المراسلة 19: أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح

مشاركة المقال

معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي/ مدار: 11 حزيران/ يونيو 2021

فيجاي براشاد

تايغر تاتيشي (اليابان)، ساموراي المراقب، 1965

 

إن القبح هو ما يسم عنف الدولة من كالي (كولومبيا) إلى دوربان (جنوب إفريقيا)، وكل سياق يختلف عن الآخر، وعمق العنف يرتبط بكل موقع. أصبحت صور قوات الأمن وهي تقمع الأشخاص الذين يحاولون التعبير عن حقوقهم السياسية منتشرة. إنه لمن المستحيل تتبع الأحداث التي تنتقل بسرعة من التظاهرات العامة إلى مشاهد من قاعات المحاكم، ومن دخان الغاز المسيل للدموع إلى الإحباط غير المرئي في زنزانة السجن. ومع ذلك يكمن إحساس بالرفض وراء هذه الأحداث ووسط مجموعة المشاعر التي تشكلها، وهو الرفض الكبير، رفض قبول الشروط التي يمليها من هم في السلطة، ورفض التعبير عن هذه المعارضة بعبارات مهذبة. 

مديرة الأوركسترا سوزانا بوريال (ميديلين، كولومبيا)  لن يُهزم الشعب الموحد أبداً، 5 مايو/ أيار 2021.

قررت حكومة كولومبيا تمرير قانون يسمى على نحو غريب قانون التضامن المستدام (Ley de SolidaridadSostenible)، نقل التكلفة المالية للوباء إلى كاهل السكان، الذين كان رد فعلهم – كما هو متوقع – الغضب. وردت الحكومة الكولومبية بعنف كبير في مواجهة إضراب وطني في 28-29 أبريل، كما تفعل في غالب الأحيان، بما في ذلك حشدها ما تمت تسميتها بشكل خطير السرية المتنقلة لمكافحة الشغب (ESMAD). لقد جاء أولئك الذين في الشوارع بالغضب والموسيقى، وتوحدت ردود الفعل مجتمعة في كراهية رئيس الحكومة إيفان دوك. 

لا بد أن الأوليغارشية الكولومبية الراسخة، التي نشرت العنف للحفاظ على سلطتها، ارتعدت عندما رأت المتظاهرين في كالي يهدمون تمثال الفاتح سيباستيان دي بيلالكازار. يشير هذا الفعل إلى أن المتظاهرين لن يكتفوا بإبطال القانون المقترح فحسب، بل يريدون قلب التسلسل الهرمي الصارم الذي يحكم مجتمعهم. إن دوك لا يرى المتظاهرين كمواطنين، بل هم بالنسبة له “مخربين”؛ فلا عجب أنه أطلق العنان لأقبح أعمال العنف، إذ واجهت بوغوتا وكالي وميديلين وطأة الهجوم. ورغم مناشدات عمدة بوغوتا (كلوديا لوبيز) وعمدة ميديلين (دانيل كونتيرو) إلا أن عنف الدولة هذا استمر، وأضحت ساحة “المعركة” في الشوارع الكولومبية تشبه تلك التي في العراق، على حد تعبير صديق كولومبي غطى الحروب في غرب آسيا. 

ديفيد كولواني (جنوب إفريقيا)، ثور في المدينة، 2016

 

مثل العراق، أو مثل “إسرائيل”، التي صنفتها منظمة هيومن رايتس ووتش مؤخراً على أنها دولة أبرتهايد. إن أبرتهايد كلمة باللغة الأفريكانية تعني “الفصل” لإبقاء البيض بعيداً عن الآخرين، أو لإبقاء المواطنين اليهود في حالة إسرائيل بعيداً عن السكان الفلسطينيين. لقد جاء تقرير هيومن رايتس ووتش في أعقاب العديد من التقارير الأخرى الصادرة عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، التي استخدمت كلمة “أبرتهايد” لوصف سياسات إسرائيل العنصرية اتجاه الشعب الفلسطيني..تقول هيومن رايتس ووتش، التي استغرقت وقتاً للتوصل إلى هذه النتائج الأساسية البسيطة، إن إسرائيل تحرم الفلسطينيين بقسوة من الحق في الحياة، مشيرة إلى أن “هذا الحرمان شديد إلى درجة ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، كالفصل العنصري والاضطهاد”. 

ويشير الارتباط بين مصطلحي “الفصل العنصري” و”الجرائم ضد الإنسانية” إلى قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الصادر في ديسمبر 1966، الذي أدان “سياسات الفصل العنصري لحكومة جنوب إفريقيا باعتبارها جريمة ضد الإنسانية”.  

وصف مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في 1984 الأبرتهايد بـ”النظام الذي يتصف بكونه جريمة ضد الإنسانية”. وتم تكريس مصطلح “جريمة ضد الإنسانية” لاحقاً في المادة 7 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية (1998). بالتالي ليس من قبيل المصادفة أن المدعية الرئيسية في المحكمة الجنائية الدولية، فاتو بنسودة، قالت في 3 مارس/ آذار 2021 إن المحكمة الجنائية الدولية ستفتح تحقيقاً في الجرائم التي ارتكبتها إسرائيل منذ عام 2014، لكن الأخيرة رفضت التعاون مع المحكمة الجنائية الدولية. 

وقررت المحاكم الإسرائيلية طرد ست عائلات من حي الشيخ جراح الفلسطيني في القدس الشرقية، وهي منطقة يقطنها ثلاثة آلاف نسمة – رغم عدم وجود سلطة قضائية للمحاكم الإسرائيلية في الأراضي المحتلة. لقد استولت إسرائيل عام 1967 على القدس الشرقية، التي تشكل جزءاً من الأراضي الفلسطينية المحتلة. وينص قرار الأمم المتحدة رقم 242 (1967) على أن القوة المحتلة، أي إسرائيل، يجب أن تحترم السيادة والاستقلال السياسي و”حرمة الأراضي” لكل دولة في المنطقة.

عام 1972، حرض المستوطنون الإسرائيليون المحاكم الإسرائيلية على طرد آلاف الفلسطينيين الذين يعيشون في منطقة الشيخ جراح، وهي عملية يقاومها الفلسطينيون منذ خمسين عاماً. وتصاعد العنف الوقح لشرطة الحدود الإسرائيلية (Magav)، مع دخول جنود إسرائيليين مدججين بالسلاح إلى المسجد الأقصى في القدس في 7 مايو/ أيار، في مشهد يحاكي عنف السرية المتنقلة لمكافحة الشغب الكولومبية. 

ويترافق القمع الرهيب مع استمرار محاولة نزع الشرعية عن أي مشروع سياسي للشعب الفلسطيني. وتقوم إسرائيل في كل مرة ينتفض فيها الفلسطينيون بنعتهم بالإرهابيين. إن هذا يعكس الطريقة التي وصفت بها حكومة الفصل العنصري في جنوب إفريقيا وحلفاؤها الغربيون المؤتمر الوطني الإفريقي خلال ذروة النضال ضد الفصل العنصري.

عام 1994، تولى تحالف المؤتمر الوطني الإفريقي السلطة في دولة جنوب إفريقيا، وبدأ عملية طويلة الأمد لتفكيك الهياكل الراسخة لعدم المساواة والفصل العنصري؛ الأمر الذي سيستغرق أجيالاً من المقاومة للتراجع عما تم تكريسه بالقوة خلال العقود الماضية.

نشر معهد القارات الثلاث للبحث الاجتماعي في أغسطس\آب 2020 ملفاً بعنوان “سياسة الدم: القمع السياسي في جنوب إفريقيا”، وكنا اقتبسنا في بداية النص من كتاب فرانز فانون معذبو الأرض (1961) الذي استخدم عدة مرات عبارة “عدم القدرة” للإشارة إلى الطبقات الحاكمة للدول الجديدة التي نشأت من رحم الاستعمار.

 كتب فانون أن الطبقة الحاكمة تكون غير قادرة على فهم الحراك الشعبي المتمثل في تشكيل الناس منظماتهم الخاصة وتطوير مطالبهم لأشكال تشاركية من الديمقراطية باعتباره فعلاً عقلانياً؛ بل إنها ترى هذا الفعل الشعبي تهديداً لحكمها. إن مثل هذا الموقف هو ما يحكم الأوليغارشية الكولومبية وطبقة الأبرتهايد الإسرائيلي. يسم هذا أيضاً الطبقة الحاكمة في جنوب إفريقيا، التي لا تستطيع أدواتها السياسية أن تجد مجالاً يسمح بنمو التنظيم السياسي للطبقة العاملة في تلك البلاد. 

دانغ شوان هوا (فيتنام)، العائلة الحمراء، 2008

 

في 4 مايو/ أيار 2021 اعتقلت السلطات مكافيلي جورج بونونو، نائب رئيس حركة سكان الأكواخ (أو حركة سكان موجوندولو) في جنوب إفريقيا، واتهمته بـ “التآمر لارتكاب جريمة قتل”. وقد واجهت الحركة القمع منذ تأسيسها في العام 2005، وهي الحركة التي تنظم احتلال الأراضي والنضالات السكنية بقيادة سكان الأكواخ و82 ألف عضو. وكنا أجرينا في إحدى ملفاتنا مقابلة في 2018 مع زعيم الحركة سبو زيكود، التي قال فيها: 

“أصبحت السياسية وسيلة للثراء، وأصبح الناس على استعداد للقتل أو فعل أي شيء ليصبحوا أثرياء ويبقوا أثرياء. نحن ننتقل من جنازة إلى أخرى. ندفن رفاقنا بالكرامة التي حرموا منها في حياتهم. لا يستطيع العديد من بعض رفاقنا النوم في منازلهم أو مغادرتها عند حلول الظلام في ما يسمى جنوب إفريقيا الديمقراطية ما بعد الابرتهايد. إن القمع يأتي على موجات”. 

ليس بونو سوى آخر أعضاء حركة سكان الأكواخ الذين واجهوا القمع السياسي، فالنشطاء الشجعان من أقصى الأرض إلى أقصاها يواجهون الترهيب والقتل لبناء منظمات تناضل ضد الواقع الحاضر. نجم عن هذا القمع مؤخراً قتل الشرطة الفنان نيكولاس غيريرو في كالي (كولومبيا) والاغتيال السياسي لكاكالي خيترابال من الحزب الشيوعي الهندي (الماركسي) من نابغرام شرق بوردوان (غرب البنغال، الهند). قُتل غيريرو في الشوارع خلال الساعات الأولى من موجة الاحتجاجات هذه، بينما قُتل خيترابال بواسطة أعضاء من الحزب الذي فاز في الانتخابات التشريعية في ولاية البنغال الغربية.

 إن هذا تطهير أو قتل سياسي.. قتل النشطاء الذين أدت وفاتهم إلى تقويض ثقة الجماهير في السلطة. إن القتلة يشحذون سيوفهم في الظل، ويأخذون أوامرهم من الهواتف المحمولة التي يمكنها الاتصال بمنازل الأقوياء. 

فرناندو برايس (بيرو)، بدون عنوان (الجثث الذرية) ، 2018.

قبيح هو هذا الاستخدام للقوة، وهذا القتل مع الإفلات من العقاب. في 6 مايو/ أيار اقتحمت سرايا الدولة عشوائية جاكاريزينيو في ريو دي جانيرو في البرازيل وفتحت النار، وقتلت ما لا يقل عن 25 شخصا ظهروا مستسلمين قبل أن تشتعل البنادق. ودعت الأمم المتحدة إلى فتح تحقيق، لكن المسألة لن تمضي قدماً.. لقد ألغى دستور البرازيل لعام 1988 عقوبة الإعدام، لكن الأدلة تشير إلى أن الشرطة تعتقد أن ساكني العشوائيات أو الأحياء الفقيرة يستحقون عقوبة الإعدام دون محاكمات.

معين بسيسو(1926-1984)

 

أي زمنٍ هذا الذي يكون فيه القمع السياسي بدون غضب كافٍ؟ لقد نظم معين بسيسو أغاني لإيقاظ رفاقه الفلسطينيين في غزة التي يخنقها الفصل العنصري الإسرائيلي. وقد وجد عزاءه في القصيدة المعركة الملحمية التي يقول فيها: 

أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح

وانظر إلى شفتيّ أطبقتـا عـلى هـوج الريـاح 

أنا لم أمت! أنا لم أزل أدعوك من خلف الجراح

واقرع طبولك يستجب لك كل شعبك للقتال

يا أيها الموتى أفيقوا: إن عهد الموت زال

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة