معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 10 مايو/ أيار 2022
فيجاي براشاد*
توصلت حكومة الأرجنتين في أوائل مارس/ آذار إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي بشأن صفقة بقيمة 45 مليار دولار لدعم ماليتها الهشة، وكان الدافع وراءها حاجة الحكومة إلى دفع قسط قدره 2.8 مليار دولار من قرض احتياطي من صندوق النقد الدولي بقيمة 57 مليار دولار، تم الحصول عليه في عهد الرئيس السابق موريسيو ماكري عام 2018. وقد عزز هذا القرض، الذي يعتبر الأضخم في تاريخ المؤسسة المالية، من حدة الانقسامات داخل المجتمع الأرجنتيني، وفي العام الموالي، أطيح بإدارة ماكري في الانتخابات من قبل تحالف جبهة تودوس من اليسار الوسطي الذي شن حملة ضمن برنامج صارم لمكافحة التقشف ومناهضة صندوق النقد الدولي.
رفض الرئيس ألبيرتو فرنانديز عندما تولى منصبه في ديسمبر/ كانون أول 2019 حصة الـ13 مليار الأخيرة من حزمة قروض صندوق النقد الدولي، وهي خطوة لاقت ترحيباً لدى شرائح واسعة من المجتمع الأرجنتيني. لقد نجحت حكومة فرنانديز في العام الموالي في إعادة هيكلة الدين البالغ 66 مليار دولار، الذي يحتفظ به حمَلة السندات الأثرياء، وفتحت نقاشات مع صندوق النقد الدولي لتأجيل سداد الديون التي تكبدتها حكومة ماكري، لكن صندوق النقد الدولي كان صارماً وأصر على السداد. لكن لم يحسم قرض ماكري ولا الاتفاق الجديد في عهد الرئيس فرنانديز صراع الأرجنتين طويل الأمد مع ماليتها العامة.
يُستخدم مصطلح “الديون الكريهة” لوصف الأموال المستحقة على المجتمعات التي كانت حكوماتها غير ديمقراطية. وصاغ هذا المفهوم ألكسندر ناحوم ساك في كتابه بعنوان آثار تحولات الدولة على ديونها العامة والالتزامات المالية الأخرى (1927)، حيث كتب: “إذا تكبدت القوة الاستبدادية ديناً ليس لاحتياجات أو صالح الدولة، بل لتعزيز نظامها الاستبدادي وقمع سكانها الذين يناضلون ضده… فإن هذا الدين كريه بالنسبة لسكان الدولة”. وعندما يسقط هذا النظام الاستبدادي تسقط معه هذه الديون.
عندما حكم النظام العسكري الأرجنتيني البلاد (1976-83)، أقرضه صندوق النقد الدولي المال بسخاء، ما أدى إلى تضخم ديون البلاد من 7 مليارات دولار في اللحظة التي تولى فيها الجيش السلطة إلى 42 مليار دولار عندما تمت الإطاحة به. من الواضح أن توفير صندوق النقد الدولي للأموال للمجلس العسكري الأرجنتيني – الذي قتل وعذب وأخفى 30000 شخص – أدى إلى تحريك الدائرة القبيحة للديون واليأس التي استمرت حتى اليوم. وإن عدم إلغاء تلك “الديون البغيضة” – تماماً كما لم يتم إلغاء ديون الفصل العنصري في جنوب إفريقيا – يخبرنا الكثير عن الواقع القبيح للتمويل الدولي.
إن الصفقة التي أبرمها صندوق النقد الدولي مع حكومة فرنانديز تشبه تماماً الصفقات الأخرى التي أبرمها صندوق النقد الدولي مع الدول الهشة؛ فخلال جائحة كورونا جاءت 85% من قروض صندوق النقد الدولي للدول النامية بشروط تقشفية أدت إلى تفاقم أزماتها الاجتماعية. إن ثلاثة من الشروط الأكثر شيوعاً لقروض صندوق النقد الدولي هذه هي التخفيضات والتجميد في أجور القطاع العام، وزيادة وفرض ضرائب القيمة المضافة، والتخفيضات الكبيرة في الإنفاق العام (لاسيما لدعم المستهلك). ومن خلال اتفاقه الجديد مع الأرجنتين، سيفحص صندوق النقد الدولي عمليات الحكومة أربع مرات في السنة، ليصبح المشرف الفعلي على الاقتصاد الأرجنتيني. لقد وافقت الحكومة على تقليص عجز الموازنة من 3% في 2011 إلى 0.9% في 2024، ومن ثم إلى 0% في 2025، ومن أجل تحقيق ذلك، يتعين عليها تقليص مجالات كبيرة من الإنفاق الاجتماعي، بما في ذلك الإعانات لمجموعة من السلع الاستهلاكية.
أشارت المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا جيورجيفا، بعد التوصل إلى الاتفاق، إلى أن التحديات الكبيرة التي تواجه الأرجنتين لن تخففها خطة صندوق النقد الدولي، إذ قالت: “مازالت الأرجنتين تواجه تحديات اقتصادية واجتماعية استثنائية، بما في ذلك انخفاض دخل الفرد، وارتفاع مستويات الفقر، واستمرار التضخم المرتفع، وعبء الديون الثقيل، وانخفاض الهوامش الوقائية الخارجية”. وبناءً على ذلك، أشارت جيورجيفا إلى أن “المخاطر التي يتعرض لها البرنامج مرتفعة بشكل استثنائي”، ما يعني أن المزيد من التخلف عن السداد وارد جداً.
قبل أسابيع قليلة من توصل الأرجنتين إلى الاتفاق مع صندوق النقد الدولي، عقد الرئيس فرنانديز ورئيس الصين شي جين بينغ لقاءً ثنائياً في بكين، وقعت خلاله الأرجنتين على مبادرة الحزام والطريق التي تقودها الصين. ويذكر أن الأرجنتين هي الدولة رقم 21 من أمريكا اللاتينية التي تنضم إلى هذه المبادرة، وهي أيضاً الاقتصاد الأكبر الذي ينضم إلى المبادرة من تلك المنطقة طالما أن الطلبات معلقة مع البرازيل والمكسيك.
لقد ارتفعت التوقعات بين شرائح في الأرجنتين بأن مبادرة الحزام والطريق ستوفر طريقاً للخروج من قبضة صندوق النقد الدولي؛ ويظل هذا احتمالاً وارداً حتى مع عودة الرئيس فرنانديز إلى صندوق النقد الدولي.
يدرس فريقنا في بوينس آيرس بعناية علاقات الصين المتنامية مع منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية، وقد نتج عن هذه الدراسة أحدث ملف لدينا رقم 51 بعنوان التطلع إلى الصين: التعددية القطبية كفرصة لشعب أمريكا اللاتينية (أبريل / نيسان 2022). وتكمن الحجة الأساسية للملف في أن ظهور برامج مثل مبادرة الحزام والطريق يوفر لبلدان مثل الأرجنتين خيارات لتمويل التنمية؛ فإذا كانت للأرجنتين حرية أكبر في اختيار سبل التمويل، ستكون في وضع أفضل لرفض العروض القاسية للمساعدة الاحتياطية من صندوق النقد الدولي، التي تأتي مع شروط التقشف. وتفتح إمكانية هذه الاختيارات الباب أمام بلدان مثل الأرجنتين لتطوير إستراتيجية تنمية وطنية وإقليمية حقيقية لا تتم كتابتها من قبل موظفي صندوق النقد الدولي في واشنطن.
ويتضح من الملف أن مجرد دخول مبادرة الحزام والطريق إلى منطقة البحر الكاريبي وأمريكا اللاتينية وحده ليس كافياً، وأن مشاريع أعمق تشكل ضرورة:
من الممكن للتكامل الصيني أن يعزز “تنمية اللاتنمية” إذا أنتجت مشاريع دول أمريكا اللاتينية علاقة جديدة من التبعية إلى الصين، عبر تصدير المنتجات الأولية فقط. وفي المقابل، سيكون من الأفضل لشعوب المنطقة أن تقوم العلاقة على المساواة (تعدد الأقطاب) وكذلك على نقل التكنولوجيا، وتوسيع نطاق عمليات الإنتاج، والتكامل الإقليمي (السيادة الوطنية والإقليمية).
يبلغ الإنفاق السنوي لمبادرة الحزام والطريق حوالي 50 مليار دولار، مع تنبؤات تقدر بأن إجمالي الإنفاق لهذه المبادرة سيبلغ 1.3 تريليون دولار بحلول العام 2027. وتركز تدفقات رأس المال هذه بشكل أساسي على الاستثمارات طويلة الأمد في البنية التحتية بدلاً من عمليات الإنقاذ قصيرة الأمد، على الرغم من أن الدراسات الجديدة تشير إلى أن الصين قدمت سيولة قصيرة الأمد للعديد من البلدان. وبين عامي 2009 و2020، دخل بنك الصين الشعبي في ترتيبات ثنائية لمبادلة العملات مع 41 دولة على الأقل، حيث تتم مقايضات العملات هذه بين العملة المحلية (البيزو الأرجنتيني، على سبيل المثال) والرنمينبي الصيني (RMB). وتستخدم العملة المحلية كضمان، فيما يستخدم الرنمينبي إما لشراء السلع أو للحصول على الدولار.
إن الجمع بين استثمارات مبادرة الحزام والطريق ومقايضات العملة بالرنمينبي يوفر للبلدان بدائل فورية لصندوق النقد الدولي ومتطلباته التقشفية. وطلبت حكومة الأرجنتين في يناير/ كانون ثاني 2022 من الصين زيادة مقايضة 130 مليار يوان (20.6 مليار دولار) بمقدار 20 مليار يوان إضافية (3.14 مليار دولار) لتغطية مدفوعات صندوق النقد الدولي، وبعد بضعة أسابيع، قدم بنك الشعب الصيني المقايضة اللازمة للبنك المركزي الأرجنتيني؛ وعلى الرغم من هذا التدفق النقدي ذهبت الأرجنتين إلى صندوق النقد الدولي.
من الممكن العثور على الإجابة عن سبب اتخاذ الأرجنتين هذا القرار في الرسالة التي كتبها مارتين جوزمان (وزير الاقتصاد) وميغيل بيسكي (رئيس البنك المركزي) إلى جورجيفا من صندوق النقد الدولي في 3 مارس/ آذار 2022، حيث وعدت الأرجنتين في الرسالة بـ “تحسين المالية العامة” وكبح جماح التضخم، وهي مواقف تقليدية صريحة. لكن هناك بعد ذلك التزام مثير للاهتمام: أن توسع الأرجنتين الصادرات وتجذب الاستثمار الأجنبي المباشر “لتمهيد الطريق لعودة الدخول في نهاية المطاف إلى أسواق رأس المال الدولية”. ويبدو أن الحكومة حريصة على استخدام أي منصة ممكنة للعودة إلى الوضع الراهن المتمثل في الاندماج في السوق الرأسمالية للتمويل الذي تهيمن عليه وول ستريت وستي اوف لندن؛ وذلك بدلاً من استغلال الفرصة التي تتيحها مقايضات العملات في مبادرة الحزام والطريق لتطوير أجندتها الوطنية والإقليمية الخاصة.
أعلنت لجنة دائني الديون الداخلية (CADI) في 12 أبريل/نيسان 2022 أن شعب الأرجنتين يرفض تحمل عبء ديون صندوق النقد الدولي، فلا ينبغي للناس أن يدفعوا بيزو واحداً: أولئك الذين استحوذوا على المليارات التي اقترضها ماكري من صندوق النقد الدولي يجب أن يكونوا هم من يدفعون الثمن. ويجب تعليق قوانين السرية المصرفية من أجل وضع قائمة بأولئك الذين أخذوا تلك الأموال وأخفوها في الملاذات الضريبية. إن هاشتاغ حملة اللجنة هو #LaDeudaEsConElPueblo – الدين مع الناس، ينبغي دفعه للناس، لا أن يؤخذ منهم.
وكما كتب الشاعر الأرجنتيني خوان جيلمان (1930-2014) في عهد المجلس العسكري: “هذه أوقات مظلمة مليئة بالنور”، فإن هذه العبارة لها صدى حتى الآن:
الأوقات المظلمة مليئة بالنور
الشمس تصب ضوءها على المدينة
التي مزقتها صفارات الإنذار المفاجئة، والشرطة أثناء المطاردة
يحل الليل ونمارس الحب تحت هذا السقف
حارب جيلمان الشيوعي الديكتاتورية التي قتلت ابنه وزوجة ابنه وألحقت أضراراً في جوهر بلاده. حتى الأوقات المظلمة، كما كتب، تيمناً بمقولة بريشت، مليئة بالنور.
هذه لحظات صعبة في تاريخ العالم، لكن حتى الآن لا تزال هناك إمكانيات، ولا يزال هناك أشخاص متجمعين في شوارع بوينس آيرس وروزاريو ولا بلاتا وقرطبة.. شعارهم واضح: لا للاتفاق مع صندوق النقد الدولي، لكن سياساتهم ليست مجرد سياسة “لا”؛ إنها أيضاً سياسة “نعم”، نعم للاستفادة من الفرص الجديدة لتشكيل أجندة لرفاهية الشعب الأرجنتيني.. نعم، أيضاً نعم.
*نشرت هذه المراسلة في موقع معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في 21 نيسان/ أبريل 2022.