مدار: 21 كانون الأول/ ديسمبر 2025
بقلم: موسى أبو هشهش
حين يُختزل حلم الفلسطيني في غزة في أن يتوقف المطر، ذلك (السخط السماوي)، كما كانت تصفه أمّي حين كنا صغارًا، وتصلّي لله وتطلب منه أن يوقف سخط السماء التي تصب أمطارها الغزيرة على سطح الصفيح في الغرفة الصغيرة التي كنا نعيش فيها في المخيم، فيدلف الماء من ثقوب الصفيح ويبلل الفراش وأرض الغرفة، وحين يختزل مطلب الفلسطيني في الضفة الغربية أن يفتح الحاجز كي يتجنب المشي في الوحل أو تحت حرارة الشمس اللاهبة، وحين يختصر مطلب العالم أن تمنع إسرائيل من المشاركة في مسابقة الأغنية الأوروبية (Eurovision)…
حين يحدث هذا، فإن الحديث عن الأحلام العريضة والكبرى للفلسطينيين مثل حق تقرير المصير، وحل الدولتين، وحتى الإدانات لجرائم الحرب الإسرائيلية والقلق الدولي من خطط إسرائيل لإبادة الفلسطينيين وتهجيرهم والتطهير العرقي، تصبح من أحاديث الترف النافلة، وهي ليست أكثر من جدل بيزنطي وثرثرة سياسية مملة وساخرة، ولا تُؤشِّر فقط إلى حجم الكارثة الإنسانية التي يعيشها المواطن الفلسطيني في غزة والضفة الغربية، وإنما أكثر إلى حجم الكارثة الأخلاقية التي يعيشها المجتمع الدولي بكل مكوناته ومنظوماته الحقوقية قبل السياسة التي تتشدق بشعارات الحرية والعدالة وحقوق الإنسان وحتى حقوق الحيوان، وتنفق المليارات وتوظف الآلاف لمراقبة سير العدالة وتطبيق حقوق الإنسان حول العالم..
في خلفية هذه اللوحة لحالة البؤس الفلسطيني والدولي، يقف صُنّاع القرار الدوليون يتوسطهم النرجسي ترامب، وعلى يمينه نتنياهو وسموتريتش وبن غفير وبقية رموز الفاشية الإسرائيلية، وعلى يساره زعماء العالم الأوروبيون وخلفهم موظفو الأمم المتحدة و(الوسطاء العرب والإسلاميون) ومن زاحم من الزعماء الآخرين لتحتويهم الصورة الجماعية التذكارية، وهم يرفعون لافتة ترامب للسلام في غزة والشرق الأوسط حسب الخطة التي طرحها ترامب قبل شهرين وأيّدها مجلس الأمن في قراره رقم 1803 والتي وضعت غزة تحت وصاية أمريكية طويلة الأمد، وبتفويض دولي كامل أسكت الوسطاء قبل المعارضين لحرب الإبادة وأجهض الحراك الدولي الشعبي المتصاعد حول العالم والذي كان من المأمول أن يعمق عزلة إسرائيل ويضع حدًا لفاشيتها وغطرستها، ويجبرها على وقف عدوانها وجرائمها ضد الفلسطينيين…
تلك الخطة التي لم تجلب السلام ولم توقف القتل، ولم تدخل الخيام إلى غزة لتحمي سكانها من قساوة الطقس الذي يصب سخطه على الأطفال والنساء ويغرق ويجرف الخيام المهترئة والممزقة.. ذلك السلام الذي ما زال ترامب يقول إنه صامد ويفاخر أنه السلام الثامن الذي أنجزه خلال أقل من عام في فترة حكمه…
أثَمّةُ أكثر سخرية من هذا؟ وهل أكثر سخرية من أن تخاطب حركة حماس ترامب نفسه وتناشده وتطلب منه أن يضع حدًا للخروقات الإسرائيلية لوقف إطلاق النار، وإلزام إسرائيل بتنفيذ البروتوكول الإنساني لإدخال المساعدات والخيام والوقود؟ وهل أكثر سخرية من أن يواصل المجتمع الدولي التعبير عن قلقه العميق لما يحدث في غزة والضفة الغربية دون اتخاذ إجراء عملي واحد سوى (السعي لمنع إسرائيل من المشاركة في مسابقة الأغنية الأوروبية) ليرسل رسالة جادة لنتنياهو وفريقه أن دولتهم تجاوزت كل الخطوط الحمراء؟
إن مخاطبة ترامب للتدخل ووقف الكارثة الإنسانية في غزة، وكذلك مخاطبة المجتمع الدولي للضغط لوقف تغول الاستيطان واعتداءات المستوطنين في الضفة الغربية، وكذلك الطلب من الجيش الإسرائيلي بفتح الحواجز وإنهاء سياسة الفصل العنصري، أشبه بشاة تطلب من الجزار أن يلقي بسكينه جانبًا ويتركها لشأنها، أو بخروف يطلب من الذئب أن يخلي سبيله بعد أن غرز مخالبه في ظهره، أما مناشدة الوسطاء للضغط على صاحب خطة السلام للتدخل فهي أشبه بنكتة يرددها أهل الخيام التي أغرقتها الأمطار في غزة ولا تُضحك أحدًا..
وعليه فليس أمام الفلسطينيين والفلسطينيات الذين أسقط في أيديهم ويئسوا من رحمة ترامب والمجتمع الدولي والعرب المنشغلين بكأس العرب، أن يرفعوا أيديهم إلى السماء ويصلّون للرب أن يوقف الأمطار ويلطف بهم، وأما أولئك الذين يعيشون في الضفة الغربية وأسعدهم سقوط أمطار الخير الغزيرة، ويقفون أمام البوابات المغلقة في مداخل المدن والبلدات والمخيمات التي تحولت إلى سجون مفتوحة، فليس أمامهم إلا انتظار الجندي الذي يحمل مفاتيح البوابات الحديدية أو المشي في الوحل والبحث عن مسالك بديلة للوصول إلى المشافي أو أعمالهم أو إلى الجامعات حتى يقضي الله أمرًا كان مفعولًا..
هكذا اختُزلت أحلام الفلسطيني، وهكذا اختزل العالم (الحر) مبادئ الحرية والعدالة بمنع مشاركة إسرائيل في (Eurovision).

