احتجاجات مصر..من تسلط النظام إلى كسر جدار القمع

مشاركة المقال

DR

مدار + مواقع: 30 أيلول/ سبتمبر 2020

خرجت احتجاجات شعبية بقرى الهامش المصري، من الصعيد الفقير، وأفقر المحافظات المصرية على الإطلاق، وهي الأقصر، سوهاج، أسيوط، والمينا؛ منذ العشرين من شهر أيلول/ سبتمبر الجاري، احتجاجا على الفقر والتهميش، وغلاء الأسعار، وتعبيرا عن التذمر من النظام السياسي “الجاثم على أم الدنيا”، في حدث اعتبره مراقبون نجاحا باهرا في كسر جدار القمع.

واندلعت موجة الاحتجاجات إثر قرار السلطات المصرية هدم الآلاف من البيوت، بدعوى أنها بنيت خارج إطار القانون، وأنها منازل مخالفة أو مبنية دون تراخيص، وتنتهك الأراضي الزراعية، تحت غطاء “قانون التصالح” المثير للجدل.

هدم المنازل “المخالفة”، صورة: يوتوب، DR

وعبر الكثير من المواطنين عن امتعاضهم من القانون، لأنهم غير قادرين على تسديد المبالغ المحددة؛ غير أن السلطات باشرت عمليات الهدم على نطاق واسع، معززة بفرق أمنية، رافضة الإصغاء إلى هموم الناس الذين أثقلت كاهلهم تكاليف الحياة المعيشية الصعبة، والتي عمقتها جائحة كورونا.

وأثارت إجراءات السلطات الكثير من التساؤلات، هل يتم هدم المنازل لأنها مخالفة أم لأن أصحابها لم يسددوا المبالغ المالية التي تطالب بها السلطات؟ ولماذا يتم الهدم في هذه الفترة الصعبة بالذات؟ ولماذا لم تذهب الدولة تجاه تيسيير الإجراءات دون تشريد الأسر وإلقائها إلى الشارع.

قوات الأمن تسند هدم المنازل “المخالفة”، صورة: يوتوب، DR

لم يتأخر رد الشارع المصري، وفي مناخ سياسي عام يجرم الاحتجاج والتظاهر، وفي بلد امتلأت فيه السجون بالمعارضين السياسيين والصحافيين ومعتقلي الرأي، تصاعدت دعوات للتظاهر والإحتجاج على تردي الأوضاع المعيشية، وتمادي سطوة القمع وإغلاق مجال الحريات العامة.

وخرجت مظاهرات صغيرة في العديد من المدن المصرية، وبغض النظر عن حجمها إلا أن الخروج إلى الشارع في حد ذاته كان حادثا فارقا في السنوات الماضية، وتميزت الاحتجاجات بأنها تمركزت في قرى الهامش المعدمة، مثل أفقر المحافظات المصرية (سوهاج، الأقصر، المينا وأسيوط). وتتتراوح نسب الفقر في هذه المناطق بين 50 و60 بالمائة، وهي الأعلى في العالم. وتظاهر المواطنون في قرى الصعيد وأحيائه الصغيرة، في حين وصف نشطاء مواقع التواصل الاجتماعي التظاهرات باتفاضة “أصحاب الجلابيب”، في إشارة إلى أن غالبية المتظاهرين ينتمون إلى الطبقات المعدمة.

وواجهت السلطات الاحتجاجات في البداية بالإنكار الرسمي، والقمع في الميدان، بينما اندلعت مواجهات محدودة بين المتظاهرين وقوات الأمن، في وقت وثق نشطاء رجال الأمن وهم يطلقون الرصاص على المحتجين. كما شنت الأجهزة الأمنية حملة اعتقالات واسعة في صفوف الشباب المتظاهر والعديد من المعتقلين السابقين بالرغم من أنهم لم يشاركوا أو يعبروا عن دعمهم للمظاهرات.

 ووصف مراقبون هذه الإجراءات بـ”الطبيعية” في ظل توجس السلطات من خروج الأوضاع عن السيطرة، في بلد يغلي في صمت.

عبد الفتاح السيسي يهدد المواطنين، صورة: يوتوب، DR

ولم يتوان السيسي في تهديد الرافضين للهدم، ففي كلمة ألقاها أثناء تدشين أحد المشاريع بالأسكندرية غرب البلاد قال: “لن أسمح أبدا بأن نهد بلادنا وأن نضيعها بهذا الشكل … لو اقتضى الأمر سأجعل الجيش المصري ينزل لكل قرى مصر، وأنا أحدثكم حتى تعرفوا جميعا، … إذا كنا مقتنعين، وأنا أتكلم بمنتهى الجدية والحزم في الموضوع ..لقد أحضرنا معدات هندسية تكفي أن أنزل لكل القرى هاته وأبيد وأزيل كل هذا، بالمعدات الهندسية”.

وبعد سياسة إنكار المظاهرات، عاد عبد الفتاح السيسي ليعترف “ضمنيا” بوجود احتجاجات، ووصف بأن الغرض منها “ليس الإصلاح، بل هدم الدولة”، وفي تصريحات أثناء افتتاحه مجمعا لتكرير النفط في منطقة مسطرد بمحافظة القليوبية، قال: “هناك من يختار الظروف الصعبة حتى يسيئوا ويشككوا للمصريين في ما نقوم به، وأن هذا ضدهم”، في إشارة ضمنية إلى المظاهرات، وأضاف: “أنا أشكر المصريين” الذين لم يستجيبوا لدعوات “البعض الذين حاولوا إشعال الوضع”.

وبينما تبدو الحاجة ماسة إلى مشاريع تنموية تحاصر نسب الفقر المستفحل، تصر الدولة المصرية على استثمار موارد الدولة في مشاريع ضخمة، يرى مختصون أنه يمكن تأجيلها. وتقوم مصر ببناء مشروع العاصمة الإدارية الجديدة التي تبلغ تكلفتها 60 مليار دولار أمريكي.

وتغرق مصر في ديونها الخارجية، التي بلغت 120 مليار دولار أمريكي، فيما ذهبت إلى تدشين مشروع ضخم آخر هو توسيع قناة السويس، الذي انتهى هو الآخر بانخفاض مداخيل القناة.

وتقوم مصر بالتوسع في الدين الخارجي، وتعويم الجنيه المصري، المتداعي أصلا، وقامت بتجميد الأجور؛ فيما استمرت أسعار الوقود والنقل في الارتفاع، مع تخفيض الدعم عن الخبز، تزامنا مع تصاعد جنوني للمواد الغذائية.

وأثناء المظاهرات التي اندلعت منتصف الشهر الجاري، قالت مصادر طبية إن شخصا قتل خلال اشتباكات مع الشرطة ليل الجمعة السبت 19 أيلول/ سبتمبر، في قرية البليدة بالقرب من مدينة العياط أثناء تظاهرة معارضة لعبد الفتاح السيسي، حسب أسرته ومصادر طبية.

مظاهرة مناوئة للسيسي، منطقة العياط، صورة: فايسبوك، DR

وحسب فيديوهات رشحت على مواقع التواصل الاجتماعي، رفع المتظاهرون، بمناطق عدة من المحافظات المصرية، وبعض أحياء القاهرة، لافتات تطالب السيسي بالرحيل، وعبروا عن سوء أوضاعهم الاجتماعية والاقتصادية، أثناء مسيرات غالبيتها ليلية.

ووصلت المظاهرات إلى ذروتها الجمعة الماضي، إذ خرج مصريون بشكل أكبر بعد أداء صلاة الجمعة ومساء اليوم نفسه، استجابة لدعوة “جمعة الغضب” التي دشنها نشطاء، وقالوا إنها مجرد بداية ستليها “أيام الغضب” أخرى.

ونفى الإعلام المصري وجود مظاهرات، واتهم الإعلام الأجنبي بالفبركة، غير أن مصادر حقوقية مصرية صرحت لقنوات إعلامية أجنبية بأن السلطات المصرية استخدمت القوة بشكل مفرط تجاه المتظاهرين. وقال جمال عبد، محام ومدير الشبكة العربية لحقوق الإنسان، إنه رصد “الاستخدام المفرط للقوة، واستخدام الرش والقنابل المسيلة للدموع، في العديد من التظاهرات، لاسيما في العياط ومنطقة الجيزة، ومركز أبو صفيح والصف”، وزاد: “شاهدنا أن هذا كان استخداما مفرطا للقوة”. وأردف المتحدث للإعلام الفرنسي: “حتى لو اختلفنا مع طريقة الدعوة لخروج المتظاهرين، فهم خرجوا متحدين القمع العنيف الذي لم تشهده مصر من قبل”. واعتبرت منظمات حقوقية أن السيسي يشن حملة قمع ضد المتظاهرين.

وبلغ عدد المعتقلين حتى صبيحة اليوم، 29 أيلول/ سبتمبر، نحو 510، بينهم 68 قاصرا، حسب صفحة “الاشتراكيون الثوريون” بمصر.

عدد المعتقلين،صورة: الاشتراكيون الثوريون، تويتر، DR

ويصر المحتجون على استئناف المظاهرات رغم أجواء القمع الشديد والتعتيم الإعلامي. وخرجت دعوات على مواقع التواصل الاجتماعي، للخروج في “جمعة الغضب الثانية” يوم الجمعة المقبل، 02 تشرين الأول/ أكتوبر.

وبعد سياسة الإنكار، عادت السلطات إلى التقليل من أهمية التظاهرات، إلا أنه أمام تنامي هذه الأخيرة، وتخوف النظام الانقلابي المصري، من افجار الأوضاع، سارعت السلطات المصرية إلى إقرار العديد من الإجراءات من أجل التخفيف من حدة التوتر الاجتماعي الذي تعيشه البلاد.

وعادت الحكومة إلى تمديد مهملة التصالح في مخالفات البناء، وتخفيض قيمة الغرامة أكثر من مرة، وتحمل الحزب النظام تكاليف غرامات آلاف المخالفات. وأعلن السيسي يوم الأحد الماضي استمرار الدعم الحكومي المقرر للعمالة المؤقتة لمدة 3 أشهر أخرى حتى نهاية العام.

وإثر التطورات الأخرى، خرجت أحزاب سياسية ببيانات مساندة للاحتجاجات، بالرغم من أجواء الحصار الشديد التي يفرضها النظام العسكري؛ ودعا حزب الدستور إلى “الإنصات إلى مطالب الشعب”.

وقالت حركة الاشتراكيين الثوريين إن “المظاهرات لا تُقاس بحجمها أو درجة انتشارها، ولا بطبيعة الدعوات التي سبقتها أو الداعين لها، لكن تقاس ضمن السياق الذي حدثت فيه، حيث كانت ضخمة بالقياس لما سبقها من مصادرة لكل أشكال الاحتجاج والتعبير، وإحكام القبضة الأمنية على كل مظاهر العمل السياسي والاجتماعي وإغلاق المجال”.

 وأوضحت الحركة اليسارية المعارضة لنظام العسكر على أنه “يستحيل التأكد من حجم المظاهرات وانتشارها في الأيام الماضية، بسبب التعتيم الإعلامي، ولكن ما لا يقبل الشك هو أن حجم الغضب في الشارع أضعاف تلك المظاهرات التي لن تكون آخر التحركات الجماهيرية، طالما استمرت السلطة في تطبيق سياسات الإفقار والاضطهاد”، حسب بيان صدر يوم الأحد 27 أيلول/ سبتمبر 2020.

وعبر “الاشتراكيون الثوريون ” عن تضامنهم مع “كل احتجاج جماهيري ضد سياسات الإفقار والاضطهاد التي تمارسها السلطة، والحق المطلق للجماهير في التعبير الاحتجاجي، ورفضها سياسات الملاحقات الأمنية والقمع والاعتقالات التي واجهت السلطة بها المتظاهرين”، وطالبت بـ “إطلاق سراح كافة المعتقلين ومحاسبة المسؤولين عن ضحايا قمع المظاهرات”، حسب المصدر ذاته.

ولم يتأخر حزب “التحالف الشعبي الاشتراكي” في إصدار بيان يندد بأجواء القمع، وعبر عن “رفضه مواجهة الاحتجاجات الجماهيرية بالقوة والقمع الذي طال حتى الأطفال، محذرا من توجهات السلطة لتجاهل الدوافع الاقتصادية والاجتماعية التي فجرت الغضب، وتحويل هذه الاحتجاجات، كالعادة إلى ملف أمني، بدلا من إدراك حاجة البلاد إلى إصلاح اقتصادي واجتماعي وسياسي عاجل، يستجيب لمطالب الشعب في العدل والحرية”.

وقال التنظيم اليساري إن “الاحتجاجات الجماهيرية التي تفجرت في بعض قرى وأحياء المدن في مصر ليست نتاج مؤامرة، بل صنعتها سياسات تجاهلت مطالب وحقوق الفقراء وصمت آذانها عن أنين بات مسموعا، وتعاملت معه بمنطق القوة إلى حد تصريح الرئيس السيسي باستخدام الجيش لهدم البيوت، لأول مرة في التاريخ المصري”، حسب الوثيقة ذاتها.

وطالب الحزب باتخاذ إجراءات عاجلة، أبرزها الإفراج عن السجناء المتهمين على ذمة الأحداث الأخيرة، خاصة الأطفال، وإقرار الحق في التظاهر السلمي والإفراج عن المحبوسين احتياطيا على ذمة قضايا الرأي عامة، ضمن انفراجة سياسية حقيقية لفتح النوافذ والزنازين والاعتراف بحق الاحتجاج السلمي والحق في التعددية والتنوع، حسب بيان عممه أعضاؤه على مواقع التواصل الاجتماعي، مساء الأحد الماضي، 27 أيلول دسمبر 2020.

هذا ويعود مشكل المنازل “المخالفة” إلى أكثر من أربعين سنة حسب تصريحات رئيس الوزراء المصري، غير أن السلطات قررت “طي الملف نهائيا” خلال هذه السنة بالذات، وأصدر مجلس الوزراء بيانا قال فيه: “وافق مجلس الوزراء على تفعيل أحكام القانون رقم 17 لسنة 2019 في شأن التصالح في بعض مخالفات البناء، وتقنين أوضاعها بما يدعم استيفاء حقوق الدولة”، وأوضح البيان أنه “تم الاتفاق على سداد المخالف 25% من قيمة التصالح على المساحة التي تقدم للتصالح بشأنها، بحد أقصى المبالغ المحددة قرين كل مخالفة”.

واستغرق القانون 17 لسنة 2019 نحو أربع سنوات من أجل إقرار نسخته الأولى في نيسان/ أبريل الماضي، غير أنه تم تعديله مرارا إلى غاية إصدار نسخته الأخيرة في 07 تموز/ يوليو 2020.

ويرى مراقبون للشأن المصري أن تمادي النظام الانقلابي المصري في قمع الحريات واستهداف جيوب المواطنين يمكن أن يفجر ثورة وشيكة، قد تطيح بالنظام الذي استولى على السلطة نتيجة انقلاب عسكري، ودعمته جهات خارجية مثل السعودية والإمارات.

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة