“أزمة الغواصات”..الولايات المتحدة تفتح العالم على “مزاد الحرائق” بخرق معاهدة انتشار السلاح النووي

مشاركة المقال

مدار: 20 أيلول/ سبتمبر 2021

أعلنت الولايات المتحدة عن شراكة عسكرية وأمنية إستراتيجية مع أستراليا والمملكة المتحدة، تخص منطقة المحيطين الهندي والهادي، وتشير كل عناصرها إلى أنها موجهة ضد الصين، وتضم تمكين كانبيرا من غواصات نووية، ما يهدد السلم والأمن الدوليين، ويضع ركائز مستوى جديد من حرب واشنطن على بكين. التفاصيل..

صورة: الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن يعلن عن شراكة “أوكوس”، أ ف ب.

وخلال مؤتمر رقمي استضافه الرئيس الأمريكي جوزيف بايدن، الأربعاء الماضي، وشارك فيه رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، قال رئيس الوزراء الأسترالي سكوت موريسون إن “أول مبادرة كبيرة في إطار شراكة ‘أوكوس’ [AUKUS] ستكون حصول أستراليا على أسطول من غواصات تعمل بالدفع النووي”.

وكانت الصفقة موضوع عقد بين باريس وكانبيرا تم التحضير له منذ 2016، فكان من المفترض أن تزود فرنسا أستراليا بـ 12 غواصة من طراز “أتّاك”، تشتغل بالطاقة التقليدية، مقابل 56 مليار مليار يورو، غير أن الولايات المتحدة وبريطانيا التي انسحبت حديثا من الاتحاد الأوروبي بعثرا أوراق الصناعة العسكرية الفرنسية.

وبموجب شراكة “أوكوس” ستحصل أستراليا على ثماني غواصات على الأقل، تشتغل على الطاقة النووية، وهي المرة الأولى التي تشارك فيها بريطانيا هكذا تقنية حساسة مع دولة أخرى، وتشكل خطوة غير مسبوقة منذ زمن طويل من طرف الولايات المتحدة، التي شاركت هكذا تقنيات مع بريطانيا لوحدها سنة 1958.

وتبلغ قيمة الصفقة الجديدة ما يناهز 90 مليار دولار أمريكي.

وينص الاتفاق الثلاثي على تكثيف الجهود في مجال الذكاء الاصطناعي وتقنيات الكوانتم والقدرات السيبرانية.

واعتبر قسم واسع من الإعلام الأسترالي أن الأمر يتعلق بأهم اتفاقية دفاعية منذ الحرب العالمية الثانية، مبرزا أنها تهدف إلى مواجهة الصين كقوة عظمى.

وفي ردود الفعل الأولى بدت فرنسا غاضبة جدا من الدول الثلاث، ووصل الأمر بباريس إلى استدعاء سفيريها لدى كانبيرا وواشنطن “قصد التشاور”. وقبل ذلك، اعتبر وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أن “هذا القرار الأحادي والمفاجئ وغير المتوقع يشبه كثيراً ما كان يفعله السيّد ترامب”. ووصف السفير الفرنسي لدى أستراليا، في حديثه لصحيفة “ذي صنداي مورنينغ هيرالد” الأسترالية، قبيل استدعائه، تراجع أستراليا عن الصفقة بأنه “طعنة في الظهر”.

وأبدت الصين انزعاجها الشديد من خطوة العواصم الثلاث، إذ قال المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية، تشاو ليجيان، أثناء إدلائه بإحاطة إعلامية، إن “التعاون بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا في مجال الغواصات النووية يزعزع بشكل خطير السلام والاستقرار الإقليميين، ويكثّف سباق التسلح ويقوّض الجهود الدولية باتجاه إزالة انتشار الأسلحة النووية”.

وإذا كان المسؤولون الثلاثة تجنبوا الإشارة إلى أن هذه الصفقة والحلف الجديدين يستهدفان الصين بالتحديد، فإن المعطيات تبوح بعكس ذلك؛ كما أنها الخطوة العسكرية الأكبر لبريطانيا منذ انسحابها من الاتحاد الأوروبي، ما يمكن أن يفهم منه أن لندن أعادت إعلان نفسها طرفا يصعب الاستغناء عنه من طرف واشنطن، على عكس باريس التي بدا كبرياؤها محطما، ليس بسبب الدلالات الدبلوماسية لانسحاب أستراليا من الصفقة فحسب، بل لقيمتها المادية الكبيرة، التي اعتبرت في الأوساط الفرنسية “صفقة القرن” في المجمع الصناعي العسكري الفرنسي المهزوز.

الصفقة تهدد السلم والأمن الدوليين

ومن المعروف أن أستراليا لا تنتمي إلى نادي البلدان النووية، لكن هذه الصفقة توفر لها إمكانية التوفر على غواصات تشتغل على الطاقة النووية، بالإضافة إلى قدرتها على حمل أسلحة الدمار الشامل، والنووية منها تحديدا؛ ناهيك عما يترافق مع الصفقة من تزويد واشنطن ولندن لكانبيرا بالتقنيات والمعلومات ذات الطبيعة الحساسة في هذا الصدد.

صورة: غواصة نووية أمريكية من نوع كولومبيا (سي)، البحرية الأمريكية.

ومن المعلوم أن ست دول في العالم فقط تتوفر على غواصات نووية؛ ويتعلق الأمر بالصين، والولايات المتحدة، وروسيا، والمملكة المتحدة، والهند، وفرنسا؛ وهي جميعها تنتمي إلى الدول المالكة للسلاح النووي، ما يبرز أن امتلاك الغواصات النووية مرتبط بوثوق بامتلاك الأسلحة النووية أيضا.

وفي هذا السياق، اعتبر غوو شوبينغ، مدير مركز دراسات الحد من التسلح في المعهد الصيني للعلاقات الدولية المعاصرة، أن الغواصات النووية ليست سلاحا بحد ذاتها إلا أن شراكة “أوكوس” من شأنها أن تؤدي إلى انتشار حاملات أسلحة الدمار الشامل عبر العالم، وقد تؤدي أيضا إلى انتشار المواد الانشطارية التي يمكن استخدامها لصنع الأسلحة النووية.

وتنص معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية على أن “تتعهد كل دولة من الدول غير الحائزة لأسلحة نووية الأطراف في هذه المعاهدة بألا تقبل من أي ناقل كان أي نقل لأسلحة نووية أو أجهزة متفجرة نووية أخرى أو سيطرة مباشرة أو غير مباشرة على أسلحة أو أجهزة كتلك؛ وألا تصنع أسلحة نووية أو أجهزة متفجرة نووية أخرى، وألا تقتنيها بأي طريقة أخرى؛ وألا تلتمس أو تتلقى أي مساعدة من أجل صنع أسلحة نووية أو أجهزة متفجرة نووية أخرى”. كما “تتعهد كل دولة طرف في المعاهدة بألا تقدم (أ) مواد مصدرية أو مواد انشطارية خاصة؛ (ب) أو أي معدات أو مواد معدة أو مهيأة خصيصا لمعالجة أو استخدام أو إنتاج المواد الانشطارية الخاصة، إلى أي دولة غير حائزة لأسلحة نووية لتستخدمها في أغراض سلمية، إلا إذا كانت تلك المواد المصدرية أو المواد الانشطارية الخاصة خاضعة للضمانات المطلوبة”، وفق نص المعاهدة.

واعتبر شوبينغ في عمود على صحيفة “غلوبال تايمز” أن الشراكة بين المملكة المتحدة والولايات المتحدة وأستراليا قد تؤدي إلى انتشار تكنولوجيا تخصيب اليورانيوم.

ومن المحتمل جدا أن تؤثر شراكة “أوكوس” سلبًا على النظام الدولي لعدم انتشار الأسلحة النووية، فنظرًا لأن أستراليا يمكن أن تحصل علنًا على مواد نووية من خلال تطوير غواصات تعمل بالطاقة النووية، فقد تحذو الدول الأخرى غير الحائزة للأسلحة النووية حذوها، ما يؤدي إلى مخاطر لا تنتهي من الانتشار النووي على كوكبنا. لذلك وصف جيمس أكتون، المدير المشارك لبرنامج السياسة النووية في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي (وهي مركز تفكير إستراتيجي مقرب من الكونغرس الأمريكي:ndlr)، الإجراء الأخير للدول الثلاث بأنه “سابقة مروعة”، وفق المصدر نفسه.

أما الجانب الآخر “المروع” من هذه الصفقة فهو أنها تطرح بشكل كبير تهديد اشتعال سباق تسلح إقليمي آخر. وقال غوو شوبينغ إن “سجل كانبيرا للسلام في منطقة المحيطين الهندي والهادي لا تشوبه شائبة”، مضيفا: “شاركت قوات أسترالية في حروب ظالمة على دول مثل كوريا وفيتنام وأفغانستان؛ وبالتالي فإن تعزيز القدرات الهجومية تحت الماء لأستراليا ليس أخبارًا جيدة لجيرانها الذين قد يُجبرون على الدخول في حلقة مفرغة من سباق التسلح لحماية أمنهم القومي”.

السيادة الأسترالية في مهب الريح

لم تقتصر ردود الفعل من الصفقة على الأوساط الدولية فحسب، بل لقيت اعتراضا شديدا من الداخل الأسترالي، واعتبرت صفقة صدامية واستفزازية موجهة ضد الصين، كما تعرض الأستراليين لمخاطر اقتصادية وأمنية أكبر وتعكس فقدان أستراليا استقلالها.

وحين يتعلق الأمر بمضمون هذه الشراكة الثلاثية فإنها “تثبت مرة أخرى أنه بإمكان واشنطن الاعتماد على كانبيرا للرد بشكل إيجابي على مغامراتها العسكرية والدبلوماسية واستعراض عضلاتها”، وفق ما كتبه غريغ بارنز، المتحدث باسم طالبي اللجوء والعدالة الجنائية وحقوق الإنسان في تحالف المحامين الأسترالي، في مقال تحليلي مطول على صحيفة “ساوث تشاينا مورنينغ بوست“.

 وأبرز الناشط في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أنه “عندما يتعلق الأمر بالمصالح المباشرة لأستراليا، على عكس مصالح تحالفاتها التاريخية والعميقة مع الولايات المتحدة وبريطانيا، فإن التوقيع على إستراتيجية تصادمية واستفزازية لاحتواء الصين أمر خطير بطبيعته ويعكس فقدان المزيد من الاستقلال لهذه الأمة، في منطقة آسيا والمحيط الهادئ”.

وقال بول كيتنغ، رئيس وزراء أستراليا في الفترة من 1991 إلى 1996، في بيان أدان فيه الاتفاق إنه “سيكون بمثابة تقييد للمعدات العسكرية الأسترالية، وبالتالي القوات، مع تلك الخاصة بالولايات المتحدة، بهدف أساسي واحد فقط: القدرة على العمل بشكل جماعي في أي اشتباك عسكري من قبل الولايات المتحدة ضد الصين”.

صورة: بول كيتنغ، رئيس الوزراء الاسترالي السابق، نيوز كورب أستراليا.

 وزاد كيتنغ أن “هذا الاتفاق سيشهد على المزيد من الخسارة الدراماتيكية للسيادة الأسترالية، إذ إن الاعتماد المادي على الولايات المتحدة سلب أستراليا أي حرية أو اختيار في أي مشاركة قد تراها أستراليا مناسبة”.

وتشير الأرقام، إلى أنه ليس من صالح أستراليا أن تدخل في صدام مع الصين، فهذه الأخيرة تستحوذ على أزيد من ثلاثين بالمائة من الصادرات الأسترالية إلى الخارجية. وحسب تقرير لشبكة “سي إن بي سي“، صدر أواخر سنة 2020، فإن أستراليا واحدة من الدول المتقدمة القليلة على وجه الأرض التي تصدر إلى الصين أكثر مما تستورده منها. وفي السنة المالية 2018-2019، استحوذت الصين على حوالي 32.6 بالمائة من إجمالي الصادرات الأسترالية، أي حوالي 116.79 مليار دولار أمريكي، في حين كان الحديد الخام أكبر الصادرات.

الهجوم الأمريكي على الصين يتصاعد

كان الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب من أعطى المواجهة مع الصين طابعها الصريح والحاد، ولذلك باشر سلسلة من الإجراءات والعقوبات الاقتصادية والمالية التي كانت تهدف إلى الحد من القدرات الاقتصادية والسياسية للصين.

ومع تولي جوزيف بايدن السلطة في واشنطن، كانت بعض الآمال الزائفة معقودة على مراجعة الإدارة الجديدة سياستها تجاه بكين، لكن الإجراءات الجديدة تكشف أن حجم الهجوم الأمريكي على الصين في تصاعد، واتخذ الآن أبعادا عسكرية نووية.

وفي السياق نفسه، جاء في وثيقة مشروع ميزانية بايدن للسنة المالية المقبلة الخاصة بالدفاع أن الرئيس الأمريكي يطلب من الكونغرس التصديق على منحه 715 مليار دولار أمريكي، بزيادة 1.6 بالمائة عن هذه السنة.

ويبرر البيت الأبيض طلبه هذا بضرورة مجابهة الصين التي تشكل “التحدي الأكبر” للولايات المتحدة.

صورة: لقطة شاشة من محور ‘مبادرة الردع في المحيط الهادي’، مشروع ميزانية الدفاع لسنة 2022، الولايات المتحدة، مكتب وزارة الدفاع، مدار.

ويتضمن مشروع الميزانية تأييدا لطلب قائد القيادة الأمريكية في المحيطين الهندي والهادي، الأدميرال فيليب ديفيدسون، للحصول على 4.7 مليارات دولار، لـ “مبادرة الردع في المحيط الهادي”، التي ستزيد من القدرات العسكرية الأمريكية في غوام والمنطقة المحيطة بها. كما تطلب قيادة المحيطين الهندي والهادي 27 مليار دولار من أجل تغطية نفقات إضافية بين عامي 2022 و2027 لبناء شبكة من الصواريخ الدقيقة على طول الجزر المحيطة ببكين.

وتصاعدت خلال السنوات الأخيرة حدة الهجوم الغربي الإعلامي، العسكري، السياسي، الاقتصادي.. على الصين، بينما حافظت هذه الأخيرة على مستويات نمو اقتصادي كبيرة، وأصبحت على مسافة قريبة من إسقاط الولايات المتحدة من على قمة هرم الاقتصاد العالمي، ما دفع العديد من المحللين يتوقعون ولادة نظام دولي جديد، ينهي الهيمنة الأمريكية على العالم؛ وإذا كان ذلك مرجحا فإن المؤشرات توحي بأن واشنطن مستعدة لإعلان “مزاد الحرائق” على أن تقبل السقوط بهدوء..

مشاركة المقال

مقالات ذات صلة