركيبات مع مواد فعالة أخرى (12%). هذه الاستراتيجية المتمثلة في إجراء تعديلات طفيفة لتكديس براءات الاختراع الثانوية بشكل تعسفي، والمعروفة باللغة الإنجليزية باسم “evergreening”، هي ممارسة شائعة في صناعة الأدوية. ففي الولايات المتحدة، على سبيل المثال، قامت “روش” بتسجيل 16 براءة اختراع ثانوية لـ”تراستوزوماب” و”بيرتوزوماب”، جميعها بعناوين متطابقة. وقد تمت الموافقة على ثلاث عشرة من تلك البراءات.
كما توثق “بابليك آي”، حتى عندما لا تحمي هذه البراءات الثانوية المادة الفعالة، التي تظل دون تغيير، فإنها على أي حال تغرق مكاتب التسجيل الرسمية، مما يجبرها على إجراء العديد من الفحوصات. وهي ظروف تمدد احتكار الدواء وتزيد أيضًا من خطر منح براءات اختراع بسهولة مفرطة بسبب تراكم الطلبات.
هناك استراتيجية أخرى تستخدمها شركات الأدوية متعددة الجنسيات بشكل، متكرر لإطالة احتكار أحد منتجاتها، من خلال إطلاق نسخة جديدة عندما تكون براءة الاختراع على وشك الانتهاء. وهذا ما حدث مع أدوية “روش” لسرطان الثدي. قبل وقت قصير من انتهاء صلاحية براءات اختراع “هيرسبتين”، غيرت “روش” طريقة الإعطاء من الحقن الوريدي إلى الحقن تحت الجلد، وبهذه الطريقة حصلت على عدة تراخيص ثانوية. ورغم أن هذه الطريقة الجديدة لإعطاء منتج موجود هي أكثر عملية وربما أقل تكلفة، تتساءل “بابليك آي”: هل يبرر هذا التعديل تمديد احتكار باهظ الثمن لمدة 20 عامًا أخرى؟
إن طرح “بيرجيتا” و”فيسغو” بعد 14 و22 عامًا من “هيرسبتين” على التوالي، سمح لشركة “روش” – التي تعد اليوم أكبر شركة للتكنولوجيا الحيوية في العالم – بتمديد احتكارها حتى عام 2042 في الولايات المتحدة و2039 في أوروبا. وإذا أخذنا في الاعتبار أن أول ترخيص لـ”روش” لـ”هيرسبتين” يعود إلى عام 1992، فإن احتكار هذا المنتج يبلغ بالفعل 50 عامًا في الولايات المتحدة و47 عامًا في أوروبا، أي أكثر بكثير من ضعف فترة العشرين عامًا المنصوص عليها في اتفاقية حقوق الملكية الفكرية المتعلقة بالتجارة لمنظمة التجارة العالمية.
بفضل هذه الآليات، تمكنت “روش” من فرض أسعار باهظة على أدويتها لعلاج سرطان الثدي من نوع “HER2”. حتى في سويسرا، مهدها ومقرها الرئيسي، لم تتردد “روش” في الضغط على السلطات الوطنية لفرض أسعارها. ففي عام 2014، غير راضية عن السعر الذي حددته الإدارة الفيدرالية، أزالت “روش” عقار “بيرجيتا” من قائمة الأدوية التي يغطيها التأمين الصحي الإلزامي، وهو ابتزاز نجح معها عندما أعادته بعد عام بسعر أعلى. وتشير “بابليك آي” إلى أن “روش” كررت هذه الاستراتيجية في عام 2025 مع أحد عقاقيرها الأخرى المضادة للسرطان، “لونسوميو”. حتى يومنا هذا، لا يزال هذا الدواء غير مدرج في قائمة الأدوية التي يغطيها التأمين الصحي.
ضد هذه الآلية الاحتكارية
لا تأتي الانتقادات من المنظمات غير الحكومية والحركات الاجتماعية والشبكات الدولية ودول الجنوب العالمي (مثل جنوب أفريقيا والهند وغيرها) فحسب، بل تأتي أيضًا من الأمم المتحدة نفسها. ففي عام 2013، نشرت ثلاث منظمات تابعة لمنظومة الأمم المتحدة أول وثيقة مشتركة تطالب بالصحة للجميع. واعترفت فيها بالحق في الحصول على الأدوية، على الرغم من أنها لم تنتقد بشكل مباشر قضية براءات الاختراع الحساسة لأنها كانت تعلم أن ذلك سيضعها في مواجهة مباشرة مع قوة عالمية كبرى مثل صناعة الأدوية.
منذ ذلك الحين وحتى الآن، أصبحت قضية السيطرة الاحتكارية على الأدوية تحتل مكانة أكثر أهمية في أجندة الأمم المتحدة. وحولت الجائحة والوصول إلى اللقاحات والأدوية ضد كوفيد القضية إلى نقاش عالمي، غذّته أيضًا الأرقام المتعلقة بمشكلة الاستبعاد الخطيرة من الاستفادة. ووفقًا لمنظمة الصحة العالمية، يفتقر ما يقرب من ملياري شخص في العالم إلى الوصول المنتظم إلى الأدوية الأساسية.
هذا العام، أعد مفوض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان تقريرًا حول الوصول إلى الصحة لجميع الأشخاص. يتضمن تقريره، الذي نوقش في اجتماع مجلس حقوق الإنسان في يونيو-يوليو، تحليلاً للممارسات الجيدة والتحديات النظامية الرئيسية، ويؤكد على “نهج قائم على حقوق الإنسان لضمان الوصول إلى الأدوية واللقاحات والمنتجات الصحية الأخرى، كجزء من إعمال حق كل شخص في التمتع بأعلى مستوى ممكن من الصحة البدنية والعقلية”.
توصيته الأخيرة، على الرغم من تلطيفها بمفردات دبلوماسية نمطية، خاصة بالعديد من وثائق الأمم المتحدة الرسمية، موجهة إلى شركات الأدوية. إذ يطلب منها احترام حق جميع الأشخاص في الحصول على الأدوية واللقاحات والمنتجات الصحية الأخرى اللازمة، ويصر على مفهوم العناية الواجبة، وهي آلية تسعى إلى تقليل مخاطر القرارات السيئة. وبشكل عام، يتعلق الأمر بالالتزام المؤسسي بالتصرف بالحرص المعقول اللازم لتجنب إلحاق الضرر بالآخرين أو الامتثال للوائح، وهو التزام يمتد إلى “السياسات والممارسات التجارية في مجالات البحث والتطوير، والتسعير، وإدارة الملكية الفكرية، والتوزيع، ونقل التكنولوجيا، من بين أمور أخرى”.
خلاصة القول: خطابات ومقترحات كثيرة تدعي حل المآسي، دون أن تنجح. في العديد من البلدان منخفضة الدخل في أفريقيا وآسيا، لا يستطيع أكثر من نصف السكان الحصول على الأدوية الأساسية. وفي الدول النامية، حيث يُقدر أن 42 مليون شخص يعانون من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، لا تتوفر العلاجات المضادة للفيروسات القهقرية المنقذة للحياة إلا لـ 300 ألف شخص من بين 5 إلى 6 ملايين يحتاجونها اليوم. إنها مفارقة لا جواب لها في نظام صحي دولي، حيث تخفي الأرقام الفلكية لأرباح صناعة الأدوية حقيقة افتقار ثلث سكان العالم تقريبًا إلى الأدوية الأساسية.

